تابعنا على

مِنْظ ... نار

مولدي الهمامي: مرّة أخرى… الإعلام العمومي

نشرت

في

شاهدت منذ أيّام على القناة الوطنية الأولى حوارا شيّقا في برنامج للزميل الصحفي إيهاب الشاوش لا أعلم لماذا إختاروا له اسما باللغة الأنقليزية monitoring والحال أنّ لغتنا العربية تغنينا بما فيه الكفاية وزيادة عن استعمال مثل هذه العبارات التي لا تشير لا من قريب أو بعيد إلى انفتاح على اللغات والحضارات الأخرى، علاوة على أنّها لا تعبّر عن جزء أساسي من هويّتنا وهي لغتنا العربيّة.

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
<strong>مولدي الهمامي<strong>

ليس هذا هو موضوع ما أردت الخوض فيه … لقد تطرّق الحوار في جزء منه إلى موضوع الإعلام التقليدي في علاقته بالشباب، وانطلق الحوار من نتيجة استطلاع للرأي يفيد أن 95 بالمائة من المصوّتين رأوا أنّ الإعلام التقليدي لم يعتن بما فيه الكفاية بالشباب بل ساهم في تهميشه. ومن الإعلام التقليدي لا يمكن لي إلاّ الحديث عن الإعلام العمومي وبالتحديد إذاعة الشباب ورسالتها ومضامين برامجها في علاقتها بالشباب. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إذاعة الشباب كما ذكرت الزميلة هندة العسكري الحاضرة عنها ما هي إلاّ حلقة من سلسلة طويلة نجد فيها المؤسّسات الحكوميّة والجمعيّات والمنظّمات وغيرها، وهي مطالبة وفي الجهد الأدنى بالتنسيق في ما بينها للإحاطة أكثر بهذه الفئة من التونسيين التي لها متطلّبات وتطلّعات خاصّة بها.

سأذهب بعيدا في تناول هذا الموضوع لأشير إلى أنه وخلال العشر سنوات التي مضت ظهرت في المجتمع إذاعات وتلفزات أطلّت علينا بمحتوى وأسلوب كانا بمثابة المنعرج الذي أثّر في سلوكنا حتى لا أتحدّث عن فئة معيّنة وفي أسباب رفضنا وقبولنا لأمر ما، جاءت بأشكال يغلب عليها الإغراء المادّي والهجين من التعبير اللّغوي وحوّلت أحلامنا في النجاح والتميّز والاعتماد على الذّات والأكل من عرق الجبين إلى رغبة جامحة في ربح السيّارة والملايين من الملّيمات والسفرات إلى الخارج فقط بمجرّد رسالة SMS  تطوي بنا الزمان طيّا وتغنينا عن العمل في حقولنا وبحارنا وتجعلنا لا نرضى بأن نصرف الوقت في إتقان صنائع كالنجارة والحدادة والنسيج  انطلاقا من فكرة تعتبر من أسوأ ما يفكّر فيه الإنسان وهي لماذا كل هذا التعب وهدر الوقت والحال أن رسالة SMS وحيدة قد نجد معها حلاّ لكلّ مشاغلنا، ولماذا كل هذا الإرهاق والحال أنّ مشاركتنا في برنامج مسابقات وألعاب ولا يهمّ الصورة التي نظهر بها أمام أعين كل التونسيين ستجعل النتيجة في الأخير هي الفوز بالجائزة الكبرى.

وكأن هذا لم يكن كافيا فشاهدنا واستمعنا إلى شتّى أنواع العراك والتشابك بالأيدي والشتائم والحديث عن خصوصيات الاشخاص وأسرارهم والإمعان في إطار ما يعرف بتلفزيون الواقع في تسويق بكاء اليائسين والمظلومين من الأهل والمجتمع والذين يعانون من الأمراض والأولياء الذين يعانون من عقوق أبنائهم والأبناء الذين يعانون من بطش والديهم والمرأة المسنّة التي ألقى بها أبناؤها في مآوي العجّز…الخ. كل هذا يحدث أمامنا ونسينا أن الكلمة السيئة التي تخرج من المصدح والصورة المهينة التي تظهر على الشاشة إنما هي مساهم وبعنف في رسم رأي عام مغاير للواقع بالنسبة إلى الكثير من الفئات الهشّة والتي منها الشباب. 

في كتابه المثير “حول التلفزيون”  ( Sur la télévision ) كتب عالم الاجتماع الشهير الفرنسي “بيار بورديو” في إشارة عامّة إلى المضامين التي أصبحت طاغية في المشهد التلفزي والتي جلبنا منها الكثير إلى مجتمعنا دون التفكير في النتائج والمخلّفات وأقتبس  “إن ما يتم عرضه على التلفزيون يتميّز بمحتواه الضعيف من خلال التطرّق بالاعتماد على الإثارة إلى مواضيع لا تتطلّب الكثير من التفكير وتنشر الجهل عوضا عن تنمية معارف الجمهور وتهدف بصفة أساسيّة إلى جذب أكبر عدد من المشاهدين ومثل هذا المحتوى يساعد على التصدّع الاجتماعي بل يعتبر خطرا على الديمقراطيّة”.

وعبارة التصدّع الاجتماعي تحمل في طيّاتها أكثر من معنى وتحتمل أكثر من تأويل ولعلّ من بينها ما يعتبر الهوّة التي تفصل الإعلام التقليدي عن الشباب، وهي هوّة في تقديري افتراضية فرضتها سنوات من التعبئة المجانبة  للصواب، في أتّونها وضعنا جانبا القيم الخالدة مثل المواطنة والنجاح والارتقاء وحب العمل ونبذ التواكل والتوق إلى العلم وتنمية المهارات وبسببها غيّرنا اتجاه البوصلة ولم نعد نجعل من المربّي والأستاذ والطبيب والمحامي والمهندس والمبدع والمثقّف والكاتب والشاعر والمسرحي وغيرهم ممن يصنعون جمال هذا الوطن نماذج بها نقتدي ومنها نتعلّم.

فنحن اليوم لا أقول في مفترق الطرق بل وعلى قدر ضيق الوقت أمامنا كلّ الفرص للتعديل والمراجعة وتصحيح المسارات وعندما تعود للمدرسة مكانتها وللثقافة دورها ويجمع الإعلام بشتّى أنواعه بين الإخبار والتثقيف والترفيه في نسب متقاربة عندها يمكن أن نقول أن قيمنا عادت إلينا مع يقين بأن كل المظاهر السلبيّة ستزول تدريجيّا لأن الفعل الخير لم يعد يترك لها مجالا أو فضاء ترتاح وتستقرّ فيه.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مِنْظ ... نار

عندما يعتذر مجرم سفّاح … من يصدّقه؟

نشرت

في

النصب التذكاري لضحايا الإبادة الألمانية في ناميبيا

يعرف العالم الغربي عندنا بأنّه عالم متقدّم ينعم بالديمقراطيّة وبالرفاه ويحقق نسب نموّ عالية، ويعود الفضل إليه في الكثير من الاختراعات والإنجازات التي استفادت منها البشرية جمعاء،

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
<strong>مولدي الهمامي<strong>

وهو قبلة لكل الباحثين عن حياة أفضل، ولكلّ الهاربين من الفقر والظلم والقهر، ويجازف الآلاف بأرواحهم من أجل الوصول إليه، ويسافر إليه الآلاف من شباب العالم النامي لمواصلة دراساتهم العليا في جامعاته العريقة، وهو في الأغلب سفر بتذكرة ذهاب فقط ، إذ هم محط أنظار الشركات والمؤسّسات هناك للإستفادة من علمهم ونبوغهم… كما يسافر إلى الغرب الأثرياء والرؤساء والملوك للتداوي في مستشفياته ومصحّاته التي تتوفّر فيها أحدث تكنولوجيا الفحص والتشخيص والعلاج…

في الغرب، الشوارع نظيفة وواسعة ووسائل النقل بأنواعها توضع على ذمّة المواطنين، وتكثر المنتزهات والملاهي والمقاهي ودور السينما والمسارح، ويزدهر النشر وطباعة الكتب والمجلات والصحف، وفي الغرب القانون يسري على الجميع، والجميع يحترم القانون ، هذا هو الغرب الذي نعرف والذي نتخيّله وتلك هي الصورة التي نراها في التلفزات عن الغرب…لكن توجد صورة أخرى وراء الستار فيها من البشاعة ما لا يوصف إنّها صورة الغرب المتوحّش الذي مازال يرزح تحت ذلك الإرث الثقيل والثقيل جدّا إذ لا يستوعبه العقل البشري ولا يرى له سببا…

منذ أيام وفي حركة مفاجئة لأغلبنا تقدّمت ألمانيا الديمقراطية باعتذار رسمي إلى دولة ناميبيا عن الإبادة الجماعية التي نفّذها جنودها فيما بين سنوات 1904 و1908 والتي راح ضحيّتها قرابة 65 ألفا من قبيلة هيريرو وعشرة آلاف من قبيلة ناما وتسلّمت وبالمناسبة دولة ناميبيا جماجم لعدد من ضحايا تلك الإبادة كان الالمان يحتفظون بها في متاحف خاصّة.

وبعيدا عن التسوية التي جرت بين ألمانيا وناميبيا حول هذا الملف فإن الرئيس الفرنسي بدوره وفي حركة مفاجئة هو الآخر أقرّ بمسؤوليّة فرنسا عن الإبادة الجماعية، التي حدثت ضد قبيلة التوتسي سنة 1994.”.ليضيف خلال زيارته إلى رواندا إنّ فرنسا وإن لم يكن لها دور مباشر في عمليّة الإبادة  إلاّ انّها وقفت إلى جانب نظام قاتل وإجرامي في رواندا.. نحن كلنا تخلينا عن مئات الآلاف من الضحايا وتركناهم فريسة لهذه الدائرة الجهنمية”.

ويبدو أن التطهير العرقي وعمليات الإبادة والقتل الجماعي هي ممارسات أوجدها الغرب لبسط سيطرته بصفة كلّية على بلدان دخلها بقوّة السلاح وقهر أهلها من منطلقات عنصرية واستعمارية بحتة…لقد فعلت فرنسا ما فعلت في الجزائر الشقيقة وفي تونس والمغرب، وفي كل البلدان التي استعمرتها إذ عاثت فيها قتلا وترهيبا وجنّدت شبابها عنوة للقتال ضد أعدائها في حروب لم يختاروها وليس لهم بها أي علاقة ، ونهبت خيراتها وبنت مجدها عل كاهل مستعمراتها.

وكذلك فعلت كل البلدان الإستعمارية دون استثناء مثل هولندا وبلجيكا وغيرها، فبريطانيا العظمى حتى وهي تغادر الهند في أواخر الأربعينات من القرن الماضي عمل رئيس وزرائها تشرشل من خلال عملية رسم الحدود على تمزيق وحدة السكان والأراضي وقد جسّد فيلم ” آخر نائب للملك في الهند “ للمخرجة الهندية غورندر شادها الذي أنجز سنة 2017 تلك الحقبة المأساويّة بحرفيّة عالية،

ثمّ لا ننسى إبادة الهنود الحمر أي السكان الأصليين لأمريكا على أيدي البيض الذين سكنوها غصبا، واختطاف الآلاف من الأفارقة  وتسخيرهم كعبيد للعمل في حقول القطن بالجنوب الأمريكي، وكذلك ما جرى في دولة جنوب إفريقيا من ميز عنصري وتنكيل بالسكان الأصليين…  

 هذا الغرب الرسمي الذي بدأ يوزّع اعتذاراته هنا وهناك نجده في المقابل لم يشعر بأي حرج وهو يتحدّث عن أحقيّة الكيان الصهيوني في “الدفاع عن نفسه” ، ولم يجد أي حرج وهو الذي لعب دورا رئيسيا في أصل هذه المأساة من خلال إعطائه لمن لا يستحق ما لا يملك في الإصداع بقول الحق، وغابت عنه الكلمات لإدانة الإبادة الجماعية المتواصلة في حق الشعب الفلسطيني انطلاقا من ذات الدواعي التوسّعيّة الإستعمارية…

ومازلت شعوب عديدة في العالم تنتظر اعتذارا رسميا من الدول المستعمرة قد يساهم في التخفيف من وطأة الماضي الثقيل.. وما الذي يمنع هذا الغرب الذي مازال يدّعي أنّه يعلّمنا أسس الديمقراطية ويدرّسنا مواد حقوق الإنسان من الإعتذار ويكتب صفحة جديدة في التاريخ البشري تعيد شيئا من التوازن إلى العلاقات بين الدول.

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

وطني الذي لم أعد أعرف

نشرت

في

نظرت في كل الاتجاهات وسرت عبر دروب عديدة وامتطيت الهضاب وأسطح البنايات الشاهقة وأعالي الأشجار وتنقّلت بين سائر المدن والقرى والمساكن المتناثرة هنا وهناك، ومشيت في الحقول والوديان وركبت السيارات والحافلات ووسائل النقل بأنواعها وبحثت في كل الثنايا.

