لمْسُ نار

مَن أكَل الدّستور؟

نشرت

في

في دراسة أثارت جدلا واسعا، قام عالم النفس الأمريكي الكبير “فيليب زيمباردو” بتجربة شهيرة سميت “سجن جامعة ستانفورد”

قام الرجل بتقسيم بعض الطلبة إلى مجموعتين، مجموعة لعبت دور مساجين و الأخرى دور سجانين، في سرداب جامعة ستانفورد الذي تم تقسيمه ليبدو كسجن.

<strong>عبير عميش<strong>

و تعمّد إحكام الحبكة إلى درجة أخذ الطلبة “المساجين” من بيوتهم مقيدين بالأصفاد، على أيدي الطّلاب الذين لعبوا دور السجانين و قد ارتدوا أزياء ضباط شرطة.

كانت القاعدة الوحيدة في اللعبة هي: لا قواعد … على السجانين اتخاذ كل التدابير اللازمة كما يحلو لهم ، دون أية مساءلة من أي نوع.

و جاءت النتيجة كارثية و أثارت جدلا أخلاقيا واسعا في الأوساط العلمية.. فقد عاين الأستاذ بقلقٍ التحولَ المرعب الذي حدث للسجانين و هم  يشعرون ألّا مساءلة لهم مهما فعلوا …

و فوجئ و هو يتابعهم عبر شاشات المراقبة، كيف أصبحوا يتعاملون بخشونة و عنف لدرجة تعذيب زملائهم، رغم أنهم عرفوا بتحضّرهم و هدوئهم و تفوقهم الدّراسي الذي جعلهم يلتحقون بهذه الجامعة العريقة..

أوقف الرجل التجربة فورا..

و قد استنتج شيئا أصبح موجودا في كل مراجع علم النفس الاجتماعي الآن..

و هو أن “السلطة المطلقة تخرج أسوأ ما في النفس البشرية “

هذه التجربة ذكّرتني بما نعيشه اليوم  و ما عشناه طيلة عقود في تونس فكلّ من نحسبه موسى يطلع لنا  فرعون … و كلّ من يصل إلى السلطة يعتقد أنه ظِل الشعب و النّاطق الحصريّ باسمه و أن رؤيته هي الوحيدة الصالحة و المفيدة لهذه البلاد، و يمحو بجرّة قلم  كلّ ما جاء به من سبقوه ليعيد البناء من جديد … وهكذا قضينا عقودا دون أن نتجاوز الطابق الأول من البناية، و كأنّه كتب علينا ألا نعيش إلا ضياع الوقت والعمر.

و ها أنّ رئيس الجمهوريّة يقرّ عند لقائه منذ يومين بثلاثة من أساتذة القانون الدستوري المساندين لتوجهاته، أنّ دستور 2014  لم يعد صالحا ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنه لا مشروعية له، رغم قوله وتأكيده مرارا و تكرارا طيلة أربعة أشهر – خاصّة أمام شركاء تونس من الأجانب – أنّه لم يخالف الدّستور ومازال يتحرّك في إطاره  .

و لكن هاهو اليوم يناقض نفسه و يخالف ما ادّعاه و يكشف عن نواياه الحقيقيّة  التي اتضحت بوادرها منذ  ليلة  25 جويلية  و تدعّمت أكثر منذ الأمر 117 الذي أصدره في 22 سبتمبر. و يتّجه نحو تغيير الدستور حسب رؤيته و رغبته التي يغلّفها  بالعبارة السحريّة ” الشعب يريد ” فمن أدراه أنّ الشعب خرج يوم 25 جويلية مطالبا بتغيير الدّستور ؟؟؟ و من قال بأنّ المشكل هو في الدّستور نفسه و ليس في طريقة تطبيقه أو عدم تطبيقه ؟ من قال إنّ المشكل هو في الدّستور نفسه و ليس في من طبّقوه و تعاملوا مع فصوله و تلاعبوا بها ؟  لماذا نلغي عمل ثلاث سنوات و دماء و تضحيات رجال و نساء ذاقوا الويل لتحصينه من هيمنة الإيديولوجيا الدّينيّة و الفكر القروسطي، لننطلق من جديد من صفحة بيضاء؟

