جور نار

هل أصبحنا بلد الطائرات التي بلا طيّارين؟

نشرت

في

تم البارحة عزل ثم توقيف والييْ سيدي بوزيد و قبلّي، لترتفع حصيلة الولايات مقطوعة الرأس إلى ثمان … أقول مقطوعة الرأس بمعنى أن ثلث البلاد حاليا بلا مسؤولين عن شأنها الجهوي، و لم يتم تعيين ولاة مكان المعزولين ـ بمن فيهم صفاقس ـ منذ الأسبوع الأول لـ “تغيير” الخامس والعشرين من الشهر السابع !

<strong>عبد القادر المقري<strong>

صحيح أننا عشنا فترة و فترات من دون وزراء و حتى من غير حكومة كما حدث في أول 2011 و في الأشهر الأخيرة … و صحيح أن كم ولاية ما تزال تعمل في غياب الوالي … و صحيح أن شركات عدة و مرافق واصلت الاشتغال و لو لم يكن على دفتها ربّان .. و لكن ذلك نجح إلى حد ما بفضل ما يسميه الفيزيائيون بالطاقة الحركية (إينرجي سينيتيك) … أي استمرار السيارة في جريانها بعد إسكات المحرك لمدّة معينة، و بعد ذلك تتراجع سرعتها تدريجيا إلى حين التوقف النهائي …

لا يريد عاقل أن تتوقف البلاد نهائيا، و لا حتى تدريجيا … فما فينا يكفي، و سهام الداخل تضربنا متعاضدة مع سهام الخارج في تنفيذ جماعي أقرب إلى حضرة الدراويش … ولكن بعض السلوكات على مستوى القيادة ما تنفكّ تعطي لهذه الأيدي الجانية مزيدا من السلاح، بقصد أو بغير قصد …

فانتفاضة جويلية لم تكن فقط من صنع شارع غاضب لا يفرق بين إزاحة برلمانيين ما عادوا يمثلون الشعب، و بين فسخ السلطة التشريعية كمبدإ، و حتى بين نسف قصر باردو بالجرّافات لو لزم الأمر و شاءت النزوات … تلك الانتفاضة الرافضة كانت أيضا تحمل رجاءات نخبة مستنيرة معارضة لحكم العشر سنوات، بيد أنها تتبنى النظام الديمقراطي كما أرساه روسو و مونتسكيو منذ ما يقرب من 300 سنة …

و مطلب مكافحة الفساد قديم قدم العالم … و لكن ذلك لا يعني إغلاق المحلّ لتفتيش ما فيه، كل ما فيه، كما يحدث في عمليات الجرد السنوي التي تقوم بها المؤسسات نهاية العام … بل يتواصل العمل العادي، وفي نفس الوقت يتم إبعاد كل من ثبتت عليه تهمة و يحال إلى المحكمة، مع ضرورة تعويضه فورا بمن هو أصلح … و أهمّ من هذا، إصلاح النصوص المنتجة للّصوص، و فتح العينين جيدا لمنع حصول فسادات جديدة و لإيقاف النزيف … فالمستقبل أهمّ بكثير من الماضي …

و أداء كثير من الأحزاب كان خليطا من الهواية و سوء النية و ذهنية الغنيمة … و لكن لا يعني ذلك أن كل “من تحزّب خان”، فالأحزاب النظيفة الجادة هي من صنعت مجد الأوطان المتقدمة اليوم … حتى القادة العسكريون (إيزنهاور، ديغول، هوشي منه …) استندوا إلى أحزاب حين تولوا رئاسة بلدانهم و لم يجدوا غير تلك التشكيلات المنظمة لإجراء الإصلاحات الكبرى … الحزب هو عبارة عن حكومة احتياط مصغرة، و عن مدرسة تكوين وطني و إداري و قانوني و اقتصادي و ثقافي إلخ … و هو يعلّم أفراده النظام و الاحترام و الاتصال بالناس و العمل العام و معنى الدولة … و خاصة قيمة المعلومة و دقة الأرقام و المصطلحات …

و مسؤوليات الإدارة وقع التلاعب بها في عقد السواد الذي مررنا به و لا فائدة في مزيد تعداد الأمثلة و نبش الجراح … و لكن هيكلة البلاد التي توارثناها كانت نتيجة عمل شاق أنجزه روّاد و بناة دولة وطنية … و قد استغرق ذلك عشرات السنين و رأينا كيف أثبت جدواه في الحفاظ على وحدة البلاد و استمرار المرفق العام … حتى في أحلك الظروف … لذا من العبث اليوم محو كل ما تقدم، و إعادة اكتشاف العجلة أو الرمي بكل العجلات على قارعة الطريق …

سي قيس … لقد جرّب جارك الجنوبي هذه التخريجات المتفلسفة طوال 42 سنة … و رغم أن لبلاده ريْعا لا يكاد ينضب من المحروقات، و وسادة مالية يحسدها قارون، فقد أفلس في البداية و الوسط و النهاية … فما بالك ببلد مثل بلدنا يتنفس بالقشّة كما يقال، هذا في مسارنا العادي … فكيف و الأزمات تعصف بنا و نكاد نعجز عن إقفال الميزانية بسلام في أعقاب كل شهر، لا كل سنة …

يا رئيس تونس … لقد سبق لأحد رؤساء أمريكا أن قال ذات يوم: “إنني أشغل عملا غير قار” و هو يعني أنه في البيت الأبيض لمدة أربع أو ثماني سنوات على الأكثر ثم يمضي …

عملكم إذن مؤقت، و حماسنا مؤقت، و صبرنا مؤقت، و اسأل ساعة اليد التي في معصمك عن حركة الوقت التي لا ترحم .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version