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
<strong>مولدي الهمامي<strong>

لم أعد أعرف أمكنة ألفتها حتى صارت هي أنا وأنا هي ولم أتبيّن الوجوه التي تملؤ ذاكرتي بحبّها للحياة وللعمل والبذل، فأين أنت يا وطني الذي أعرف..أين أنت يا وطني الذي ملأت كياني منذ زمن حليب أمي، أين أنت يا وطني الذي علّمتني كيف تعشق الأوطان بنسائمك وأمطارك وسحبك، بشواطئك وبحارك ووديانك، بأناسك الطيّبين هم الجود والكرم الذين حرثوا أرضك وزرعوها بعد أن نزعها الأجداد بالعزم والفداء من المستعمر الغاشم،

أين أنت يا وطني بأعراسك ومواسم أفراحك التي لا تنتهي، أين أنت يا وطنا الطبيعة فيه هبة من الله جعلت فصولنا أربعة، وفي كل فصل تجود الأرض بخيراتها فأين صيفك الذي هو الحياة وفرحتها والسماء وصفاؤها ، والشواطئ وزرقتها ، والسهرات وبهجتها ، أين صيفك يا وطني الذي تفوح منه رائحة السنابل وهي تحصد، والفاكهة وهي تطيب وتقطف، أين خريفك يا وطني خريف السواعد وهي تحرث وتزرع قوت أبنائك.

أين شتاؤك يا وطنا بسحبه وأمطاره والليالي البيض والليالي السود اللّي ينبت فيها كل عود وربيعك الذي كان يكسو أرضك يا وطني بالأقحوان والزهور وشقائق النعمان…

أين أنت يا وطني الذي لفّني في رايته الحمراء وجعل همّتي تسكن مع الأهلّة والنجوم…

أين مدرستي ومعهدي وجامعتي وأساتذتي وأقراني وزملائي … دماء الحياة في شرايينك يا وطني

أين طبرقة بمرجانها ، و نابل بأسواقها وفخارها ،والحمامات بمنتجعها ،وسوسة حيث البحر يعانق زرقة السماء، وصفاقس وزيتها وزيتونها، وقابس ورمّانها وبهاء حنائها، وجربة التي افتتن بها أوليس، وتطاوين وقصورها البربرية، أين واحات في الجريد وقفصة وقبلي معجزة الحياة في قلب الصحراء، أين القيروان وسجّادها، و تستور و مالوفها وجنانها، أين سهول جندوبة وسليانة ومرتفعات الكاف وبحيرتها، وسباسب القصرين وغلة سيدي بوزيد ، أين رائحة الفل والياسمين التي تفوح من مساكننا ومن قلوبنا، أين لياليك الزاهية،  أين أعيادك التي ترفع فيها راياتك لتعانق أشعة الشمس وترفرف في الأفق على مدى البصر، أين أعيادك التي بها نفرح   وأطفالنا …

 لقد أصبحنا يا وطني قطّاع طرق، ومنافقين في حبّك، ونمعن في ذلك ، وبتنا جرادا يأتي على الأخضر واليابس، ونأكل بعضنا وننهش، لقد فصلناك عن أجسادنا فتحوّلت إلى صحراء تتسوّل الماء وأرضا لا تنتج ، ووجها حزينا  حفرته التجاعيد هي أخاديد الفقر والأمراض، وجسدا أنهكته العلل والسنوات العجاف.. جعلناك يا وطني كما وصف أديبنا الكبير محمود المسعدي منحدرا لجبل أخشب غليظ حزيز نباته كالإبر، أرضه ظمأى و سماؤه صفراء و غباره كثيف.

فأين أجدك حتى أسألك كيف الاعتذار يا وطني …؟؟

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

ومن المقامات ما لم يكتبه الهمذاني ولا الحريري!

