وهْجُ نار

هل تتحوّل أزمة البلاد إلى عجز تام … أو شلل يتطلّب البتر ؟

نشرت

في

 

يتواصل السقوط السريع للدولة تحت حكم مولانا ساكن قرطاج، وأمراء القصبة وباردو…فتونس اليوم تعيش المنعطف الأخير قبل إعلان الإفلاس رغم رفض أمير القصبة ومن معه الاعتراف بما نحن فيه…فالأخبار التي نشرتها بعض وسائل الإعلام وتداولها بعض المتابعين للشأن المالي والاقتصادي بالبلاد تؤكّد معاناة الحكومة في توفير مرتب شهر ماي لموظفي الدولة والقطاع العام…ومجرّد سماع هذه الأخبار يُشْعِرُ الشعب بالرعب والخوف على مصيره ومصير عائلته ومن يكفلهم…

يعيش التونسي اليوم أسوأ الفصول التي عاشتها البلاد منذ إعلان الجمهورية…فمن اختارهم الشعب ليحكموه أخلّوا بوعودهم وبواجباتهم…وانخرطوا في فوضى سياسية لا موجب لها…ولا معنى…وانساقوا وراء أطماعهم وأحلامهم ذات النزعة الاستبدادية وأعلنوا الحرب على بعضهم البعض بهدف الاستئثار بالحكم والاستحواذ على مفاصل الدولة …

<strong>محمد الأطرش<strong>

ساكن قرطاج أعلنها حرب استنزاف على بقية سكان القصور، وعلى كل مكوّنات المشهد السياسي بأحزابه وحركاته وكتله البرلمانية…والحكومة التي تدير شؤون الدولة بجميع مكوناتها، وتطالب الموظّف، والعامل، والمسؤول، والإطار، والأمني، والقاضي، والرياضي، بالمساهمة في انقاذ البلاد بالتبرّع الشهري المتواصل منذ ثلاث سنوات، وتطالبه بنظافة اليد، وبالنزاهة والجدّية، وبالتعامل الحضاري، لم تكن في مستوى ما تطالب به الشعب بجميع أطيافه ومكوناته فسوء إدارتها للشأن العام وجهلها التام بأبجديات التسيير أوصلانا إلى وضع لا نحسد عليه …

فهل التزمت هذه الدولة فعلا بما طالبت به شعبها؟؟ لا… ولا توجد اليوم مؤشرات بأنها ستفعل ذلك قريبا ؟؟ وهذا ما يؤكّد أن دولتنا اليوم بما تحتويه من مؤسسات لم تنجح إلى حدّ الساعة في ممارسة ديمقراطية كاملة ولم تنجح في إدارة الأزمة التي تنخر جسد الدولة منذ عشر سنوات ويزيد…ففي تونس اليوم أصبحت الفوضى عقلية…والكذب عقلية….والتآمر عقلية…وعرقلة المسار عقلية…والفساد عقلية …والمحسوبية قانونا…والمحاباة رؤية…لذلك ولأكثر من ذلك لا يمكن أبدا الخروج مما نحن فيه بمن سكنوا قصور الحكم اليوم…فالمحاسبة والحرب على الفساد والفاسدين أصبحت مجرّد شعار يرفعه كل من يجلس على كرسي الحكم، ولن تخرجنا مما نحن فيه…فمن يحكمنا اليوم لا يفقه في شؤون الدولة ولا يمكنه حتى إيجاد الحلول الكفيلة بإخراجنا من الأزمة…كما أن الشركاء الذين اختارهم لإمضاء وثيقة اتفاقيات الإصلاح هم شركاء بالنصيب الأكبر في ما نحن فيه اليوم…

الواضح أن من كان يصرخ فينا طويلا منتحلا دور الحاضنة لما حدث بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 هو جزء هام مما وصلنا إليه اليوم…فهذا الذي خرج علينا رافعا شعار إسقاط دولة الاستبداد وهو الذي كان يقاسمها غنائم الانتدابات، وطرد العملة تحت الطاولة….وغيرها من الغنائم التي لم يكن يعلمها الشعب…كشف عن استبداد أفظع بكثير ممن كان يشاركهم غنائم الحكم بعيدا عن أعين الشعب… والواضح أنه نجح في التحيّل على الشعب وكشف عن دكتاتورية متخفيّة تحت جلباب المعارضة والثورة…ولسائل أن يسأل كيف انقلب هذا الشريك من شريك خفي ينعم بنصيب كامل من غنائم الحكم والسلطة إلى حاضن للخارجين على الدولة…

هذا الشريك كشف بما أتاه وبرفضه مهادنة الدولة خلال كامل عشرية الخراب والفوضى أن هدفه الوحيد لم يكن الشعب، ولا العاطلين عن العمل، ولا العدالة والكرامة، فكل هذه الكلمات هي مجرّد شعارات كان يرفعها للتسويق والخداع…فلو كان يريد فعلا إيجاد الحلول الملائمة لمئات الآلاف من العاطلين عن العمل، لَهَادن الحكومات ولَرَبَط تجميد الزيادات في الأجور بتجميد الأسعار للمحافظة على القدرة الشرائية للمواطن، ولأجَّلَ النظر في مطالب تسوية الوضعيات التي كلفتنا أكثر من 3 مليارات من الدنانير إلى ما بعد تشغيل العاطلين…هو لم يفعل شيئا من كل ذلك بل تسبّب بما أتاه في انتفاخ كتلة الأجور إلى ضِعْفَيْ حجمها سنة 2010…فماذا لو استغلت الدولة حجم الانتفاخ بكتلة الأجور والمقدّر بأكثر من عشرة مليارات من الدنانير في الاستثمار وخلق موارد الشغل للعاطلين الموعودين بالتشغيل؟؟

 إذن لماذا تَحَيّل الشريك على الشعب؟؟ أظنّ أن الطمع والجشع هي أسباب خروج الشريك عن الصفّ، فهو وبمجرّد زوال سلطة المنظومة السابقة التي كانت تنعم عليه بنصيب تحت الطاولة، ودون علم الشعب المخدوع انقلب إلى مستبد ينشر الفوضى والخراب يمنة ويسرة …وفشل فشلا كبيرا في فرض الانضباط فعمّت الفوضى، ودفعت البلاد إلى دائرة غير تلك التي كان يطمح إليها، فعمّ السلوك المنحرف كل مفاصل المجتمع ومؤسسات الدولة وأصبح من المستحيل والصعب معرفة الصالح من الطالح، والنزيه من الفاسد، وأصبح الهمّ الوحيد للحكومات التي أشرفت على تسيير شؤون الحكم توفير أبسط ضروريات الحياة من غذاء وصحة…وأصبح الشريك الحاكم الفعلي للبلاد … يتدخّل في تعيين المناصب العليا للدولة، ويأخذ نصيب الأسد منها جهويا ومحليا ووطنيا، ووصل به الأمر إلى فرض قائمات الناجحين في المناظرات الوطنية والجهوية في القطاعين العام والخاص…كما أصبح يعاقب هذا ويفرض ترقية هذا…ويقرّر من يقع تكليفه بالخطط الوظيفية…فالشريك الذي كان يبحث ويناضل من أجل مصالح وحقوق العمال، أصبح يطالب اليوم بطرد البعض منهم فقط لأنهم لم يبايعوه ولم يقبلوا بما يأتيه…هذه هي تونس اليوم وهذا حالها…فشريك الأمس أستحوذ على كل أسهم الحكم في الدولة وفرض سيطرته على أغلب مفاصلها بسلاح وحيد اسمه الفوضى…

