لأنّ شاعِرنا الوطني محمّد الصغيّر أولاد أحمد قد أسّس شعريا مُطوّلا لهذه اللّحظة التي تُشبهه والتي كمْ تمنّى أن يراها ويكتب فيها نصّه، عنّ لي أن أكتب بعض ما تيسّر على لسانه مع الاعتذار سلفا لأناقة شعره ونثره ورِفعتهما ومع التماس العذر أيضا من مُحبّيه للفارق الشاسع في المنبريّة وحرير الكلام.
فكأني به يقول :
الآن، حيث تشير الساعة الى الخامس والعشرين من الشهر السابع في العام الخامس بعد ارتحالي،
الآن، وقد عاد الحمام إلى أوكاره والضّبع إلى وِجاره،
وناح النائحون إلَهَنا وحدنا، ألا فأخمد نيرانهم وجمّد أفكارهم وارحمنا يا سيّد الملكوت،
الآن، وقد نفقت حيتانهم وتاهت خرفانهم،
ووقف شيخهم يتضرّع إلى جندي هلاليّ مثلي ويُناشده أن يفتح له بابا كأنه “الريان لا يدخله إلا الصائمون”،
الآن، وقد شرعوا في حزم أمتعتهم وإحصاء ما في أرصدتهم وتفقّد إن كان لهم أحباب فعلا في بلد لا يعرفهم،
وانكمش حرفهم المتعالي وارتبك بيانهم وجفّت منابع المناورة والكلام الماكر في حلوقهم،
وابتهج الناس وراق لشابّة في الثلاثين أن تتخفّف من الملاحف والجلابيب وتلتذّ كما يلتذّ الرجال بقطرة ماء على ضفاف المتوسط… ويتواصل طبيعيا توافد جموع المصلّين فجرا وعصرا وفي كل الأوقات على مساجد مُشرعة ومآذن صادحة مُسقطين رايات الخطر المحدق بالدين،
وقرر الشعب التونسي أن لا ينتظر سنّ فصل دستوري يفصل بين الدين والدولة وراح يمارس تفريقا تلقائيا بين أفعال الدولة وسياساتها وبين بطون الدينيين ولحيّ الفقهاء وسراويل الشيوخ،
الآن وقد حدث كل هذا، والذي سيحدث،
تذكّرت أنني قلتُ فيما قلتُ،
بلادي لستُ أعرفها. أقول وكأنّ بلادي بدأت تخرج من غيمها لأحضنها من جديد وتحضنني وأقبّل وجنتيْ كلمات على خدّها.
وقلتُ : الريح آتية وبيوتهم قشّ، والكف عالية وزجاجهم هشّ. والآن أقول ها قد تبيّن أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وأصابع الأخطبوط.
وقلتُ فيما أذكر أيضا : كتبتُ… كتبت فلم يبق حرفُ… وصفتُ وصفتُ فلم يبق وصفُ… أقول إذن باختصار وأمضي…نساء بلادي نساء ونصفُ . وها هي امرأتنا التي صدّتهم ودحرتهم فمثّلت حصنا وقلعة ومقلاعا ضد الغزاة والفاتحين.
وقلتُ وحدها الوصايا تُديم المعاني وتحيى الأموات. شبه متيقن كنتُ، أما الآن : فعلى يقين من أنهم احترموا الوصية وزرعوني في كل شبر من هذه البلاد. هذه البلاد التي أضيفُ إليها ياءا من موتي وأسمّيها بلادي. وهاهو المنصفُ صديقي (و أمثاله كُثْر) لا ينسى وصيّتي ويستحضرني في لحظة تُديم المعاني التي اشتغلت عليها بعناء كبير وتُحييني لأتقاسم معكم فرحا نادرا قد أكون ساهمت قليلا في جعله مُمكنا.
وقلتُ أيضا “إنني من بادية حافية في الجنوب. في أقصى الجنوب. يستوجب الوصول إلى كلابها ثلاثة أرباع يوم”. وإذ بالحفاة ظلوا حفاة والعراة زادوا عراءً بعد عشريّة حافية وعارية إلا من عُري فُجّارها.
وقلتُ “هؤلاء الكتاب لا يُفرّقون بين المحابر وآبار النفط وبين الأوراق النقدية وأوراق الكتابة”. حتى أدركتُ اليوم أن جميع الذين بشّروا برفاه العيش في كابول ونموذج التنمية في اسطمبول من أقلامنا اختفوا فجأة وجفّ حبرهم وقضوا نحبهم.
وقلتُ إن “هذهالأمة لا يمثل حكامها سوى زوجاتهم ورهط من مهربي المخدرات ومحتكري المعادن”. وها أنتم تشاهدون أن وجباتهم يُعِدّونها من حديد وتبغ وفولاذ.
وقلتُ أنني “أخشى على بلدي من أصحاب المقاعد المحجوزة في السماء وسفراء الله” لمّا اكتشفنا أنهم لم يكونوا بصدد تسيير دولة بل ضيعة نصّبوا على رأسها هارونا يطالب بالتعويض على جرائم لم نرتكبها وخطايا لم نقترفها.
وقلتُ “بحياتي نِلتُ ما تسمو به هذي الحياة وزرعت الشك في أرض اليقين، تونسي مرة واحدة، تونسي دفعة واحدة أو لا أكون“. فهل فهمتم اليوم لِمَ يتلكّأون كثيرا عندما يُسألون عن الجنسيّة الأحبّ إلى قلوبهم ؟
وقلتُ “أنا لا أؤمن منذ 25 سنة أو لنقل منذ 14 قرنا بأن الحكم باسم الدين يمكن أن يفرز ديمقراطية لأن الدين فكر عمودي وشمولي في حين أن الديمقراطية فكر أفقي ونسبي. أنا ضدهم وضد ازدواجية خطابهم، فلا إمكانية لدولة مدنية مع نظام سياسي ديني” … قبل أن تدركوا بأنفسكم أن الدين يخشى على قدسيته من دَنَس التّقاة والمستثمرين في شؤون الروح.
وقلتُ في قصيدة الفراشة “أنا تونس الوسطى أعيش على القناعة والمطرْ… أنا تونس الكبرى قدرْ… أنا تونس الأخرى رماد مبتكرْ” … وها هي تونس الأخرى لا تُسفّهني وتنهض من رمادها كأنها الفينيق تنتفض وتنتصرْ.
لك الخلود أيها الشاعر “المغتبط في أبديّته” كما يقول صديقك الشاعر منصف الوهايبي.