تابعنا على

جور نار

نخبة براقش (3)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

في معرض الأمثال التي لم يتعرض لها كليلة ودمنة، مثل ذلك الرجل الذي وقف قريبا من دوّار قبيلته وراح يصيح ويستغيث أن هجم عليّ ذئب وهو يوشك أن يأكلني …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

سمع الجمع الصراخ والمستصرخ فهبّوا هناك عاريا ولابسا، كل بما ملكت يداه من سلاح أو أداة ضرب … وعندما وصلوا إلى حيث المستنجد، لم يجدوا ذئبا ولا ثعلبا، بل ابن عمّهم في تمام صحته وضحكه وهو يقول: حصّلتكم! والبقية يرويها الركبان… إذ أعاد العابث عبثه مرة أخرى أو مرتين حتى بردت النكتة … ولكنه في يوم كان مبتعدا قليلا عن العمران، فهجم عليه قطيع ذئاب لا ذئب واحد، بأنياب حقيقية هذه المرة … وعندما سمع الحي عياطه إلى عنان السماء، حسبوه يمزح كعادته ولم يلتفت إليه أحد … فراح طعاما لفتك الوحوش، وسط لامبالاة الجميع …

ما فعلته نخبتنا سابقا فعلان لا فعل واحد… أوّلا، هي أفرغت جميع التعابير القوية من محتواها … الثورة، الحريات، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الشرعية، الانتخابات، تمثيل الشعب، الوطن، المواطن إلخ … بداية باستعمال ذلك ضمن “خيول” (جمع حصان) طروادة لأجندات أجنبية لم نكن سوى حلقة من سلسلتها الطويلة المطوقة منطقة بكاملها … وصولا لظهور رؤوس معارضتنا خلالها مجرد عرائس خشب ممسوكة خيوطها وراء بحر أو محيط، في حين انكشفت وجوه قادة (رئيسيين وثانويين) لهم من غير بني جلدتنا… برنار ليفي، روبير مينار، يوسف القرضاوي، رجب أردوغان، نيكولا ساركوزي، هيلاري كلينتون، كوندوليزا رايس، مادلين أولبرايت، جون ماكين، دونالد رامسفيلد وغيرهم من هذه المجرة التي ينهيها البعض عند قصر ملياردير غامض اسمه جورج سوروس …

تكشّف ذلك قليلا قبل وصول جماعتنا إلى الحكم… وكانت مخابراتنا التونسية تنبّه إلى الأمر بأكثر من طريقة … بالتلميح عبر خطب الرئيس بن علي في سنواته العشر الأخيرة… أو بالتصريح من خلال ما كان يتم تسريبه في جرائد كانت مقرّبة من السلطة (“الإعلان” ثم “الحدث”، “كل الناس”، “الملاحظ”، وإلى حد ما “الصريح”) … طبعا كنا نسخر في سرّنا من هذه المنشورات ونعتبرها مؤامرة على شعبنا وافتراء وقحا على معارضتنا الوطنية الديمقراطية الطاهرة … ماذا؟ أمعقول هذا الكلام الجارح في قداسة نجيب الشابي، وفي نيافة حمة الهمامي، وفي جلالة سهام بن سدرين، وفي فضيلة الغنوشي، وفي ورع مورو، وفي سماحة الغضباني، وفي براءة العريّض والجبالي وأقرانهما الأصفياء؟ … لا لا لا لا … هذا إفك من عمل الشيطان ورجس فاجتنبوه …

وقد اجتنبناه فعلا … فقام شارعنا بتقويض البناية الشريرة التي قذفت هؤلاء المحصنين والمحصنات … ونسي تماما ما كان يطالب به جياع الحوض المنجمي ومقهورو سيدي بوزيد والرقاب … وانخرط في أولويات سادته وقادته العائدين من المنفى … وبالطبع كنا مصدقين أنهم كانوا منفيين دون أن نسأل كيف، وفي أي مستوى كانوا يعيشون وعلى حساب من ولماذا … وأقيمت خيمات اعتصامي القصبة 1 و2 وهات يا مجلس تأسيسي وهات يا دستور جديد وهات يا ثورة ويا ثوريون … واختلط عندنا أكتوبر 1917 بأكتوبر 2011 وقبلهما خاصة أكتوبر 2005 … كوكتيل غريب عجيب من الزيت والماء، من اليمين واليسار، من الأمام والوراء، من الفوق والتحت حتى أصابنا الغثيان …

الفعل الثاني الذي ارتكبته معارضتنا وكان سببا في نفورنا منها ومن كل ما كانت تقوله، حقا أو باطلا … هذا الفعل هو استمرار توظيفها لنفس القاموس وهي على صهوة السلطة تعبث وتسرق وتبيع وتفتح الحدود وترسل أبناءنا إلى المحارق بل وتحرق ما عندنا من بشر وحجر وشجر … راحت تفعل فينا فعل المستعمر الغاشم ولكن بأسلوب شرقي متخلّف يقطع حتى الغصن الذي يجلس عليه … عقلية عليّ وعلى أعدائي … ومن أعداؤهم؟ نحن؟ نحن الذين لطالما تغزّلوا بنا شعبا ومصيرا وأرضا وثروات؟ نحن الذين جعلوا منّا لعشرات السنين موضوع صراع بينهم وبين جميع من حكمونا قبلهم؟ نحن الذين كثيرا ما زعموا الدفاع عنّا وشتموا باسمنا بورقيبة والزين وما بينهما؟ نحن الذين جرّونا لانتخابهم بالصفوف وتنصيبهم بقصر باردو ليكتبوا لنا “دستور الثورة” خلال سنة واحدة لا غير؟ … نحن الذين نكثوا وعودهم لنا وأوّلها تلك السنة الواحدة وعهدها الذي قال عنه الغنوشي إنه (مجرد التزام أخلاقي) وهو الذي بنى كامل “البروباغندا” متاعو لنصف قرن، على الأخلاق وقدومه لبزرعها في مجتمع براه بلا أخلاق؟؟؟

ومن تناقض لتناقض، ومن تضارب إلى تضارب، ومن كذبة نحو أخرى، ومن انكشاف عورة إلى افتضاح قبح … لم يحافظوا حتى على مواثيقهم في ما بينهم … فحتى رباط 18 أكتوبر الذي خلط كما قلنا الزيت بالماء، حتى ذلك العهد لم يحفظوه … ففي أول انتخابات أينعت أمامها ثمرة الحكم وسال لعابهم لبريق عسلها ولونه الجذاب ورائحته، أعملوا في أجساد بعضهم البعض، السيف والنطع … فإذا نجيب الله الشابي (الذي آواهم ليلا نهارا في مقر جريدة الموقف ذات حصار) حتى هذا الرجل الطويل القامة أوقعوه أرضا ورفسوه بالقدمين وقالوا فيه ما لم يقله مالك في مومسات الماخور العمومي … ومعه الراحلة مية الجريبي التي يتباكون عليها اليوم … ولا حديث عن حمة الهمامي الذي اتهموه بالكفر والخمر (رغم أن الجميع يعرف ـ وهذا ليس دفاعا عنه ـ وأوّلهم هم، أن حمة لا يشرب سيجارة فكيف بما أكثر) والعطالة والخضوع في بيته لحكم امرأة يتناوحون اليوم على اعتلال صحتها في حين أنهم في أوجهم تناسوا نضالها لأجل كثيرين هم من بينهم … ولا حديث حتى عن حليفهم الأعمى د. مرزوقي الذي عينوه رئيسا ثم عزلوه وجعلوه مضغة في الأفواه وجرّدوه من أخر ذرة احترام كانت له عند التونسيين … وهاهو اليوم يدور بين المضارب كالمعتوه شاكيا باكيا ولكن لا أحد منصت إليه، لا أحد شاعر به …

ولا حديث خاصة عمّن سفحوا دماءهم عندما وصلوا إلى مرحلة مسك السلاح وترويض النواطير… في هؤلاء المقتولين من كان سندهم أيام الجمر التي يزعمون أنهم اكتووا بها … شكري بالعيد كان واحدا من أعلى أصوات المحاماة التي ارتفعت في التسعينات دفاعا عن متهمي السلفية … فكان الردّ تصفيته بدم بارد بعد أخذهم صولجان الحكم بثلاثة أشهر فقط … نزيد من الشعر بيتا … محمد البراهمي لا يمكن لأيّ كان أن يكفّره أو يزندقه أو يتهمه في دينه، فالرجل يصلّي ويصوم ويزكّي ويحجّ أكثر منهم إن كانوا كما يُظهِرون … ومع ذلك لم يتورع زبانيتهم عن قصفه بالمدفع الرشّاش كما لو كان أباجهل أو أبا لهب …

قائمة الشهداء (ووصل الغضباني إلى عدم اعتبارهم كذلك) طويلة ولن نعرف لها حقيقة رغم تشكيل لجان تحقيق … ولكن لنضع مع القتل المادي القتل المعنوي … معنويا قتلوا رئيسا أول هو المرزوقي، وبعده تحالفوا مع رئيس ثان سحبوه من الأرشيف ثم استخدموه زمنا وبعد ذلك أجهزوا عليه … الباجي قائد السبسي … ثمانيني متقاعد منذ ربع قرن، نسي الناس ونسيه الناس وربض هانئا في ضاحيته المخملية الهادئة … زاره التلفزيون مرة من ضمن من زار من شهود الماضي بعد جانفي 2011 لتحيين تاريخ تونس … تماما كمنصور معلاّ والطاهر بالخوجة وأحمد بن صالح وعمر الشاذلي … إلا أن العين الفاحصة وقعت عليه وقالت: لم لا؟ … لم لا يكون فترينة أخرى محتملة لسلطة جديدة لا تريد كشف أوراقها … فقد وزع دستورهم الصغير (متاع عياض بن عاشور، وقصته قصة هو الآخر) الأدوار بين من يملك السيارة ومحرّكها وخطّ سيرها، وبين الصورة التي تظهر للعوامّ خلف المقود … لقد أوكلنا هذا الدور بداية للمرزوقي، ولا بدّ من دكة احتياط فمن يدري؟

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار