تابعنا على

جلـ ... منار

هيكل في ظل عبد الناصر

نشرت

في

شغلت علاقة الأستاذ محمد حسنين هيكل بكلٍ من الرئيسين جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، الفصل الأكبر والأبرز و الأكثر إثارة في تجربة «الجورنالجي» الذي أمضى قرابة ربع قرن و هو في موقع يحسده عليه الكثيرون، سواء من منافسيه من «الجورنالجية» أو من مناوئيه من السياسيين، و استطاع أن يحافظ ـ خلال هذه الفترة الطويلة ـ على مسافة و مساحة للاختلاف و التعبير عن رأيه الشخصي، حتى و هو يعبر بقلمه عن النظام، و فيما كان التوافق في الرؤى بين الأستاذ و الزعيم كبيراً، فإن الاختلاف سرعان ما طبع علاقة هيكل بالسادات.

<strong>محمد حماد <strong>

لم تكن العلاقة في ظل عبد الناصر «سمناً على عسل» طول الوقت، بل جرت توترات كبيرة شابت مجرى العلاقة بين الزعيم و الكاتب، أكبر هذه التوترات ـ كما يسميها هيكل ـ كانت في اليوم الذي أصدر فيه عبد الناصر قرارا بتعيينه وزيراً للإعلام دون أن يفاتحه في الأمر … فأرسل له «رسالة اعتذار» عن المنصب، و كانت هذه هي الورقة الوحيدة المكتوبة التي رفعها هيكل إلى الرئيس عبد الناصر .. و استخدم عبد الناصر أنور السادات لكي يبلغ هيكل أن عبد الناصر قرر، و لا مجال لقبول الاعتذار، و أن المسألة ليست مسألة مفاتحة، و إنما هي قرار صدر، و انتهي الأمر … و قبل هيكل المنصب، و هي قصة طويلة ليس هنا مجال لروايتها بتفاصيلها المثيرة و المتشعبة.

كان هناك خط تليفوني مخصص ليكون حلقة وصل أساسية و حافظ على التواصل بين هيكل و الرئيس … عبر هذا الخط جرت مناقشات و استفسارات كثيرة، و كان هيكل ينتهي من المحادثة ليسارع إلى كتابة محضر عنها، و كان الموجودون عند قمة السلطة يعرفون بهذا الخط، الذي يصله مباشرة بالرئيس من دون قواطع أو فواصل تتحكم فيه، و يذكر هيكل أن السادات قال له ذات مرة: «لولا سلك التليفون لكانوا أتعبوك كثيراً».

و يشير هيكل إلى أن هذا التليفون كان معياراً لحالات التوتر في العلاقة، أحيانا لا يرن فيكون معنى ذلك أن عبد الناصر متضايق، و أحيانا لا أتصل به بسبب حالات من الضيق كانت تنشأ نتيجة حوادث معينة حصلت، و يقول: أشهد أن عبد الناصر كان نموذجا للرقة في معالجته لحالات التوتر التي تحدث، و باستمرار لم يكن يخرج ضيقه عن حدود معينة … و أتذكر مرة أنه كان متضايقا جدا من أمور كتبتها، و خلال مناقشة بالتليفون سألته إذا كان يريد أن أحضر إليه فأجابني: لا أريد أن أراك و أنا (متنرفز) نلتقي بعد أن تهدأ الأمور و نتفاهم.

**

كانت علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر واضحة، بسيطة، و غير مركبة، نشأت طبيعية بين زعيم يكرس كل يوم زعامته، و صحفي كفء يؤكد كل يوم مواهبه، بدأت و كل منهما في موقعه الطبيعي، و تطورت يشكل طبيعي، في البداية لم يكن محمد حسنين هيكل هو أقرب الصحفيين إلى عقل و قلب جمال عبد الناصر، فقد كان هناك صحفيون آخرون أقرب، إحسان عبد القدوس كان شديد القرب من عبد الناصر، و كان صديقاً له، وانتهى الأمر بعد اعتقاله، فبعُدت بينهما المسافات، وكان هناك أحمد أبو الفتح (1) الذي كان سبباً في سرعة تحرك الضباط الأحرار للقيام بالثورة عندما أبلغ صهره البكباشى ثروت عكاشة (2) بأن الملك يدبر أمراً ضد الضباط الأحرار و أنه ينوي أن «يتغدى» بهم، قبل أن «يتعشوا» به، و حالت وفدية أحمد أبو الفتح بينه و بين التعبير عن فكر و سياسة قائد الثورة، و انتهى أمره إلى مغادرة البلاد بعد إغلاق جريدة «المصري»، و محاكمة شقيقيه محمود و حسين.

و كان الأستاذ حسين فهمي (3) من المقربين إلى قلب وعقل عبد الناصر طوال السنين الأولى من عمر الثورة، و ظل عبد الناصر يحمل له وداً خاصاً على طول الأيام، و أذكر فهمي و هو يقول لي ونحن في شقته بالقرب من كوبري الجامعة بالجيزة: «هنا كان يرقد جمال عبد الناصر مستريحاً بعد مناقشات بيننا تدوم إلى ما بعد منتصف الليل، فيضطر إلى النوم قليلاً يذهب بعدها إلى مجلس قيادة الثورة».

و لكن حسين فهمي لم يكن منضبطاً، و كان يعيش حياته أقرب إلى حياة الفنانين، و هي صفات لا يستسيغها عبد الناصر، ليس لأنه رجل عسكري فقط و لكن بصفته رجلا منضبطا في حياته الشخصية.

و هنا لابد أن نُذكر بأن موهبة هيكل الأولى هي «الانضباط» حد الصرامة، و هو يصف لنا كامل الشناوي (4) ، فيقول إنه «فنان قَلَبَ نواميس الكون، فإذا النهار نوم، و إذا الليل يقظة، و مغامرات، و حكايات لا أول لها ولا آخر». و كان هيكل يتهمه «بالبوهيمية»، و كان كامل الشناوي يتهم هيكل «بالنظام» أي بالانضباط، و لم يدر أن ما يتهمه به، هو أهم مواهبه التي صنعت ظاهرته فيما بعد.

و نعود إلى الذين كانوا ـ في البداية ـ أسبق من هيكل إلى عبد الناصر، لنجد أن أحداً من هؤلاء ـ و كانوا الأقرب إلى رجل الثورة القوي ـ لم ينجح في اكتساب ثقة عبد الناصر. و نُذكر مرة أخرى بأن «اكتساب الثقة» كان موهبة هيكل الثانية. و هي موهبة لا يباريه فيها أحد حسب رأي إحسان عبد القدوس (5) : «هيكل كان الصحفي الوحيد الذي كسب ثقة والدتي فقربته إليها إلى حد كبير ……………… (يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

* محمد حماد: كاتب و صحفي مصري، مؤلف كتابي “الرئيس و الأستاذ” – “دراما العلاقة بين الكاتب و السلطان‏ و قصة الدستور المصري” و نائب رئيس تحرير‏ صحيفة العربي السابق‏

(1) أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة «المصري» من سنة 1946 إلى سنة 1954.

(2) الدكتور ثروت عكاشة (1921 ـ 2012): ضابط و سياسي و يعتبر على نطاق واسع أهم و أشهر وزراء الثقافة المصريين. تخرج من الكلية الحربية 1939، و من كلية أركان الحرب 1948، حصل على دبلوم الصحافة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول 1951، و حصل على دكتوراه في الآداب من جامعة “السوربون” بباريس 1960، و عمل ملحقاً عسكرياً بالسفارة المصرية في بون ثم باريس و مدريد (1953 ـ 1956)، ثم سفيراً لمصر في روما 1957 ـ 1958.

عين وزيراً للثقافة و الإرشاد القومي 1958 ـ 1962، و ترأس المجلس الأعلى للفنون و الآداب و العلوم الاجتماعية 1962 و1966ـ 1970. كما ترأس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري 1962 ـ 1966، و عاد مرة أخرى إلى التشكيلة الوزارية نائباً لرئيس الوزراء و وزيراً للثقافة 1966 ـ 1967، ثم وزيراً للثقافـة 1967 ـ 1970، حتى عينه الرئيس أنور السادات مساعداً لرئيس الجمهورية للشؤون الثقافية 1970 ـ 1972. من مؤلفاته و ترجماته: معجم المصطلحات الثقافية. الفن الإغريقي. الترجمات للمسرح المصري القديم. مذكرات ثروت عكاشة.

(3) حسين فهمي: الكاتب الصحفي الكبير و نقيب الصحفيين عدة دورات، و كان مقرباً من جمال عبد الناصر في فترة الخمسينات.

(4) كامل الشناوي: الصحفي و الكاتب والشاعر الشهير (1908 ـ 1965)، درس بالأزهر، و لم يلبث به أكثر من خمس سنوات فعمد إلى المطالعة و مجالس الأدباء، و درس الآداب العربية و الأجنبية في عصورها المختلفة. عرف برقة شعره الغنائي، غنى له محمد عبد الوهاب قصيدة “الخطايا” و “أغنية عربية”، وغنت له ام كلثوم قصيدة “على باب مصر”، وغنى له فريد الأطرش قصيدة “عدت يا يوم مولدي ” و “لا و عينيك”، و غنت له نجاة الصغيرة قصيدة “لا تكذبي”، و غنى له عبد الحليم حافظ حبيبها و “انت قلبي”، “.

(5) الكاتب و الروائي إحسان عبد القدوس كانت تربطه علاقة مركّبة بهيكل، جعلته يكتب عنه من دون تسميته في روايته «و غابت الشمس ولم يظهر القمر»، و يروي موسى صبري عن احسان قوله له: «طريقة هيكل هي أن يستولي على الرأس، استولى على رأس والدتي روز اليوسف، ثم استولى على رأس محمد التابعي، ثم استولى على رأس التوأمين مصطفى و علي أمين، ثم على عبد الناصر».

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الصوت المضيء

نشرت

في

وفاء سلطان:

البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.

وفاء سلطان

فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،

ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به

أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.

في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما

فردّ على الفور:

بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.

قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!

فردّ: أخاف من الله

قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟

لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.

عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.

الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.

نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.

الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى

دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم

بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.

الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته

أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق

ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس

فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين

Motif étoiles

أكمل القراءة

جلـ ... منار

“هابرماس”… والعدوان على غزّة

نشرت

في

عبد الله السيد ولد اباه*:

يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.

لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.

ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!

لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.

لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.

ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.

وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.

ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟

العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.

الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .

وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”

لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.

كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟

لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني

أكمل القراءة

جلـ ... منار

ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!

نشرت

في

صبحي حديدي:

بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.

صبحي حديدي

ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.

ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.

ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.

في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.

وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.

كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.

وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!

والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.

وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار