عندما تم القبض على نبيل القروي منذ أيام مختبئا في حيّ شعبي بالتراب الجزائري و بعد أن عبر الحدود إلى هناك خلسة كأيّ حارق … عندما أمسكت شرطة الجزائر به و قادته إلى المركز و أعلنت عن ذلك، أحسست شخصيا بخجل لا يوصف … خجل من الأشقّاء و بيننا و بينهم احترام و ثقة، خجل من مفهوم الدولة و دولتنا تحكّمت لسنوات في مصيرها رهوط بلا قيمة، و خجل من مهنة إعلام تولاّها عندنا الهاربون و المتهرّبون والمهرّبون و نزلاء سجن الهوارب …
و لا أدري إلى اليوم ما نظرة العالم إلينا (و أوّله سلطات الجارة الغربية) و الحامل لهذه الأوصاف كاد يصبح رئيسا لجمهوريتنا منذ سنتين … و لئن فشل في ذلك فقد نجح في تأسيس حزب جاء الثاني في آخر انتخابات تشريعية، و من هناك حاز على جزء مهمّ من برلماننا و نظامنا البرلماني، و حكم بشكل من الأشكال في مصير البلاد و مجرى حكوماتها و قراراتها و اختيار من يقود مجلسها النيابي … و قبل هذا، رأَس قناة فضائية تشغّل صحفيين و تستضيف نخبا و تكيّف أخبارا و توجّه تعاليق و تصنع رأيا عامّا … بل و تصنع للبلاد قيادات و شخصيات و تضعهم في الموقع الذي تريد، و ليس أقلّهم رئيسنا الراحل الباجي قائد السبسي، و دوره في اقتراع أكتوبر 2011، ثم دوره الذي لا يقلّ خطرا في أحداث البلاد طوال خمس سنين اعتبارا من 2014 …
نعم … و أكاد أندب بطريقة بشّار بن بُرد (ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمِسوا …) و أقول بل ضاعت دولتنا بين أرجل مثل هذي الأرجُل … صحيح لم نكن في الماضي سويسرا و لا السويد، و لكن كان لنا الحد الأدنى ـ و حتى أكبر من ذلك ـ من الدولة و من رجالاتها … رئاستان الأولى كانت بيد زعيم شعبيّ و رجل قانون، و الثانية من نصيب أمنيّ و إداري منضبط محنّك، و كلاهما كان يعي أنه ليس الأفضل في كثير من الاختصاصات … لذا، أحاطا نفسيهما غالبا بخيرة أدمغة البلاد في كل مجال. و أعطى ذلك حكومات و وزراء و مدراء و فِرقا من المسؤولين ممن بقيت آثارهم إلى اليوم، و فيهم من أشعّ دوليّا … و يكفي أن نذكر منجي سليم (رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة) و محمد مزالي (نائب رئيس اللجنة الأولمبية الدولية) و الشاذلي القليبي (أمين عام الجامعة العربية) و حبيب الشطي (أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) و غيرهم و غيرهم …
و اليوم، أي في العشرية الأخيرة، شاهدنا وزير التشغيل الذي لم يشغّل سوى ابنته، و وزير التجارة الذي لم يفلح إلا في ترفيع سعر الشاي، و وزير الصحة العمومية الذي يطفئ حريقا غابيّا بسطل، و وزيرة امرأة تتصوّر مع حذاء، و وزير داخلية ينتظر المخرّبين من أمام فيأتونه من خلف، و وزير تربية يبكي في البرلمان لأجل تسريب الباكالوريا، و وزير ثقافة ينصب خيمة لطهي خبز الطاجين في مدخل معرض الكتاب، و وزير تجهيز يتفاوض مع الخليجيين حول “منتجع” السيجومي، و وزير فلاحة ينكر أية علاقة بين التونسيين و زيت الزيتونة، و وزير خارجية لا يفرّق بين مكتبه و فندق الشيراتون، و رئيس حكومة يغلق علينا الحدود و يقضي رأس السنة في باريس، و رئيس جمهورية يشتغل “بيجيست” في إحدى الصحف العربية … إلخ، إلخ مما جاء و لم يجئ في كتاب فتحي ليسير (دولة الهواة) …
فهل ما زلنا بعد هذا، نستغرب يوم نرى مسؤولا بارزا في دولتنا ذات الثلاثين قرنا، يرتدي قشابية و يمسك مخطافا ويبيع الخرفان في سوق عيد الأضحى؟