  قد تكون في الدّستور ثغرات أو عيوب يمكن إصلاحها أو إعادة التّحاور بشأنها لكنّه ليس شرّا كلّه … فلماذا نمحوه بجرّة قلم ؟ و من يضمن لنا أنّ الدستور الجديد الذي ستكتبه لجنة لا نعرف عنها شيئا سوى أنّها من اختيار الرئيس، سيكون دستورا سليما لا تشوبه نقائص أو أخطاء؟ من يقرّر ما هو الأنسب و الأصلح لنا؟ من يقرّر طبيعة النظام السياسي و الانتخابي الذي سيقع اعتماده؟ .. من يضمن لنا أنّ من سيصل إلى كرسي السلطة بعد سعيّد لن يغيّر هو أيضا الدّستور ليكتبه على مقاسه و وفق شهواته؟ هل كتب على هذه البلاد أن تعيش دوما القطيعة بين الماضي و الحاضر أو سياسة “فسّخ و عاود من جديد” كلّ مرّة ؟؟

كيف سيقع استفتاء الشعب على الدّستور كاملا؟ إنّ أمرا كهذا إن حصل سيكون سابقة في تاريخ الشعوب فالاستفتاء عادة ما يكون سؤالا على فكرة واضحة، على فصل، على بند … لا على الدستور “بحشيشه وريشه” و إلا فإنّه لن يكون استفتاء على النّص بقدر ما سيكون مبايعة لمن اقترحه و صاغه …  ثمّ ماذا سيحصل لو رفضه الشعب ؟

كيف سيقع استفتاء شعب نصفه أمّي استفتاء الكترونيّا، من يضمن لنا عدم اختراق المنصات أو عدم استعمال هويّات مزيّفة؟ من يضمن لنا مصداقيّة النتائج؟  أ لم يلمّح رئيس الجمهوريّة يوما إلى أنّ وزارة التكنولوجيا و الاتصالات مخترقة فكيف يمكن ائتمانها على استفتاء كهذا؟؟  ثمّ هل أنّ كل من يحقّ لهم التصويت قانونا قادرون على التعامل مع الوسائل الحديثة هذا إن سلّمنا بأنهم يمتلكونها أو يستطيعون توفيرها؟ كيف سيقع الاستفتاء الالكتروني في بلد عجز عن رقمنة الإدارة ؟

و أخيرا و ليس آخرا  ما معنى أن تتحدّث عن دستور 2014 بوصفه لم يعد صالحا و صار فاقدا للمشروعية والحال أنك وصلت بمقتضاه إلى رئاسة الجمهوريّة ؟ هل من حقّك تغيير قوانين اللعبة / الدستور التي أوصلتك إلى كرسيّ الرئاسة ؟

و ما معنى أن تتحدّث اليوم عن انتخابات 2019 بأنها مزيّفة مزوّرة و هي نفس الانتخابات التي خضتها وارتضيت أن ترتقي بها إلى سدّة الحكم؟ لماذا لم تشر في حينها إلى كونها مزوّرة  و تنسحب حفظا لمصداقيّتك؟ لماذا لم تتهم خصومك اليوم بأنّهم زيفوها في حينها؟ أم لأنك وصلت بأصواتهم و أصوات ناخبيهم؟؟

و إذا بحثنا عن شيء من التناسق في المواقف، فإنّ ما بُني على باطل سيكون باطلا و لا شرعيّة و لا مشروعيّة لمن وصل إلى الحكم بدستور و انتخابات فاقدَين للشرعيّة.  

إنّ المشكل الدستوري في تونس هو أحد المشاكل لكنّه ليس أهمّها، فمع الفقر و الإفلاس لن ينظر الشعب إلى طبيعة النظام و لا إلى أسماء من يحكمونه … و مع الفقر و الإفلاس لن ينفع أفضل دستور في العالم في طمأنة النّاس و تحقيق الاستقرار..  و مع الفقر و الإفلاس لن يأكل المواطنون أو يشربوا دستورا و لن يتدثروا تحت عباءة الدستور.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version