كلنا (باستثناء ناكري أصلهم) قادمون من الأرياف وكلنا نتغزل دوريا بمرابعها الخضر ومداها الأفسح وجبالها وسهولها … ولكن التاريخ يخبرنا أن الحضارة هي مدن، بكل شرورها وخيراتها … وإذا كان الريف هو الحرية والعزلة وفردية الفرد، فإن المدينة هي المجتمع والدولة والقانون وخاصة خاصة المعمار …
لا معمار في الريف … فما يحتاجه الفلاح من شوارع، لا يتجاوز مسلكا أو مسلكين لكي يمر بحماره أو جرّاره من البيت إلى الحقول، أو من الحقول إلى مورد الماء … وما يحتاجه من سكن لا يزيد عن سقف يؤويه وسقف ثان تنام فيه وتعلف شياهه … طبعا أضيفت معالأيام مسالك أكبر صارت طرقا تصل الفلاحين بأسواق القرى القريبة لترويج منتجاتهم، وحتمت مرافق وإنشاء تجمعات دنيا حول المدرسة والجامع والمستوصف والمقهى وبعض الإدارات… ولكن ذلك بقي بسيطا نقيا جذّابا إلى حدود سبعينات القرن الماضي حيث بدأ تشويه ريفنا ومدينتنا في آن، وقد نعود إلى ذلك في ساعة لاحقة …
في المقابل، حياة المدينة معقّدة تعقّد سكانها وعددهم وتركيبتهم وغايات اجتماعهم الكثيف في مكان واحد … هنا ـ ومنذ بابل وقرطاج وروما وأثينا ـ كان لابد من توزيع آلاف الناس على أحياء، ومن تنظيم عبور هذه الآلاف من حي إلى حي، ومن التخطيط لهذه المعابر عرضا وطولا واتجاها، ومن رصد مرافق ضرورية بين هذه الأجزاء لخدمة من يسكنون أو يعبرون … وقد تطلب ذلك تجارب ودراسة وخطأ وتصويبا، حتى أمكن أخيرا أن تجد هذه الأمثلة التي تبهر اليوم الزائر والسائح، والتي توارثها المهندسون وزادوا عليها من نبوغهم ما جعل المهنة تتحول إلى مايشبه علم العلوم وسر الأسرار، وحدا بواحد مثل أفلاطون أن يعلق لافتته الشهيرة التي ذكرها ابن خلدون: “من لم يكن مهندسا فلا يدخلن علينا” …
والرجل عنده ألف حق … فالذي بنى أهرامات مصر الصامدة على الأزمان مهندس، والذي علق جنائن بابل أو شاد بقية عجائب العالم القديم هم مهندسون … وصولا إلى مبتدع شوارع وساحات باريس ولندن ونيويورك وموسكو وطوكيو وباقي الحواضر التي تخطف أنظارنا اليوم … فضلا عن بناة القصور والمعالم والأبراج وناطحات السحاب وغيرها مما صار علامات مميزة لا لمدن بعينها بل لبلاد وشعب وعصر بحاله … لعصر النهضة معماره، ولعهد التنوير مبانيه، وللقرن التاسع عشر والعشرين مدارس معمار وهندسة وتخطيط ما انفكّت تؤسس وتبتكر وآخرها السكن البيئي الذي يعلو صوت دعاته في السنين الأواخر …
نأتي إلى السؤال الحارق الذي لا تكاد أصابعنا تمسك جموحه من أول سطر: وماذا عنّا؟ … وما حال تونس المعمورة، موطن قرطاج البعيدة والجامع الأعظم وفسقية بني الأغلب؟ … الحقيقة أن هذه المعالم مضافا إليه ما وضعه الغزاة المتعاقبون، صار تقريبا أثرا بعد عين … والتونسي الحالي أصبح يقطن في مواضع ومواقع تكاد تقصيه تماما عن أي مسار حضاري … وعندما تنظر إلى سواد مدننا ومداخلها ومخارجها، يخيل إليك أن حربا انتهت حديثا، أو غزوة تتار مرت مسرعة فلم تبق ولم تذر، تاركة أقواما من الأرانب الخائفة القانعة المستنفرة كل يؤوي كيفما اتفق ويكن رأسه حيثما اتفق … من الجحر إلى القبر، ومن القبر إلى الجحر ولا مزيد …