جور نار

هل العالم جبان إلى هذا الحدّ؟

نشرت

في

جريدة الصباح نيوز صاغته روسيا مجلس الأمن الدولي يفشل في تبني مشروع قرار حول غزة

لا تسمع هذه الأيام من تصريحات الأنظمة العربية والجامعة العربية سوى استنكار لهذا الاعتداء “على القوانبن الدولية” و على “ميثاق الأمم” و على “المبادئ الكونية” … تلي ذلك مناشدة مستعطفة للضمير الإنساني حتى يستيقظ أخيرا ويفعل شيئا، أي شيء …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

يا زُعران !

هل الخمسمائة شهيد الذين سقطوا البارحة في قصف مستشفى المعمداني أرواح بشر أم قوانين دولية؟ وهل مئات المصابين الخطرين معهم، آدميون من لحم ودم أم “مبادئ كونية”؟ وهل المليونا مواطن في غزة، والأربعة ملايين في باقي فلسطين، والسبعة ملايين في الشتات والمخيمات، هل هؤلاء أبناء وبنات وأخوات وإخوة، أم ورقات من كتاب الشرعية الدولية التي تنوحون عليها؟ … وهل يبكيك انتهاك “ميثاق الأمم المتحدة” ولا يبكيك ـ بل يستفزّ نخوتك ـ انتهاك الجسد الفلسطيني وإعمال سيف الإبادة فيه؟ …هل الذي يجري في عروقكم دم مثل باقي الثدييات أم عصير برتقال، بتعبير أديبنا علي الدوعاجي؟!

في جوان سنة 1940 كان الألمان يحتلون فرنسا أرضا وبشرا وحجرا، ويعيثون فيها كما يعيث أي محتل بفريسة وقعت تحت يديه … أطبق الصمت على تلك البلاد التي مات فيها من مات، واستسلم من استسلم، وهرب قليلون إلى الخارج منهم عميد مؤقت في الجيش الخامس اسمه شارل ديغول لجأ إلى لندن … ومن هناك، من إذاعة “بي بي سي” أطلق نداءه المسمى بنداء 18 جوان … قد نتصور أن النداء توجّه ـ على غرار بكائياتنا العربية ـ إلى استنفار مشاعر الرحمة لدى دول العالم ومنظماتها، واستعراض عدد الأطفال والنساء والمدنيين الذين قُتلوا شهداء، حتى يضغط الجميع على العدوّ لتخفيف وطأته على المساكين الأبرياء …

لا … لم يحصل شيء من هذا … فقد أشار الجنرال أولا إلى هزيمة جيش بلاده أمام الأعداء بشكل لا يمكن معه إجبارهم على وقف النار وبدء الانسحاب … ثم حلل أسباب تفوق القوات المعادية بامتلاكها أسلحة أكثر تطورا في البرّ والجوّ مع دبابات وطائرات أقوى من جيش فرنسا … وتساءل مع ذلك: هل الهزيمة نهائية والأمل تبخّر والكلمة الأخيرة قد قيلت؟ وأجاب بسرعة عن كل هذا: كلاّ !… وراح في استعراض مطوّل لما يمكن أن تفعله بلاده لردّ الهجوم من حشد لطاقات شعبها وفرقها العسكرية الرافضة للاحتلال، وإقناع للحلفاء بتسخير إمكاناتهم الضخمة وتذكّر مصالحهم المشتركة المهددة، واستغلال المستعمرات التي مازالت تحت السيطرة المطلقة، وخاصة تعبئة العلماء والصناعيين الفرنسيين لتطوير أسلحة مماثلة لأسلحة العدوّ والرد عليه مثلا بمثل …

دعنا الآن من فرنسا فهي ليست قضيتنا، وهمومنا معها كدولة استعمارية تنسينا أي ظلم تعرضت إليه في تاريخها … ولكن لنأخذ عبرة على الأقل … ديغول لم يكن في خطابه وطنيا متحمسا بقدر ما كان رجلا عمليّا … فهو يعرف أن القوة وحدها تردع العدوّ، وأن المصلحة وحدها تجلب الحلبف، وأن الطاقة (ومنها طاقة البشر) محدودة ومن الغباء إضاعتها في نحيب وتوسّل لا يجديان فتيلا … وأن الارتماء تحت قدمي العدوّ والانحياز إلى صفّه ضد الأهل والأشقاء، لم ينفعا خائنا واحدا على مدى التاريخ … ماسينيسا وضع نفسه خارج القضية القرطاجية واشتغل عميلا لروما طمعا في مكافأة، فما كان منها إلا أن تعشت به بعد أن تغدّت بقرطاج … الحسن الحفصي أدخل الإسبان إلى تونس فتخلّصوا منه بتسليط ابنه عليه … السادات أخذوا منه مصر الغالية وبعد ذللك أرسلوا إليه كتيبة إعدام من تفريخاتهم … ولا أزيد في الأمثلة، فلكل ذي عينين سليمتين قدرة على الإبصار …

زعماؤكم لا يقرؤون التاريخ وإن قرؤوه فبمنطق: لا يحصل هذا إلا مع الآخرين … ولكن على الأقل لننظر قليلا في ما يخطبون به على طرف الشفاه هذه الأيام … الشرعية الدولية التي يتحدثون بها هي شرعية قوة وأمر واقع بالأساس … فعشرات النزاعات الحدودية وحتى أوطان مغتصبة بكاملها، مطروحة اليوم على مكاتب الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمنظمة الدولية لحقوق الإنسان … ومع ذلك لا حراك … هناك شعوب أبيدت على أخرها ولم تجد اهتماما إلا عند علماء الأنثروبولوجيا ومؤرخي الحضارات الميتة … ولا أسف … أما الضمير العالمي فهو الصدى الوفيّ لما تبثّه وسائل الإعلام وهي ليست في صفّك … أنت تشتري القصور الفيكتورية ونوادي الكرة وكازينوهات لاس فيغاس، والآخرون بشترون التايمز وفوكس نيوز واستوديوهات هوليوود … وزادوا على ذلك باستصدار قانون أذهلني خبثه: حتى لو امتلك عربي وسيلة إعلام نافذة دوليا، فليس من حقه المساس بخط تحريرها !

بقيت الشعوب، شعوب العالم، وهي مختلفة بعض الشيء … بمجتمعها المدني الحيّ، بمثقفيها الأحرار، ببعض أقلامها المطّلعة، بفئة من متمرديها بالغريزة … وها نحن نرى ذلك بين الحين والحين … ولكن كل هؤلاء الشرفاء لا يمكن أن يأخذوا مكان أصحاب الشأن …

من أصحاب الشأن؟ لا لست أنت ولا أسرتك الحاكمة ولا جيشك الذي يجدد تسليحه كل سنة بمليارات الخردة المصفحة … حاشاكم، بل أولاد عم جارة خالة نسيبة بو صاحبة بنتك … ولا تخف، فلن أخبر أحدا …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version