ما تسمعه هذه الأيام من تبريرات حول السرقة الرسمية للقاحات كورونا، و اغتصاب أهل السلطة لأولوية لم تضبطها منظمة الصحة العالمية و لا الأمم المتحدة و لا حتى الفيفا … يبعث في نفسك شكوكا حول ما يسمى بالتجربة الديمقراطية أولا، و ثانيا حول وجود شيء اسمه وطنية و وطن في هذه البلاد …
أن تكون في بلد ذي مؤسسات ديمقراطية يعني أن من يحكمون يقيمون وزنا كبيرا لعامة الشعب، يحترمونه، يهابونه، يسعون لإرضائه، يخدمون مصالحه، يفضلونه على ذواتهم، يبدون زهدا ـ مبالغا فيه أحيانا ـ في تفاصيل الدنيا تاركين المتع و الامتيازات لجموع الجماهير حتى تقبل بهم و تبقيهم في مناصبهم و تنتخبهم هذه المرة و تعيد انتخابهم لاحقا … يفعل ذلك حتى من يأتون بالتعيين، فهؤلاء أيضا تسمّيهم سلطات منتخبة و يحاسبهم رأي عام و هيئات مبنية أساسا على المصلحة العامة و لديها حساسية مفرطة ضد الأفراد و مصالح الأفراد … خاصة إذا كانوا يستندون إلى نفوذ سياسي أو مالي ما …
قد يكون في ذلك كمّ من التظاهر و النفاق و الألعاب المزدوجة … هذا رائج في عالم السياسة … و لكن كما قلنا، فالأجهزة و المؤسسات المحايدة تضع الكل قبل البعض، و الضعيف قبل القوي، و الأفقر قبل الأغنى … القضاء الديمقراطي ينصف عاملا بسيطا و مواطنة بائسة ضد رجال السلطة مهما كبروا، و فوق شركات التأمين مهما أثرت و أثّرت، و لوبيات الصناعة و التجارة مهما كانت سطوتها المحلية و الدولية … هناك مواطنون صغار ربحوا قضايا ضد شركة كوكاكولا، و امبراطورية فيليب موريس (مصانع سجائر مارلبورو) و تأمينات لويد و طيران لوفتهانزا … و هناك صحفيون مغمورون أطاروا رؤوس وزراء و رؤساء حكومات و أحزاب و جمهوريات …
شعارات بعض الدول الديمقراطية تحمل مفردات ذات دلالة … حقي و إلهي … وحدة و حق و حرية … معونة الله و حب الشعب … نحن واحد … حرية مساواة إخاء … و هي شعارات لا لعب فيها على الكلمات كما يرد في السرديات العربية، بل بضع كلمات تختصر دساتير و علاقات و حقوقا و سيادة فعلية للشعوب … في جوازات السفر البريطانية إشعار لحامله بأن سلامته و كرامته دين في عنق الدولة بنفوذها الدبلوماسي و قواتها المسلحة العظمى لو اقتضى الأمر … و قد جرّب هذا الكلام أحد صحفيينا حين تم احتجازه في السودان المشتعل، و شفع فيه انتماؤه “الثاني” إلى جلالة الملكة … و لكن سفيان الشورابي و نذير لم يكن لهما هذا الحظ، و كانا لسوء طالعهما تونسيّيْن … فقط !
تسمع رئيس بلادك يخاطب مجاملا أية دولة أخرى بـ “الشقيقة الكبرى” و يطحن نفسه و يطحنك بعبارة قاتلة كهذه، و ترى وزير اقتصادك يعطي الأفضلية للتصدير على حساب المستهلك المحلي، و العملة الصعبة على حساب الدينار المنكوب، و وزير سياحتك يعتبر السياح الحقيقيين هم حاملو الجنسيات الأخرى (و الأوروبية أساسا) حتى لو كانوا من صغار القوم في حين يرى في السائح التونسي نبتة طفيلية مزعجة يستوي في ذلك المقيمون مع مواطنينا بالخارج … أما وزير ثقافتك فيستقبل مخرجا عربيا استقبال الكبار و يجلسه في منصة الشرف إلى جانبه فيما يلقي ببطلة الفيلم إلى آخر الصف لا لشيء إلا لأنها تونسية مثله … و رحم الله الفنان العظيم يوسف شاهين حين رفض الجلوس مع الوزير حتى يتم تكريم ابنتنا لطيفة العرفاوي قبله و يعطي هذا الفارس الجنتلمان درسا في اللياقة لوزير مِن سقط الغرارة …
أمثلة بالمئات و بالآلاف تؤكد أننا نسير عكس المنطق و عكس التاريخ و عكس تراكيب الدول … هناك خطأ تأسيسي في الكيان التونسي و التربية الوطنية و في معنى الوطن ذاته لدينا … و هات لي تونسيين اثنين ـ اثنين ليس إلاّ ـ متفقين على معنى الوطنية … فينا من يراها منتخب الكرة، و فينا من يفخر برفع العلم حتى على سطح ماخور، و فينا من يتباهى بأنه يغني تونسيّا حتى في كباريهات تل أبيب، و فينا من يراها في الانتماء للتجمع، و فينا من يربطها بالنهضة، و فينا من يبتزّك بشرعية الصندوق، و فينا من يختصرها في صدقات غذائية يمنّ بها و يصوّرها مع الفقراء، و فينا من يلوك ذينك البيتين الركيكين للشابي، و فينا من يحصرها في عبادة الزعيم بورقيبة، و فينا من يخنقها في حيّه المتداعي بقلب العاصمة، و فينا من يوقفها على نفسه و البقية خونة، و فينا من ماتت في نظره مع شكري و البراهمي، و فينا من يقول الجيش و الشرطة و العصا لمن عصى و هكذا …
تونس أكبر منكم يا طحالب الوقت … تونس هي تسمية فرضتها ظروف استعمارية على قرطاج العظيمة و إفريقية المرهوبة الجانب طيلة قرون … و لكن دار الزمن وهان مصيرها لتقع غنيمة ضائعة في أيدي خشاش الأرض و السلالات الرخيصة المنزوعة الأصل … و ها أمامك نتاج تلك الخلطة اللقيطة ممن لا جذر لهم و لا أوراق و لا ثمر و لا رائحة كرامة …