نشرت

في

حدّثنا أحدهم قال…”كناّ مجموعة من التجّار على رأس قافلة بالسلع حافلة، أدركنا المساء ونحن في قلب الصحراء، فقرّرنا الإستراحة عند مشارف واحة وأنخنا الجمال ووضعنا عنها الأحمال ونصبنا الخيام وأعددنا من الطعام ما حضر وستر وبينما نحن نتسامر وندخّن بعض السجائر، سمعنا صوت خيول قادمة من بعيد وهي تقترب وصهيلها يزيد …

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
<strong>مولدي الهمامي<strong>

فقمنا على عجل نستجلي الخبر، فإذا بكوكبة من الفرسان كأنّهم من نسل الشيطان، وقد استلّوا سيوفهم وهم يصيحون ويرعدون ويزبدون ، فانتابنا خوف شديد وسلّمنا الأمر للحميد المجيد ، فأحاطوا بنا من كل الزوايا وأغلقوا كل الثنايا، فتقدّم زعيمهم هو يفرك العنينين كأنّه لم ينم ملء الجفنين، وصاح ماذا تفعلون ومن أين أنتم آتون ؟؟ فقال أحدنا وأنتم من أنتم ؟؟ قال نحن المهرّبون، فقال صاحبنا وماذا تريدون بالله عليكم فالرفاق حائرون ونحن تجار صغار لا علاقة لنا بالتهريب لا من بعيد ولا من قريب،

“ثم ماذا تهرّبون نخشى أن تكون الممنوعات فيلحقنا الأذى ونحن أبرياء فقال لا تخافوا وضحك ضحكة صفراء وأمر أصحابه بالنزول وفكّ الأحمال عن البغال و الخيول ثم قال هل عندكم طعام  قلنا نعم شيئا من الخبز والزيتون فقال يا لها من عيشة المغبون، وبعد زمن قصير انصرف الجمعان كلّ إلى مكانه لأخذ قسط من الراحة، وأفقنا فجرا فلم نر للجماعة أثرا…فاعددنا العدّة للرحيل، وانطلقنا نحثّ الخطى ونقصّر الطريق بالغناء والإبل تجيبنا بالرغاء، حتى بلغنا ظهرا المدينة، فاستوقفنا العسس عند القنطرة وطلبوا منّا جوازات المرور حتى نتمكّن من العبور، وفرضوا علينا تنبري بدينار وضرورة الإستظهار بالبي سي آر…

فأخرجنا الوثائق  من بين الأحمال بصعوبة وكانت كلّها مضروبة…وبعد زمن قصير دخلنا سوق المدينة وبدت لنا كئيبة حزينة ، وفرشنا البضاعة وبقينا على تلك الحال ساعة أو بعض الساعة …وفجأة سمعنا جلبة ناحية السوق وعرك ومعروك ورأينا الناس في هيجان كأنّهم حجارة بركان يفرّون من المكان كأنّ بهم مسّ من الجان فسألنا أحدهم فقال لنا اهربوا إلى فجّ بعيد إنّه الكوفيد، وإذا برجل أحاط  به رجال الحماية وأدخلوه أقرب بناية وبقينا نحن في أمكنتنا متسمّرين منتظرين تطوّر الأحداث ، ولبسنا الكمّامات، وتركنا بين بعضنا مسافات، ثم كثر الهرج والمرج وهاجت الخلايق وماجت وتحوّلت السوق إلى حلبة نزاع وصراع واختلط الحابل بالنابل وتناثرت الخضر والغلال والأقفاف والسلال، والفراخ  تقاقي بين السواقي، والديكة تصيح في مهبّ الرّيح ،

كانت الخراف  تهرول هنا وهناك كأنّها جزء من العراك ، وحمار ينهق ورجل يشهق ما يلحق، وآخر إذا ما طلّع ساق فالأخرى تغرق، والمشهد  كلّه يمكن وصفه بالسريالي فكأنّه لوحة لسلفادور دالي، فقرّرنا الرحيل في الآن قبل فوات الأوان، لكن الفضول كان أكبر منّا، وأردنا معرفة ماذا يجري حتّى ندري ما لا ندري، وكلّما مرّ بجانبنا أحد بادرناه بالسؤال عن الحال لكن لا أحد يعرف السبب حتى يبطل العجب، وبينما نحن في حيرة وغصرة أقبل علينا أحد المهرّبين وقد ألفنا وألفناه ورمى علينا الصحبة وبها رميناه وألقى التحيّة في الحين وقال ألا تعلمون  ماذا يحدث…

فقلت بالله عليك أسرع فأنا أعاني بسبب شدّة العطش من الشهّيقة، قال وما الشهيقة ، قلت هي تعرف عندكم  بالفوّاقة، فقال لا تعجبوا إنّها الفوضى الخلاقة، ثم ضحك حتى بانت أسنانه وطلع لسانه، وانصرف وانصرفنا .

أكمل القراءة

صن نار