عبد القادر المقري:
في معرض الأمثال التي لم يتعرض لها كليلة ودمنة، مثل ذلك الرجل الذي وقف قريبا من دوّار قبيلته وراح يصيح ويستغيث أن هجم عليّ ذئب وهو يوشك أن يأكلني …
سمع الجمع الصراخ والمستصرخ فهبّوا هناك عاريا ولابسا، كل بما ملكت يداه من سلاح أو أداة ضرب … وعندما وصلوا إلى حيث المستنجد، لم يجدوا ذئبا ولا ثعلبا، بل ابن عمّهم في تمام صحته وضحكه وهو يقول: حصّلتكم! والبقية يرويها الركبان… إذ أعاد العابث عبثه مرة أخرى أو مرتين حتى بردت النكتة … ولكنه في يوم كان مبتعدا قليلا عن العمران، فهجم عليه قطيع ذئاب لا ذئب واحد، بأنياب حقيقية هذه المرة … وعندما سمع الحي عياطه إلى عنان السماء، حسبوه يمزح كعادته ولم يلتفت إليه أحد … فراح طعاما لفتك الوحوش، وسط لامبالاة الجميع …
ما فعلته نخبتنا سابقا فعلان لا فعل واحد… أوّلا، هي أفرغت جميع التعابير القوية من محتواها … الثورة، الحريات، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الشرعية، الانتخابات، تمثيل الشعب، الوطن، المواطن إلخ … بداية باستعمال ذلك ضمن “خيول” (جمع حصان) طروادة لأجندات أجنبية لم نكن سوى حلقة من سلسلتها الطويلة المطوقة منطقة بكاملها … وصولا لظهور رؤوس معارضتنا خلالها مجرد عرائس خشب ممسوكة خيوطها وراء بحر أو محيط، في حين انكشفت وجوه قادة (رئيسيين وثانويين) لهم من غير بني جلدتنا… برنار ليفي، روبير مينار، يوسف القرضاوي، رجب أردوغان، نيكولا ساركوزي، هيلاري كلينتون، كوندوليزا رايس، مادلين أولبرايت، جون ماكين، دونالد رامسفيلد وغيرهم من هذه المجرة التي ينهيها البعض عند قصر ملياردير غامض اسمه جورج سوروس …
تكشّف ذلك قليلا قبل وصول جماعتنا إلى الحكم… وكانت مخابراتنا التونسية تنبّه إلى الأمر بأكثر من طريقة … بالتلميح عبر خطب الرئيس بن علي في سنواته العشر الأخيرة… أو بالتصريح من خلال ما كان يتم تسريبه في جرائد كانت مقرّبة من السلطة (“الإعلان” ثم “الحدث”، “كل الناس”، “الملاحظ”، وإلى حد ما “الصريح”) … طبعا كنا نسخر في سرّنا من هذه المنشورات ونعتبرها مؤامرة على شعبنا وافتراء وقحا على معارضتنا الوطنية الديمقراطية الطاهرة … ماذا؟ أمعقول هذا الكلام الجارح في قداسة نجيب الشابي، وفي نيافة حمة الهمامي، وفي جلالة سهام بن سدرين، وفي فضيلة الغنوشي، وفي ورع مورو، وفي سماحة الغضباني، وفي براءة العريّض والجبالي وأقرانهما الأصفياء؟ … لا لا لا لا … هذا إفك من عمل الشيطان ورجس فاجتنبوه …
وقد اجتنبناه فعلا … فقام شارعنا بتقويض البناية الشريرة التي قذفت هؤلاء المحصنين والمحصنات … ونسي تماما ما كان يطالب به جياع الحوض المنجمي ومقهورو سيدي بوزيد والرقاب … وانخرط في أولويات سادته وقادته العائدين من المنفى … وبالطبع كنا مصدقين أنهم كانوا منفيين دون أن نسأل كيف، وفي أي مستوى كانوا يعيشون وعلى حساب من ولماذا … وأقيمت خيمات اعتصامي القصبة 1 و2 وهات يا مجلس تأسيسي وهات يا دستور جديد وهات يا ثورة ويا ثوريون … واختلط عندنا أكتوبر 1917 بأكتوبر 2011 وقبلهما خاصة أكتوبر 2005 … كوكتيل غريب عجيب من الزيت والماء، من اليمين واليسار، من الأمام والوراء، من الفوق والتحت حتى أصابنا الغثيان …
الفعل الثاني الذي ارتكبته معارضتنا وكان سببا في نفورنا منها ومن كل ما كانت تقوله، حقا أو باطلا … هذا الفعل هو استمرار توظيفها لنفس القاموس وهي على صهوة السلطة تعبث وتسرق وتبيع وتفتح الحدود وترسل أبناءنا إلى المحارق بل وتحرق ما عندنا من بشر وحجر وشجر … راحت تفعل فينا فعل المستعمر الغاشم ولكن بأسلوب شرقي متخلّف يقطع حتى الغصن الذي يجلس عليه … عقلية عليّ وعلى أعدائي … ومن أعداؤهم؟ نحن؟ نحن الذين لطالما تغزّلوا بنا شعبا ومصيرا وأرضا وثروات؟ نحن الذين جعلوا منّا لعشرات السنين موضوع صراع بينهم وبين جميع من حكمونا قبلهم؟ نحن الذين كثيرا ما زعموا الدفاع عنّا وشتموا باسمنا بورقيبة والزين وما بينهما؟ نحن الذين جرّونا لانتخابهم بالصفوف وتنصيبهم بقصر باردو ليكتبوا لنا “دستور الثورة” خلال سنة واحدة لا غير؟ … نحن الذين نكثوا وعودهم لنا وأوّلها تلك السنة الواحدة وعهدها الذي قال عنه الغنوشي إنه (مجرد التزام أخلاقي) وهو الذي بنى كامل “البروباغندا” متاعو لنصف قرن، على الأخلاق وقدومه لبزرعها في مجتمع براه بلا أخلاق؟؟؟
ومن تناقض لتناقض، ومن تضارب إلى تضارب، ومن كذبة نحو أخرى، ومن انكشاف عورة إلى افتضاح قبح … لم يحافظوا حتى على مواثيقهم في ما بينهم … فحتى رباط 18 أكتوبر الذي خلط كما قلنا الزيت بالماء، حتى ذلك العهد لم يحفظوه … ففي أول انتخابات أينعت أمامها ثمرة الحكم وسال لعابهم لبريق عسلها ولونه الجذاب ورائحته، أعملوا في أجساد بعضهم البعض، السيف والنطع … فإذا نجيب الله الشابي (الذي آواهم ليلا نهارا في مقر جريدة الموقف ذات حصار) حتى هذا الرجل الطويل القامة أوقعوه أرضا ورفسوه بالقدمين وقالوا فيه ما لم يقله مالك في مومسات الماخور العمومي … ومعه الراحلة مية الجريبي التي يتباكون عليها اليوم … ولا حديث عن حمة الهمامي الذي اتهموه بالكفر والخمر (رغم أن الجميع يعرف ـ وهذا ليس دفاعا عنه ـ وأوّلهم هم، أن حمة لا يشرب سيجارة فكيف بما أكثر) والعطالة والخضوع في بيته لحكم امرأة يتناوحون اليوم على اعتلال صحتها في حين أنهم في أوجهم تناسوا نضالها لأجل كثيرين هم من بينهم … ولا حديث حتى عن حليفهم الأعمى د. مرزوقي الذي عينوه رئيسا ثم عزلوه وجعلوه مضغة في الأفواه وجرّدوه من أخر ذرة احترام كانت له عند التونسيين … وهاهو اليوم يدور بين المضارب كالمعتوه شاكيا باكيا ولكن لا أحد منصت إليه، لا أحد شاعر به …
ولا حديث خاصة عمّن سفحوا دماءهم عندما وصلوا إلى مرحلة مسك السلاح وترويض النواطير… في هؤلاء المقتولين من كان سندهم أيام الجمر التي يزعمون أنهم اكتووا بها … شكري بالعيد كان واحدا من أعلى أصوات المحاماة التي ارتفعت في التسعينات دفاعا عن متهمي السلفية … فكان الردّ تصفيته بدم بارد بعد أخذهم صولجان الحكم بثلاثة أشهر فقط … نزيد من الشعر بيتا … محمد البراهمي لا يمكن لأيّ كان أن يكفّره أو يزندقه أو يتهمه في دينه، فالرجل يصلّي ويصوم ويزكّي ويحجّ أكثر منهم إن كانوا كما يُظهِرون … ومع ذلك لم يتورع زبانيتهم عن قصفه بالمدفع الرشّاش كما لو كان أباجهل أو أبا لهب …
قائمة الشهداء (ووصل الغضباني إلى عدم اعتبارهم كذلك) طويلة ولن نعرف لها حقيقة رغم تشكيل لجان تحقيق … ولكن لنضع مع القتل المادي القتل المعنوي … معنويا قتلوا رئيسا أول هو المرزوقي، وبعده تحالفوا مع رئيس ثان سحبوه من الأرشيف ثم استخدموه زمنا وبعد ذلك أجهزوا عليه … الباجي قائد السبسي … ثمانيني متقاعد منذ ربع قرن، نسي الناس ونسيه الناس وربض هانئا في ضاحيته المخملية الهادئة … زاره التلفزيون مرة من ضمن من زار من شهود الماضي بعد جانفي 2011 لتحيين تاريخ تونس … تماما كمنصور معلاّ والطاهر بالخوجة وأحمد بن صالح وعمر الشاذلي … إلا أن العين الفاحصة وقعت عليه وقالت: لم لا؟ … لم لا يكون فترينة أخرى محتملة لسلطة جديدة لا تريد كشف أوراقها … فقد وزع دستورهم الصغير (متاع عياض بن عاشور، وقصته قصة هو الآخر) الأدوار بين من يملك السيارة ومحرّكها وخطّ سيرها، وبين الصورة التي تظهر للعوامّ خلف المقود … لقد أوكلنا هذا الدور بداية للمرزوقي، ولا بدّ من دكة احتياط فمن يدري؟
ـ يتبع ـ