كلّ نار
هل كل إنجازاتكم تغيير الأسماء؟
نشرت
قبل 4 سنواتفي
للكوميديان الشعبي الراحل نصر الدين بن مختار نكتة تقول إنه سيأتي زمن يصل فيه غلاء بعض المواد إلى درجة غير مسبوقة … إلى درجة مثلا أن يقصد أحدنا مطعما و يطلب “كسكروت بالتن”، فإذا بصاحب المحلّ يمسك نصف خبزة و يفتحها و يضع بين شطريها ورقة مكتوب عليها “تن” و يسلمك ذلك فتدفع الثمن و تمضي راشدا، أو تأكل بالهناء على عين المكان … و ممكن أن تطلب شيئا من الزيتون أو الهريسة أو فلفل بر العبيد فيقول لك الرجل “حاضر” و يأخذ تلك الورقة و يخنتب عليها بالستيلو: زيتون، زيت زيتونة، مغرفة هريسة، قرن فلفل … و يمكن حتى أن يأخذ بخاطرك و يغيّر الوجبة بأكملها لو شئت و بنفس التقنية … فينقلب الصندويتش من الحار إلى الحلو، و من التن إلى المعجون، و يمكن حتى تحويل وجهته إلى العسل الحرّ لو أردت … و دائما بمجرّد تدوير قلم حبر على ورقة …
تذكرت هذه الحكاية و ترحمت على صديقي العظيم و قلت ما أقدر الموهبة الكبيرة على استكشاف المستقبل و كأنها تمارس العِرافة ! … فها أن الرجل رغم رحيله منذ قرابة الثماني سنوات، ينظر بعينيه الذكيتين في كفوف أيدينا و يحصي بالمناسبة “الكفوف” التي سنأكلها في قادم الأيام و حاضرها … للسوق قوانينها طبعا، و لكن سوقنا الفوضوية كسرت أعناق القوانين و تربعت فوق حطامها … تلك سوق التجارة، فما بالك بمرشي السياسة و الحكم و ازدحام الباعة و السمسارة و القشارة على أرضه و أبوابه كل ينادي على سلعة … و كل يبتكر أصفى و أرقى و أعلى أنواع الغش و ذرّ الرماد مرهما للعيون …
من مبتكرات جيلنا السياسي الثالث (كما أجيال الهجرة) أنهم يوهمونك بالحركة و هم قاعدون مثل تماثيل بوذا … و يمثلون عليك دور البنّائين و هم إلى حرفيي الدهن أقرب … تغمض عينيك بين يوم و ليلة، فتجد منشآت جديدة و مؤسسات و منجزات تفتح فمك لتهتف عند رؤيتها: الله أكبر … و لكنك بعد فركة جفن واحدة تنقلب من الله أكبر إلى الله يهلككم و الله يحشركم و الله يمكر مع مكركم و هو خير الماكرين … بل شرّ المعاقبين ما دام واجدا تحت سلطانه فراعين جددا و طغاة زمن و حواة يسرقون ملابس المتفرج و هو يضحك منتشيا كالأبله السعيد …
خذ عندك … منذ عشر سنوات لم يفعل الحكام الجدد شيئا يتعلق بوقف الشعوذة التي يمارسها أصحاب مدارس السياقة و شركاؤهم في الفساد ممتحنو النقل البري الذين لطالما عانت منهم أفئدة و انثقبت جيوب و بكت عيون و ارتجفت أطراف … قفير من مصاصي الدماء يمارسون الابتزاز العلني و يا ويلك إن لم تستجب لهم ففي انتظارك سقوط محتوم و قرار حاسم قاتل لا استئناف فيه و لا تعقيب … و ليس سرّا لدى الجميع بأن مهندسي النقل البري (و لست متأكدا من انتمائهم لمهنة الهندسة) فيهم نسبة مرتفعة من صبيان المافيا و المصابين بعقدة سادية يتلذذون جرّاءها من آلام الناس و تعب الشبان الصغار و ذهاب مال الساعات الطوال هدرا بمجرد خطإ يجبرونك عليه جبرا أو يختلقونه لك اختلاقا … أما إذا كنت من شطّار البلاد و سلّحت نفسك بمبلغ سمين أو توصية مغلّظة، فأنت ناجح و لو كانت معرفتك بالسياقة كمعرفة أبي الشمقمق بمكّوك شالنجر … و جاءت ثورة الكزّ التي عرفناها، و بدل أن يكشف دعاة (و أدعياء) مكافحة الفساد ذلك في ما يكشفون، اكتفوا بتغيير لافتة “سيارة تعليم” الموضوعة فوق سيارة النكد تلك، بلافتة “سيارة تكوين” … و هي طبعا تسمية خاطئة على طول الخط، فالشاب الذي يذهب هناك إنما يتعلم لكي يسوق عربة، و ليس بالضرورة رائحا لكي يتكوّن في صنعة من الصنائع … و لكن وزارة النقل فعلت ذلك هدية لأصحاب تلك المدارس، الذين يطالبون بنصيبهم من المنح و الامتيازات التي تعطيها أليات التربية و التكوين للمؤسسات المتخصصة في ذلك … و لو كان البحث العلمي مثلا أو التنقيب عن النفط يحظى بتلك الخيرات، لرأينا فوق سيارة “الأوتو إيكول” عبارة “سيارة بحث” أو “سيارة جيولوجيا” …
في باب آخر … نشهد كلنا أن السلطة القضائية في تونس مضروبة على يديها و ممنوعة حتى من أن تكون سلطة … و ها أن بلادا كاملة واقفة الآن بمصالحها و حقوقها و سير أعمالها، أولا بفعل إضراب القضاة الذين لم يتعاطف معهم تقريبا أحد … و ثانيا بمفعول القرارات العجيبة و الصمت الأعجب الذي يمارسه عدد من القضاة في حق جرائم و مجرمين و متهربين و إرهابيين و غير ذلك من سلسال المآسي التي نعيشها … كثيرون منا ينتقدون سير العدالة، و الحقوقيون و المعارضون يصفون ذلك بعدم استقلالية القضاء … و دون أن نتلبّس هذا الموقف أو ذاك، نقول إن القاضي التونسي أقل ما يقال فيه إنه مكتوف اليدين مقطوع الأطراف يعمل في ظروف من أردإ ما يكون و تتحكم في شغله و مصيره كم جهة نافذة و لا حماية له و لا حصانة رغم الزعم بأن قضاءنا محصّن … و يكفي النظر إلى حال محاكمنا و قاعات جلساتنا و تلال الملفات المطروحة أمام نظر أي من قضاتنا، حتى نفهم بعضا من معاناة مستشارينا الأشراف و معركتهم اليومية بين ظروف العمل و نزاهة الحكم … و بدل أن ننشغل جدّيا بوضع هذه المنظومة و نساعدها على مداواة جراحها و النهوض بيننا معافاة منصفة للحق دون أن يُكسر لها حُق … بدل ذلك، اكتفينا بتغيير اسم “دائرة المحاسبات” (و هي تسمية سليمة أنيقة مندمجة في تاريخنا العدلي العريق) و حططنا مكانها تسمية “محكمة ” المحاسبات … ناسين أن القضاء الإداري و المالي له خصوصية تختلف عن محاكم الحق العام أو محاكم الناحية … و لكن الجهل يعمل …
محطات ردح أخرى مارسنا فيها لعبة تغيير الأسماء و تبديل الطولة أو تزويرها لإيهام الناس بأننا نبني و ننجز … فمن إضافة اسم “الشعب” إلى “مجلس النواب” القديم دون إضافة و لو ياجورة إلى المبنى الموروث … إلى حذف صفة “العمومية” من عنوان وزارة الصحة و ليتنا أتممنا الجميل و سميناها وزارة الإضرار بالصحة … إلى التدليس المنافق لاسم جامع العابدين بقرطاج و كأنّ كرهنا للرئيس السابق جعلنا نعادي معه الكلمات المشتقة من العبادة … إلى تغيير لافتة دار التجمع بشيء لم أفهم معناه إلى اليوم و هو “عمارة الوطن” التي قد تصبح يوما “بالاص الأمّة” دون أن تربح البلاد شيئا … إلى “وزارة الإعلام” السابقة التي توزّعت مهامها القديمة بين الهايكا وتلك الوزارة التي ورثها علي الحفصي عن مهدي بن غربية عن كمال الجندوبي عن سيل طويل من العنعنات، دون فائدة تذكر … إلى منحة التواكل التي