أهذه ديمقراطيتكم التي بها تفاخرون؟؟ ألم تعلموا أن الديمقراطية التي تسمح بالإتيان بمن لم يكونوا أبدا من الذين اختارهم الشعب عبر صناديق الاقتراع، ليحكموا أو ليكونوا شركاء في الحكم، لا يمكن لها أن تنجح في تحقيق العيش الكريم لكل الناس…ولا يمكن لها أن تحقّق التقدّم المنشود في كل مجالات الحياة للمواطن التونسي…فالديمقراطية ليست فقط تحالفا مع هذا أو ذاك…وليست في نفس الوقت ترضية ومجاملة لهذا أو ذاك…كما لا يمكن أن تكون تقاربا مجانيا من أجل كسب بعض الولاءات والاستقطابات…وليست أيضا “توافقا” ظاهره “عناق وقُبل” وباطنه ضرب تحت الحزام…

الشعب التونسي ملّ الشعارات الزائفة والخطب الجوفاء من طبقة سياسية لا همّ لأغلبها غير الانشغال بالصراع على المناصب والمنافع…هذا الشعب أصبح له بعض الوعي ليطالب بالتطبيق الفعلي والممارسة الكاملة للديمقراطية الموعودة…وهذا الشعب اليوم متعطّش لقطف ثمار هذه الديمقراطية التي أوهمه بها التتار الجدد…فالسياسي المحنّك والعارف بخفايا الأمور هو من يسعى إلى بناء دولة قوية…وهو أيضا من ينجح في كسب تأييد شعبي أوسع …لكنه أيضا من يمتلك من الشجاعة ليقول “الآن سأتراجع وأعيد حساباتي”…فالسياسي الذي يخيّر عدم تحمّل تبعات فوزه من خلال صناديق الاقتراع، ويختار تحالفات هشّة يَلْوي من خلالها البعض ذراعه لا يمكن له أبدا أن يجتاز كل العراقيل التي تعترضه…وتونس اليوم في مفترق طرق فإما أن يتحمّل البعض مسؤولياته كاملة ويقطع مع التحالفات الهشّة والمغشوشة أو فإن البلاد ستغرق أكثر…لذلك لا أرى شخصيا موجبا للمواصلة في العمل مع من لم تأت بهم صناديق الاقتراع، وليتحمل من أوصلتهم الصناديق إلى كراسي الحكم مسؤولياتهم كاملة أمام الشعب إن فشلوا في انقاذ البلاد من الغرق…فالشعب انتخب أحزابا ولم ينتخب تحالفات تُبنى بعد حوار أو جلسة في مقهى من مقاهي الضاحية الشمالية…فالحوارات التي يبحث مهندسوها عن حلّ لمشاكلهم ومخرج لأزماتهم لا تلزم الشعب في شيء ولن تخرجه مما هو فيه…

لا أظنّ أن الشعب سيبقى جالسا طويلا يشاهد فصول المأساة…فنحن اليوم في مأزق قد لا نخرج منه أبدا دون خراب أكبر ودون دماء لا قدّر الله…فالفتنة أصبحت تطلّ برأسها من أحد القصور… فمن المسؤول عن هذا الوضع الذي ينذر بكارثة سياسية ومأزق دستوري قد يتطوّر إلى ما لا تُحمد عقباه؟ ومن القادر اليوم من بين كل هذا الحشد الماسك بشؤون الحكم على الامساك بتلابيب هذه الورطة والخروج بتونس التي نحبها جميعا الى بر الأمان …

علينا قبل كل شيء أن نذهب إلى التشخيص السليم والواقعي والحقيقي لما نحن فيه وعلينا أن نعترف ونكشف صراحة من كان سببا في ما نحن فيه…فعشر سنوات من الصمت والخوف من كشف الحقيقة أوصلتنا إلى حالة متقدّمة من مرض عضال وإن لم نسرع بكشف الحقيقة أمام الشعب وتحميل كل طرف مسؤولياته أمامه فإن “المرض” الذي نعانيه قد يصبح في قادم الأشهر عاهة أو عجزا دائما أو شللا يتطلّب البتر…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version