منذ أربعة و عشرين يوما و قنوات إعلامنا تحفل كالسوق بنوع جديد من الباعة … المحذّرون و المنذرون والمنبّهون و المفيّقون و المحسّسون … و أذكر مرة في ملتقى علمي شارك معنا وفد عن جامعة القاهرة و بعد إحدى المحاضرات مازحتنا ضيفة من البلد الشقيق بقولها: أعجبني جدّا استعمال إخوتنا التوانسة لعبارة “التحسيس” و هم يقصدون بها التوعية … أما عندنا في مصر، فهذا المصطلح يتعلق بفعل شائن يمارسه البعض على راكبات”الأوتوبيس”، خاصة عندما يكون مكتظّا !
جماعتنا لا يتعبون هذه الأيام من تحذير الشعب مما يطلقون عليه “تخمبرة” 25 جويلية، و لا تدري بالضبط هل يقصدون ما حدث في “أول” ذلك التاريخ من غضب عارم على الفئة الحاكمة المتحكّمة منذ عشر سنوات … أم ما وقع في “آخر” ذلك اليوم من مظاهرات فرح فور إعلان الرئيس عن بداية إجراءات زجرية ضد الفئة الحاكمة المتحكّمة منذ عشر سنوات … المهمّ أن وعّاظ الساعة يخرجون عليك بصوت راهب و سحنة جنازة و إصبع شبيهة بسبّابة ابن القذافي التي قُطعت … داعين إياك إلى أن تستفيق و تحكّم عقلك و لا تغترّ بما يحدث و لا تناصر مَن عاقب و لا تشمت في من عوقب .. و ألا تندفع من جديد كما فعلت في أحداث الخبز، و في نوفمبر 87، أو في جانفي 2011 إلخ
كان يمكن تصديق هذه النصائح الأخوية لو خرجت من غير تلك الأفواه … و هنا كم تمنّيت على حمّة و الشابي و رئيس الستة ألاف صوت و السبعة آلاف مصيبة … و تابعه الذي لا أوافق من يعلقون على فداحة حوَق عينيه قبل شناعة اسوداد أفكاره … و ذاك الذي كلما رأيته تذكّرت الجدْي أو خروف العيد بما أنه من يوم كاد السلفيون يذبحونه في اجتماع بقابس و هو يعلن توبته لهم و ولاءه باستمرار منذ 2013 إلى هذه الدقيقة … و الآخر العجوز الذي باع ضميره ملفوفا في دستور صغير و أخذ أجرته منصبا دبلوماسيا طار منه و هاهو يحاول جهده العودة إليه … كم رجوت لو اكترى هؤلاء وجوها غير محترقة فتكلّمت مكانهم و لربّما انطلى علينا ذلك، أما و الحكمة تقال على لسان السفيه المعروف، فبماذا تجيبه؟
تخميرة فرد واحد يمكن احتسابها ضمن المنكرات، أو ربما من مقتضيات حلقات الصوفية المسالمة … و لكن أن تهتاج شعوب بكاملها لأجل شيء ما، فلمَ لا يكون الخلل في الصورة بدل اتّهام ملايين الأيدي التي ترجمها؟ … و إلاّ فاذهب بلومك إلى حُجّاج بيت الله الحرام و قل لهم اعقلوا و لا تتهوّروا في رمي جماركم على براءة إبليس ! … لا أتمنّى لك هذا الموقف، و لكن مهما كان ردّ “العوامّ” (بلغة ذلك الطويل الذي له دون البحور فضائل) على طلبك العجيب فإنك جدير بكل ما يقذفونك به … أوَ لست محامي الشيطان في هذا المعنى و كل المعاني الممكنة؟
كلاّ … لم يتخمّر شعبنا في تلك الأيام التاريخية التي عشناها، بل رفض ما كان فعلا يستحق الرفض و رحّب فعلا بالاستجابة لطلباته، و هل هناك منطق أصح؟ … ففي 84، كان الردّ شعبيا عنيفا على قرارات رفع الدعم، و رغم أن السلطة استعملت كل وسائل البطش فلم يكن ممكنا وقف سيل هادر … و يومها فهم بورقيبة أنه كبير التونسيين نعم، و لكن تونس أكبر منه و من مئات الذين حكموها قبله، فتصرّف بذكاء و رفع الراية البيضاء، و خرج الناس محتفلين بانتصارهم عليه … نفس الكلام يقال عن فرحة ذلك السبت من 87، بعدما انحنى النظام مرة أخرى لفوران الشارع و تمت التضحية بغصن السلطة الأهمّ لكي تسلم الشجرة … و لا فائدة في تكرار الوصف مع حادثة 14 جانفي، و انتصار الغضب الشعبي مرة أخرى …
و إن حدثت انتكاسة بعد كل من هذه الانتصارات، فالذنب ليس ذنب الشعب بل هي خيانة النخب … في الحروب الجنود يكسبون المواجهة، و لكنهم يتركون أمر توظيف النصر إلى ساسة البلاد و مهارة المفاوضين … فهل كانت لدينا في هذه المحطات قامات في حجم تشرشل و ديغول و ستالين مثلا و هم يأخذون لأوطانهم من عوائد هزيمة المحور؟ … مقارنة مستحيلة؟ إذن هات لي “كاغاميه” تونسيا يجترح من مآسي بلده رواندا، عملاقا مدهشا في قارتنا الفقيرة المقاوِمة … هات معارضا تونسيا في العهد السابق لم يبع و لم يشتر و لم يتدبر أوّلا رفاهته و رزق عائلته الرغيد … و هاهم الآن ارتقوا إلى حيث السلطة أو في جوارها أو قبالتها، و انظر إلى البغاء الذي يمارسونه علنًا …
ببراغيث مثل هؤلاء لا يمكن إلا أن تنام على نصر و تصحو على هزيمة، و لا يمكن أن تهنأ بثورة أو تمرّد أو حتى بكلمة شجاعة تقولها … يأخذ الغشّاشون منك المبادرة ثم يحوّلونها كالساقية إلى جيوب غير جيبك، و أهداف غير أهدافك … هذا إذا لم تكتشف أنهم هم أعداؤك الأصليّون، و أنك باطمئنانك إليهم كمن أوكل إلى القوارض حراسة بيت المؤونة …