سماها نجيب الشابي منحة أمل، و تعاور غيره على برقشة اسمها من “منحة الكرامة” إلى “الغراسات و البستنة” إلى غير ذلك، و أهلكنا بها جيلا من شباب ثورة كان يعتصم وطنيا في القصبة 2 فأصبح يعتصم ـ محليّا ـ في الكامور قاطعا رزق شعب كامل … إلى شركات أقرباء النظام السابق التي صادرناها “بوه على خوه” دون سند قانوني أو منطقي، و قضينا على إنتاجها و الآلاف من مواطن شغلها، و وضعناها تحت هيكل وهمي اسمه “هولدينغ الكرامة” و ما هو في الحقيقة سوى جُمّاع من الموظفين الجهلة و كبار اللصوص أجهزوا على الفريسة و أكلوا منها ما أكلوا و البقية هاهي طعام للصدإ و الدود و الروائح الكريهة، روائح ما بعد 2011 خاصة …
و أكثر ما يستفزّك هو ما حصل منذ أيام في عاصمتنا الثانية “صفاقس” التي تئنّ بأحمال حالها مدينة ثم ولاية ثم ملتقى لنصف ولايات الجمهورية دون أن نعطيها مددا كي تنهض بأدوارها و تعيننا على حمل أذن القفة كما يقال … فالصفاقسية الكرام تعوزهم مرافق كثيرة و صارت بناهم التحتية تضيق بما يفد عليها من ملايين الناس و لا مبالغة … و هات مثلا المجال الصحي … كان بصفاقس مستشفيان مصنفان ضمن المستشفيات الجامعية … الأول قديم من عهد الباي (الهادي شاكر) و الثاني أضيف على الأول في الثمانينات و سمي كغيره على اسم الزعيم بورقيبة … و لن نعود كثيرا إلى الظروف السياسية و التاريخية التي فرضت فصل الثاني عن الأول و إفراده بكيان خاص رغم أنهما متلاصقان كإصبعيْ اليد الواحدة … قصة طويلة هي ذات القصة التي تتكرر اليوم في شكل مهزلة … و قد عانى كلا المستشفيين من هذا الفصل المتعسف بين جناح للأقسام الطبية و جناح للأقسام الجراحية و بعض المرافق الأخرى التي لا يستغني أحدها عن الآخر … و حصلت من وقتها مشاكل و نزاعات و تعطيلات لا تحصى لمصالح المواطنين جرّاء هذا التقسيم الاعتباطي السياسوي …
و جاءت هذه اللاثورة و تخيلنا أن مشاكل البلاد ستنحلّ و منها مشكل شاكر / بورقيبة كما قلنا … غير أن وضع الصحة العمومية في صفاقس زاد تدهورا و توترت العلاقات أكثر و أكثر و هبط مستوى الخدمات و لم نجد طبعا من شماعة نلقي عليها مصائبنا سوى النقابات و الإطار الصحي … و يبدو لي أن فكرة “النظام العسكري” الرائجة اليوم كحلّ سهل (أو مستسهل) لسوء سير البلاد … يبدو أن فكرة العسكرة جاءت مع تعيين مدير برتبة ضابط لأحد المستشفيين المذكورين … و قد حصل ذلك فعلا و منذ سنين، و مع ذلك لم تتقدم الأحوال قيد أنملة و لم ينفع معها ضباط و لا جيش و لا حتى الأسطول السادس …
و بدل أن نتعظ من هذه الهرطقات و نتشجع و نعالج الملف بروية و تدقيق و استماع لأصحاب الشأن من مرضى و مهنيين و متعاملين مباشرين مع منظومتنا الصحية … بدل هذا، واصلنا السير في غيّنا و في انتهاج نمنامة العسكرة ناسين أنه حتى المستشفى العسكري بتونس هو في أصله توسعة لمسنشفى حبيب ثامر المدني العريق … و لم ينهض بعد أن صار عسكريا إلا بفضل أبناء الصحة المدنيين و لم تقم له قائمة إلا بعد أن عين له الدالي الجازي (و قد شغل تباعا وزارتي الصحة العمومية و الدفاع) إدارة مدنية في مستوى اختيارات رجل دولة كبير مثل الجازي رحمه الله ..
الغيّ الجديد تمثل في الاستيلاء على هدية من الصين الشعبية أرادتها متنفسا لمدينة في حجم صفاقس، و مكسبا شعبيا من حيث جمهور الخدمات و انتداب القائمين عليها من مهنيي أبناء الجهة، في مؤسسة جديدة ضخمة تلبي ما يحتاجه محيطها من خدمات صحية و مواطن شغل … و تكون منارة مشعة على المدينة و الولاية و كامل القطر … فإذا بنا نسطو على المعلَم و نطلق عليه تسمية سياسوية استعراضية (كعادتنا) و ننسف معانيه و أهدافه و بُعده المحلي و الجهوي و الوطني و حتى المغاربي في آن واحد …
الخطأ الأول، في تسمية المستشفى الجديد … المرحوم سليم شاكر كان وزيرا من أكفإ و أنزه من عرفنا و هذا لا شك فيه … و كانت وفاته المبكرة حال استرابة تقارب الاغتيال، و كثير منا (و أنا أحدهم) يعتبرونه عند الله شهيد واجب و من بررة الوطن … و لكن هناك مشكلة صغيرة … فقد سبق لصفاقس أن أطلقت اسم “شاكر” على مستشفاها الكبير الأول، و هو ما زال قائم الذات و معروفا لدى الصفاقسية و التونسيين عموما كنار على علم … فما رأيكم لو تصعد سيدة عجوز متعبة في سيارة تاكسي و تقول للسائق احملني إلى مستشفى شاكر … فهل سيسألها أي من “الشاكريْن” تقصدين يا حاجّة: سليم أم الهادي؟ … يمكن لنا أن نضع اسم الوزير الراحل على أي مستشفى في نابل، في تونس العاصمة، في مدنين، في سليانة، في أية مدينة فهو ابنها جميعا … و دون أن يقع خلط في التسميات أو في الأدريسات …
الخطأ الثاني أننا ننسب ما لا يحق إلى من لا يستحق … قلنا في مقال سابق إن لوزارة الدفاع إدارة للهندسة العسكرية هي من أنجع و أخلص ما يكون … فيها من المهندسين و المهندسين المعماريين و العملة المهرة و مكاتب الدراسات و أسطول التجهيزات ما يضعها في مقدمة مقاولات البناء و الأشغال الكبرى في بلادنا … إضافة إلى رصيد عقاري من أكبر ما لدينا في الجمهورية … و قد اقترحنا على رئيس الدولة (قائد قواتنا المسلحة الأول) مشروع إقامة مستشفى عسكري بكل ولاية من ولاياتنا بدل الثلاثة الموجودين حاليا … و هدفنا في ذلك أن يعاضد جيشنا مجهود التنمية كما اعتاد ذلك، و يدعم خارطتنا الصحية المتآكلة و التي رأينا ضعفها مؤخرا في حادثة جندوبة …
و لكن بدل أن يسعى الأستاذ إلى ذلك و نكون له من الحامدين المعترفين … حمل معه في سيارته الرئاسية لافتة قماش و منذ وصوله إلى صفاقس لتدشين هدية الأصدقاء، تحول المستشفى الصيني بقدرة قادر إلى “مستشفى عسكري” … دون أن يكون لجيشنا البطل المغوار يد فيه و لو كانت يد بالة أو بيوش … و بجرة قلم واحدة، أوصدت الأبواب الحديدية الثقيلة في وجوه مواطنينا القادمين من قفصة و قبلي و توزر و مدنين و قابس و تطاوين فضلا عن صفاقس و أحوازها، و المنتظرين المولود الجديد بفارغ الصبر و منذ حجره الأساسي … تحركت الأبواب في وجوههم و قامت على الثغور فرق الشرطة العسكرية، و اُشهرت أمام سحناتنا الواجمة عبارة: ممنوع إلا على العسكريين و عائلاتهم …
أهذا ما انتظرناه منكم طوال عقد من الزمان ؟ أهذا ما يريده الشعب الذي تفرقعون آذاننا باسمه على أنه يريد فماذا يريد؟ … بل ماذا تريدون أنتم و لو كنت مكانكم و حتّمت عليّ الظروف بأن أعطي للمستشفى الجديد هذه الصفة الحربية … لتحلّيت بقدر أدنى من الأمانة، و أطلقت عليه تسمية: مستشفى الجيش الأحمر الصيني … لا غير …
تصفح أيضا
“إنه ليوم صيفي، فما أجمل الشمس تنير الدنيا وتدفئ الأركان الباردة وتحيي العظام وهي رميم … لقد اغتنمنا الفرصة هذا الصباح فأخرجنا المفارش حتّام تتخلص من رطوبة الشتاء” …
ومضى صاحبي صلاّح باراشوك السيارة إلى داخل ورشته، ومضيت أسأل نفسي عن الشتاء والصيف وأيّ صيف؟ نحن في بداية شهر فيفري والمفترض أنها سحب ورعود وتهاطلات وإنذارات حرس وطني وحماية مدنية وقبلهما مصلحة الأرصاد … لا … لم يقع شيء من هذا، عدا مطرتين متوسطتين وبعض ثلوج بعين دراهم وتالة وهضابنا الغربية … ورافقت ذلك رحلات سياحية لأبناء المدن وصور سعيدة على فايسبوك … انتهى التصوير بانحسار السماء عن طقم نضيد من الزرقة القاتلة … فلا غيوم، ولا عواصف، ولا ثلج ولا مطر بعد هذا …
أيّ كرب نعيش يا ربّاه …
حتى السدود فرحت أياما قليلة وبدأت في ردم جفافها المنذر، غير أن الأمتار المكعبة الأولى بقيت هناك تنتظر المزيد ولا مزيد … وعاد خوف العطش إلى القلوب، وهل هناك شرّ من العطش؟ شعوب بكاملها هُجّرت أو اندثرت عبر التاريخ جرّاء هذا التهديد أكثر مما فعلته الحروب … عمائر خضراء مترامية راحت نضارتها إلى الأبد وتحوّلت إلى صحارى … ونحن من هاتين الفئتين تحديدا، مصنّفون ضمن أكثر الشعوب هشاشة مائية وتعرّضا لهذا الموت الذي لا حياة بعده … فحتى هجرة القرون الخوالي لم تعد ممكنة، بعد أن أقيمت دول ورُسّمت حدود و أُشهِرت تأشيرات دخول …
قبل بلوى العطش، ابتلانا الدهر بطوائف سياسية مجرمة تستوي عندها الدولة والفريسة، الوطن ودار الجيران، الرأس وحائط مبنى بعيد … ارتقت ظهورنا كالدواب طوال 12 سنة ففعلت كالذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى … على طول تلك المدة، شهدنا أعواما سِمانًا ومواسم خير ومطر عميم … منذ 2011 والسماء كريمة معنا كرم شعبنا وأريافنا ومدننا الداخلية وعواصم جنوبنا وشمالنا … لكن طبقة قطران السياسة وزفتها أهدرت جود السماء كما أهدرت عطاء الأرض وسكّانها …
بالعكس … فقد حوّلت عطاء ملايين الأصوات التي رفعتها عاليا، صيّرت ذلك خنجرا في الصدور و ذريعة لسرقة رزقنا وتقاسم أسلابنا والإفلات من محاسبتنا … تماما مثلما حرّفت مسار الماء من رواء للبشر والشجر، إلى فيضان ماحق وكوارث طبيعية ونداءات استغاثة من كل جنب … سدودنا المذكورة أعلاه بناها إما الاستعمار أو “الاستبداد” كما تشتمون في خطبكم الكثيرة، أما أنتم فلم تنجزوا ولو … طبعة جديدة من كتاب “السد” للراحل محمود المسعدي !
لو قيّض لنا أن نقيم صلاة استسقاء جديدة وسط هذا الجفاف، فلن نقول فيها سوى: اللهمّ هات سحبا سوداء و سيْلا عرِما، وابعثْه فقط حيث يسكن من خانوا تونس وأكلوا أخضرها ويابسها … اللهمّ اشوِ أكباد أمّهاتهم كما فُجِعتْ أمهات من حرقوا وغرقوا جرّاء سياسات النكبة … أما نحن، فلنمُت بعدها من الظمإ … المهمّ بعد أن نرى جثث الجناة تطفو أمامنا كأسماك نافقة لفظها البحر .
أشهد أنّا عشنا مثل هذا اليوم من 12 سنة … ليس المقصود هنا 14 جانفي الذي قيل ويقال ويمكن أن يقال عنه الكثير الكثير … لا، لسنا في معرض ذلك اليوم المثير للجدل … بل اليوم الذي يليه، أي 15 جانفي 2011.
يوم السبت 15 من الشهر الأول لسنة 2011 هو برأيي أهمّ يوم في تاريخ تونس كلها و لا مبالغة … لامبالغة ولا هزل … والأسباب متعددة أولها أنه اليوم الوحيد تقريبا في تاريخنا الطويل، الذي لم يكن يحكمنا فيه أحد، لا من داخل البلاد ولا من خارجها … ومن ينظر إلى تاريخنا منذ إنشاء الدولة التونسية في 814 ق م، يرى أنه كانت على رأسنا دائما دولة ورئيس دولة مهما كان الاسم والصفة … سواء في دولتنا القرطاجية الوطنية التي تحولت إلى امبراطورية حكمت العالم القديم طيلة 500 عام … أو تحت الاحتلال الروماني الذي جاء بعد خسارة الحرب الثالثة واستمر قرونا … عقبته مراوحات بين الحكم الوطني والتدخل الأجنبي إلى حدود الأسبوع الثاني من سنة 2011 !
إذن لم نعرف زمن “سيبة” كما عرفتها شعوب أخرة جارة و غير جارة في معظم فترات تاريخها … كما لم نعرف ـ ويا للغرابة ـ هذه السيبة حتى عند هروب رئيسنا الأسبق أبو سيرين رحمه الله ومعه كامل الطاقم الموالي الذي اختفى إما جسديا أو معنويا … كما تبدّى ذلك في لجلجة آخر “وزير أوّل” حمل عندنا هذه الصفة وهو المحترم (ولكن الضعيف) محمد الغنوشي …
إذن حدث هروب فشغور فظهور لبضعة وجوه بين عشية 14 وليلها الطويل … هرب المرحوم، وشغر كرسيه، وظهر سي محمد ووراءه ثلاثة باشوات من البرلمان والمجلس الدستوري إلخ … ولن نعود ثانية للحديث عن الربكة التي حصلت بين مادتين في دستور ذلك الوقت (57 و58 أو 56 والله نسيت) … وحصل اختصام شكلي فُضّ بسرعة حول من يمسك الدفة الآن … ولكن الجمهور كان لاهيا عن كل هذا، مخطوف الأنفاس بتعاقب الأحداث والجزيرة تقنبل علينا أخبارا ونعيا وظفرا واحدا وراء الآخر بعدد دورات شريطها المتحرك أسفل الشاشة …
مع المغرب كلمني الزميل عامر بوعزة من إذاعة المنستير على المباشر وقال لي بصفتك كذا وكذا، ما تقول في هذه الهزّات المتلاحقات؟ … أجبته في حماسة أغبياء السوق: ما حدث هو ثورة … صُدِم الرجل وهو يسمعني أكيل الشتائم يمينا وشِمالا كالمخبول فلم أترك إنسا ولا جنّا إلا حدفته بماء النار … القلب مطفطف فلا لوم … وأكيد أن الزميل (الذي عوقب) يلعنني إلى هذه الساعة وكله ندم على أنه فتح الميكروفون لأحد المختلّين عقليا …
الصحيح أننا كنّا أكثر من عشرة ملايين مختلّ … نعم … وعلى “الحكماء” الذين يشربون اليوم قهوتهم الساخنة بأعصاب باردة، أن يعيدوا في ذاكرتهم تلك اللحظات، تلك الأيام، تلك الأعوام … بعيدا عمّا فعله السرّاق الجدد من فظائع، بعيدا عن قدرنا الذي يجعلنا دوما نترحّم على السواد القديم قياسا إلى المداد الذي يجيء بعده، بعيدا عن المخطط العالمي لإسكانهم عنوة فوق رؤوسنا، بعيدا عن هجمة الظلام التي أنستنا السكرة خطرها المتربص … صغارا آه قد كنّا وقد كان … كل الشعوب زمن الثورات تجيش عندها العواطف فتعمى منها الأبصار والبصائر … ولكن ذلك ظرفي، ولا بدّ للعين أن تعود للانفتاح، ولكن بعد ماذا؟
نمرّ … من الغد صحونا فماذا رأينا؟ كانت الشوارع شبه مقفرة إلا من حطامات هنا وهناك، حجارة متناثرة بمختلف أحجامها، علامات طريق مقلوعة، كتابات ورسوم على الحيطان، عجلات مطاطية محترقة، مؤسسات حكومية مخروبة أو سوداء من أثر النار … لم يكن هناك بوليس واحد، لم يكن هناك أعوان بلدية، لم تكن هناك قباضة مالية تجبي الناس، تقصد شركة الكهرباء لخلاص فاتورتك فيعترضك باب حديدي موصد … فقط بضعة مواطنين متوجسين كانوا يتنقلون بتردد، والعلامة الوحيدة على وجود دولة هي لفرق الجيش المرابطة في مواقعها بالطريق العمومي منذ أيام بعد …
فجأة أفاق البلد على أنه لم يعد هناك من يحرس، ومن ينظف، ومن يدير الشأن العام … عرفنا قيمة مرافقنا، عرفنا دور الشرطة الأنبل بكثير من القمع والمنع وخموس وعاشور، عرفنا قيمة الملك العام الذي لي ولك وليس رزق بيليك، عرفنا خاصة خاصة قيمة بعضنا البعض، قيمة بني وطنك وبني مدينتك و بني حيّك … عرفنا قيمة إناء شفّاف عالي الهشاشة ولكن لا ثمن يعوّضه، اسمه بلادك، اسمه ملاذك، اسمه تونس الخضراء …
مئات الدروس في التربية الوطنية، ألاف الخطب الرسمية، أكداس من أغاني الإذاعة طوال عقود حول حب الوطن و العلَم وتاريخ مقاومة الاستعمار، أفلام عمار الخليفي عن الفلاّقة والزعماء ومعارك التحرير … هذه كلّها لم تفعل فينا سوى أنها كرّهتنا في الوطنية المفروضة كدواء المستوصف … ولكن لحظة خواء وصفاء كالتي عشناها صبيحة 15 جانفي، نفذت إلى قلوبنا كأشعة ليزر … هناك حبّ لا ينكشف إلا ساعة نخاف على من نحبّ، وأعتقد أننا يومها شعرنا بخوف مرعب على بلد ملقى بين أيدينا كطفل في حالة إغماء … فهرعنا مفزوعين صارخين صوتا واحدا: اللطف كل اللطف عليك يا حبيبنا …
بلجظة … الذي كان نائما في منزله هبّ راكضا إلى العمل، الحافلات دارت محرّكاتها وخرجت لنقل المسافرين، المستشفيات صار جيشها الأبيض يقرن الليل بالنهار ولا يرتاح، المدرّسون فتحوا المؤسسات التربوية وأقسموا على إنهاء العام الدراسي في أفضل الظروف، أفواج من الشباب تجنّدت لتنظيف الشوارع، لجان من المواطنين تكوّنت في كل حومة عند سماع أخبار نهب واعتداءات، وحملت ما ملكت أيديها من هراوات وربضت بمدخل كل نهج في صقيع الليل، اشتعلت مواقد في الهواء الطلق لتدفئة فرق الحراسة، جاد كل بما لديه من أغذية وأغطية للمتطوعين الأشاوس، تبودلت المواد الغذائية بين الجيران وأُغِيث من نقصت عنده مجانا ومحبة …
وتحررت لغة الكلام … وسائل الإعلام لأول مرة صارت في ايدي الصحفيين، والخبر صار مقدسا، والمواطن البسيط صار هو الخبر … وافتكّت سيدي بو (زيد) مكان سيدي بو (سعيد) في معالمنا الأهمّ وصورتنا السياحية عبر العالم … وصار الانتماء إلى تونس الأعماق أشرف ألف مرة من التبرّج بأصل تركي أو أندلسي وعائلات مزعومة … ومن رحم مأساة بلغت ذروتها يوم انتحار ذلك الشاب حرقا، ولد كائن، جديد علينا صدقه ومداه اللانهائي: الأمل …
كل هذا حدث في يوم، تلته أيام تشبه الحلم … قبل أن يهبط على جماجمنا جحفل من جنود المظلات تجشّأت بهم مطاراتنا من عواصم الغرب … وعاد إلينا قفير نحل نسيناه تقريبا وهو يطِنّ من منافيه الذهبية، فإذا به يضع أقدامه على هذه الأرض ويصفّر نهاية الفسحة، نهاية الفاصل، نهاية حلم يصعب تكراره … وتلك قصة أخرى
“صاح الأوّل: شيّات
وصاح الثاني: شيّات
وصاح الثالث: شيّات
… و رحت أشيّت مع شعبي”
إذن لا مناص لي اليوم من أرافق عموم العملة التونسيين في شغل مسح الأحذية، أحذية لاعبي منتخب المغرب، وأفرح رغما عنّي بنصر لا دور لنا فيه ولا عائد … بالعكس، فقد يستغلّ جارنا البعيد هذا الإنجاز ليضيفه إلى صورته السياحية والاستثمارية، و يزيد من تحويل وجهة قُصّاد تونس، المتناقصين بطبعهم … و قد يقرّب الحدث السعيد بينهم و بين شعب الجزائر على حساب شعبنا الغفلان، كما حدث لنا دائما مع كافة الأشقاء الأشقياء … و قد بدأت بعدُ إشارات المودّة تطفح من مواقع التواصل الجزائرية التي كانت بالأمس القريب تبخّر برائحة المغاربة، ودون تمييز … و لعلها مصداق لنظرية الشيطان العبقري “هنري كيسنجر”: ديبلوماسية البينغ بونغ …
طبعا هذا الكلام سوف لن يرضي جلّ من قد يطّلعون عليه … و لكن ماذا تريد؟ لا بدّ من استشفاف عقبات الطريق خلف ستارة يوم ضباب … ونحن على ما يبدو دخلنا منذ أيام في حالة ضباب و شراب و سكر واضح و انتشاء بفتوحات إخواننا المغاربة في كرة القدم … ربما هي غريزة الدم الأخوي دون ريب، و ربما هي تعويض عن خيبتنا الداوية في نفس المسابقة، و ربما ـ و هذا الأخطر ـ كتعويض عن بؤسنا اليومي الذي لا فرح فيه ولا بارقة أمل … و يوم أمس فقط، كان أمامنا في الشارع رجل عجوز يجرّ كرّوسة بها قارورة غاز منزلي … و كان رهاننا عليه كالآتي: هل يكون عائدا بالقارورة ملأى عودة الظافرين، أم مازال هائما يطوف على الدكاكين و محطات البنزين هل من غاز للّه يا محسنين !
كاد الفقر يكون كفرا، و أنا أعرف أني قد كفرت أكثر من مرة منذ بداية المقال، بل منذ بداية السنة، بل منذ بداية العشرية … و من منّا لم يفعل ذلك؟ … بالمستقبل، بالرزق، بعشاء الليلة، بالأمان، بالصداقة، بالأخوّة، بالجوار، بنخبنا كل طوائفها و هي تردح علينا سنينا دون إنتاج مفيد … كل من يأتي منهم ينسيك رداءة من جاء قبله، وفي كل فشل يتبارى عندنا المبررون مع المتهربين مع المتراشقين بالتهم مع الباحثين عن تيس فداء … نزلوا بنا إلى درك أسفل في كل شيء، فتضاءل اهتمامنا و طموحنا و تفكيرنا وكلامنا و شعورنا و أخلاقنا … أصبحنا منحطّين في عصر الانحطاط هذا، و كم أحسد الشعراء الذين ما زالوا يكتبون شعرا، و الموسيقيين الذين ظلّوا يجترحون نغما، والصنائعية الذين ما فتئوا ينمنمون نقائش فنية على الذهب أو النحاس أو الجبس … إذ ليس زمننا زمن فنّ، بل نجح حكّامنا في إرجاعنا إلى حقبة المغاور و جلود الحيوان …
فهل يغنيني بعد هذا أن تفوز المغرب بكأس العالم؟ … يمكن أن يكون ذلك على الأقلّ لو جاء من حظ تونس، و لكن … مِن أيّة الطُرْقِ يأتي نحوك الكرَمُ …؟
بعد وقف الإجراءات الإدارية ضدهم… الاحتلال يطلق أيدي المستوطنين في الضفة الغربية
الجنائية الدولية تأمر بإيقاف نتنياهو، والكيان يتهمها بمعاداة السامية!
بنزرت… ملتقى إقليمي عن برامج المؤسسات الثقافية وتوقيت عملها
العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 7 ساعات
العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟
- ثقافياقبل يوم واحد
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل يوم واحد
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يومين
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات