أخيرا أصبح عندنا حكومة…ووزراء …ومكلفة بتسيير شؤون الحكومة …فهل سيتغيّر حال البلاد حقّا…وهل ستعرف بلادنا استقرارا غاب عنها منذ أكثر من عشر سنوات؟ هل يعلم وزراء حكومة قرطاج أنهم مطالبون بإتيان معجزة من معجزات هذا الزمن، أيعلم جميعهم أنهم مكلفون بمهمة محدّدة بالزمن وأنهم سيكونون عرضة للإعفاء مع أول خطأ يرتكبونه؟ لا أظنّ أن جميعهم يعلمون بما هم مقدمون عليه وما ينتظرهم…
الخطأ الوحيد الذي وقع فيه اليوم ساكن قرطاج هو أنه لم يع إلى يومنا هذا أن أغلب خصومه قبلوا بما أتاه يوم 25 جويلية، جميعهم قبلوا وسعدوا بالأمر وأنا كنت أولهم وأنا الذي كان أكثر من انتقدوا حكومة المشيشي وكتب حولها العديد من المقالات والعشرات من التصاميم الكاريكاتورية، وقد اعتبرت يومها “الانقلاب” محمُودا في الكثير من أجزائه فلو اكتفى بما أتاه ذلك اليوم، ووقف عند ويل للمشيشي، واختار رئيس حكومة من الذين يثق بهم كثيرا ويأتمنهم على المرحلة خلال اليوم الموالي لأصبح “ملكا” على البلاد دون منازع أو خصوم…فجميع خصومه ملّوا حكومة المشيشي حتى من صنعوا حولها حزاما برلمانيا…
وعدم الوعي الجدّي بهذا الأمر هو الذي أوقعه في خطأ اجترار نفس الخطاب العنقودي والناسف في كل مناسبة تسنح له، فحفل الإعلان عن حكومة قرطاج أفسده التشنّج الواضح في كلمة ساكن قرطاج، فكل مكوّنات المشهد السياسي اقتنعت بضرورة حلّ مجلس النواب لكن مع المحافظة على الدستور لتنقيحه في وقت لاحق ولا أظنّ أن أيا من الأحزاب الممثلة تحت قبّة باردو كان ينتظر عودة المجلس…لذلك أظنّ أن زمن الخطاب الناسف ولّى وانتهى وعلى ساكن قرطاج التفكير بجدّية وبمنطق وعقلانية في مستقبل البلاد في قادم الأيام بعد أن أطمأن على حكومة تصريف الأعمال وتشكيلتها…
ولادة الحكومة لم تكن بالولادة العسيرة فوالدها لم يكن يؤمن كثيرا بحكومة في مثل هذه الظروف وقد أعادها على مسامع الجميع في العديد من المناسبات بقوله “لا موجب لحكومة ما دامت شؤون البلاد ومرافقه لم تتوقّف”…فماذا أتى بهذه الحكومة إذن؟ هذه الحكومة، هي حكومة اسكات خصوم الداخل والخارج، وكسب دعم طيف واسع من الشعب التونسي، فهذه الحكومة هي التي وفّرت فرصة اختيار امرأة للجلوس على كرسي القصبة، وفرصة تمكين تسع نساء من حقائب وزارية دون اعتبار المكلفة بتسيير شؤون الحكومة…وهذا أيضا يدخل في إطار كسب المزيد من الدعم والمساندة من طيف أصبح أغلبيا في تونس ولنا في المليون امرأة التي اختارت الرئيس السابق رحمه الله خير مثال…
كل هذا الذي يقوم به ساكن قرطاج يؤكّد مرّة أخرى أنه يخطّط جيدا لما يهدف إليه…وحين نتعمّق في كل أهدافه التي حقّقها نجدها متشابهة جدا فجميعها يصبّ في خانة تجميع الأتباع وحشد الأنصار وكأنه على موعد مع استفتاء أو محطة انتخابية قادمة…فالرجل يفكّك وبالتقسيط المريح كل هياكل الحكم والمنظومة التي سيطرت عليه منذ عشر سنوات ولم يبال يوما بما يردده خصومه…وكأنه مقدم على إعادة بناء كاملة لدولة تحتضر…فماذا سيكون دور هذه الحكومة يا ترى والرجل أصرّ اليوم على أن التدابير الاستثنائية ستتواصل حتى اشعار آخر فالخطر لا يزال جاثما على هذه البلاد حسب قوله…فعن أي الأخطار يتحدث الرئيس يا ترى؟ فعمر هذه الحكومة سيكون كعمر هذه الإجراءات إذن…وستموت مع موت هذه الإجراءات الاستثنائية…
أظنّ أن هذه الحكومة لا دور لها غير تلميع صورة الدولة وساكن قرطاج خارج تونس لضمان مواصلة دعم ومساعدة الدول والمنظمات المانحة، واقناعهم بالجلوس للتفاوض مع الوفد التونسي، وربما تأجيل الترقيم السيادي الجديد إلى موعد لاحق يعطي الفرصة لتونس لإصلاح بعض أوضاعها، فساكن قرطاج أفسد علاقة البلاد من خلال بعض ما قاله في بعض خطبه الأخيرة مع بعض المنظمات الدولية الداعمة كما أخطأ حين خاطب مؤسسات التصنيف العالمية بطريقة اعتبرها بعضهم خارجة عن النصّ…وهذا ما يؤكّده اختيار ساكن قرطاج لامرأة لا علاقة لها بشؤون المال والاقتصاد، اختيار نجلاء بودن كان لضرب عصفورين أو أكثر داخليا بحجر واحد…فهي امرأة ولن يخاف من أن تعضّ اليد التي امتدّت لها كما فعلها معه هشام المشيشي ولن تنقلب عليه أبدا…كما أن تسمية امرأة على كرسي القصبة سيكون له وقع كبير داخل البلاد وخارجها، فنساء تونس سيسعدن كثيرا بالأمر وسيدعمن المرأة بكل ما أوتين من قوة، ولأن ساكن قرطاج يدرك مدى سيطرة المرأة التونسية داخل بيتها، فكل الداعمات والمساندات لنجلاء بودن ستصبحن سفيرات لساكن قرطاج داخل بيوتهن، وسيتضاعف عدد الأتباع والمساندين كيف لا وهو دخل أغلب بيوت التونسيين من أبوابها ولم يكن في حاجة إلى الاستئذان…
إذن فهذه الحكومة هي فقط لإيهام الداخل والخارج بأنه لم يخرج عن إطار الدستور وأنه متشبث بفصوله ولن يغامر بتعليقه، فتعليقه سيثبت عليه “تهمة” الانقلاب التي يتهمه به كل خصومه في الداخل والخارج…فماذا يمكن أن نسمي حكومة بودن إذن؟ أظنّ أن حكومة السيّدة نجلاء بودن هي ببساطة حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات ومحدّدة في الزمن، ولن يكون لها دور آخر غير ذلك، فبودن ستكون مكلفة بمهمّة واحدة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها حتى يعلن ساكن قرطاج ما قرره لمستقبل هذه البلاد…
لكن هل سيصبر الشارع التونسي عن حكومة بودن حتى موعد الانتخابات القادم؟ لا أظنّ ذلك أبدا…فالشعب عاش طيلة عشر سنوات ويزيد في ظلّ منظومة سياسية لم تقرأ له أبدا حسابا ولم تعر مشاغله ومشكلاته اهتماما ولم تعطه أولوية في كل برامجها ومخططاتها… فمنظومة العشرية الأخيرة سعت لغايات لا أحد يعلمها لخلق مناخ مشبع بالضبابية يدعم استمرارها في الحكم وتحقيق ما تريده…فشل منظومة الحكم التي يُعتبر ساكن قرطاج جزءا منها اصاب الناس في مقتل، فتحوّل اغلب سكان البلاد الي مجرد كائنات تسعي في الدنيا لا تعرف الي اين؟ ولا كيف؟ فالمهم هو البقاء وتحت اية شروط وأيا كانت الوسائل، وقد شاهدنا طيلة عشر سنوات وأكثر الآلاف من الشباب اليائس يطالب عائلته ببيع ما يمكن بيعه ليركب حطام مركب يبتعد به عن هذه الأرض التي رفضته وقد لا يصل إلى مبتغاه ليكمل رحلته في أعماق المتوسّط…هذا ما فعلته المنظومة السابقة بأبناء تونس، فهي لا تريد الاعتراف بما فعلته بالبلاد ولم تسع يوما لتغيير الواقع المؤلم لشباب هذه البلاد، فدمّرت كل إمكانية لردم الهوّة بين الشعب وحكامه…كما أن هذه المنظومة لم تبحث عن إيجاد مشاريع بديلة لتغيير هذا الواقع المُميت، فنخب البلاد سقطت أيضا في فخّ المنظومة التي استقطبتها لتصبح احدى آلياتها التي تنظّر لها وتخطّط لإطالة عمر وجودها في الحكم… هذه النخب الموالية اصطدمت بنخب أخرى معارضة أفرزت خطابا عنيفا ضد بعضها البعض لا هدف من ورائه غير إيجاد وسيلة للاقتراب من منظومة سياسية لا تقبل بغير الاذناب…
خلاصة ما تعيشه البلاد…هل ستخرجنا الحكومة “البُودنية” نسبة إلى المكلفة بتسيير شؤونها مما نحن فيه أم سنغرق في بحر من الأوهام حتى موعد إعلان ساكن قرطاج عن نواياه؟ لا أظنّ أن هذه الحكومة ستحل مشكلة البطالة…وستفعل قانون 38 الخاص بالمعطلين …ولا أظنّ أنها ستلتفت إلى الاستثمار لخلق مواطن شغل جديدة وتحريك عجلة الاقتصاد…ولا أظنّ أنها ستقدم على إصلاحات في العمق للتعليم والصحة والشباب والقطاعات المنتجة… أظنّ أنها ستكتفي بتصريف أعمال الدولة من أجور وغيرها من الشؤون الحياتية ..ولا أظنّ أنها قادرة في ظرف زمني كهذا على الحدّ من ارتفاع الأسعار وإيقاف نزيف المطلبية التي أنهكت خزينة الدولة…لذلك أقول إنه علينا فهم ما نعانيه وما تعانيه البلاد منذ دخول التتار والوندال أرضها …علينا أن نعي خطورة ما نحن فيه اليوم وأنه علينا أن لا نستسلم لدعوات الفتنة التي بدأ البعض يروّج لها من خلال ما تعيشه البلاد كل نهاية أسبوع في شوارع العاصمة وبعض المدن الكبرى…فأزمتنا ليست فقط مجرّد أزمة حكم ومنظومة حكم بل هي أشمل من كل ذلك…أزمتنا أزمة وطن غاب عن أعيننا، وعلينا أن نستعيد معنى هذا الوطن حتى لا نفقده في غمرة نشوة انتصارنا على خصومنا…