تابعنا على

جور نار

وانتهت فزعة معرض الكتاب !

بعض التجارب العالمية المحفّزة على القراءة والتعبير

نشرت

في

تقديري أن التئام تظاهرة المعرض الدولي للكتاب سنويا في تونس بكل هذا الزخم والتناول الإعلامي الواسع هو تقليد مهمّ وجبت المحافظة عليه ومزيد تطويره وجعله حدثا وطنيا بارزا يدخل جميع البيوت والمدارس والفضاءات العامة،

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

لكنه في نفس الوقت يعطي الانطباع الخاطئ بأننا من الشعوب المصنّفة جيدا على مستوى الوقت المخصص للقراءة، وأن طوابير الكتب تُغرينا أكثر مما تُغرينا طوابير السكّر والموز الفاسد. برأيي هو تقليد أشبه بــ “الفزعة” أو “الزردة” تهبّ لها الجموع في نشوة واندفاع لكن سرعان ما ينطفئ أثرها ويخبو بريقها بمجرد مغادرة المقام والعودة إلى رتابة الأيام.

اخترت بهذه المناسبة أن أعرض عليكم بعض التجارب المجدّدة والمُعتمدة في العالم خارج سياقات المعارض والمناسبات الدورية، لعلّها تفيد مدرستنا ومختلف العاملين فيها والمتردّدين عليها.

تجربة “الشخصية الرمزية الصديقة داخل القسم”

تتمثل هذه التجربة المعتمدة وراء أسوار بعض المدارس البريطانية  في اختيار حيوان أليف مصنوع من الصوف أو ما شابه، يُقدّم في مفتتح السنة الدراسية للتلاميذ بكونه الضيف المبجّل والحريّ بجميع الأطفال أن يتبنّوه صديقا لهم كلّهم ويطلقون عليه اسما توافقيّا طريفا، ثمّ يتولّى كل تلميذ استدعاءه خلال عطلة نهاية الأسبوع فيحمله معه إلى البيت وينجز معه افتراضيا جملة من الأنشطة ويعرّفه على أفراد عائلته ويجعله يكتشف خصوصيات المحيط الذي يعيش فيه ويدعوه إلى حضور فعاليات لعبيّة أو ثقافية مّا لو تسنّى له ذلك. ويوم الاثنين صباحا، تخصص المعلّمة مساحة زمنية لاستعادة الضيف داخل القسم ودعوة التلميذ الذي استضافه مدة يومين، إلى تقديم عرض شفوي مهيكل يدوم ربع ساعة أو أكثر بقليل للحديث إلى أقرانه حول طعم التجربة التي خاضها مع الضيف والأشياء أو الأشخاص أو الأكلات التي تسنى له معرفتها واكتشافها.

من فوائد هذه التجربة أنها تدفع الطفل نحو مواجهة جمهور متحفّز وله انتظارات وتطلّع إلى معرفة ما حدث لصديقهم المشترك وأين تجوّل وماذا أكل وكيف استقبلته العائلة الحاضنة…وهذه المواجهة الأولى هي التي سيتدرّب من خلالها الطفل على دحر خجله واستنهاض أفضل ما لديه لنيل رضى جمهوره ورضاه عن نفسه. من فوائدها أيضا أنها تلقّن الأطفال درسا في “التعاطف” وبذل الجهد في سبيل العناية بالآخر والإحاطة به، في مناخ عام يشجّع على الفردانيّة والتمركز حول الذات وسيادة منطق بعدي أنا الطوفان. وثالثا فإنها تجربة تدفع الطفل إلى اتخاذ مسافة ذهنية كافية إزاء عائلته ومحيطه الطبيعي بمعالمه والحياة البرية والنباتية فيه، حتى يستطيع وصفها والتحدث فيها وعنها باعتباره متفرّجا ناقدا لا جزءً منصهرا فيها.

بالإضافة إلى برامج متفرّدة أخرى أعطت أُكلها في عديد بلدان العالم، نذكر منها :

“برنامج اقرأ واجعلهم يقرؤون” في فرنسا، الذي يؤثثه متطوعون تجاوزوا الخمسين من العمر يتولّون قراءة قصص للأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و 10 سنوات في المدارس والمكتبات ومراكز الترفيه بهدف تشجيع الأطفال على القراءة وشحذ خيالهم.

برنامج اقرأ عبر أمريكا” في الولايات المتحدة وهو برنامج يُحيي يوم الكاتب والرسام الأمريكي للأطفال دكتور سوس من خلال تنظيم فعاليات قراءة في المدارس والمكتبات بهدف النهوض بتقليد المطالعة لدى الأطفال.

“برنامج الشعر عن ظهر قلب” في انكلترا الذي يهدف إلى تشجيع الأطفال على القراءة والتعبير الشفوي من خلال جعلهم يحفظون وينشدون قصائد شعرية. ثم يُدعى التلاميذ للمشاركة في مسابقات لإبراز مهاراتهم في حفظ القصائد.

“برنامج بوك ستارت” في أستراليا المتمثل في توزيع كتب بصفة مجانية على الأطفال منذ نشأتهم لتأصيل قيمة القراءة فيهم وصلب عائلاتهم، الغاية منه زرع بذرة القراءة مبكّرا لتمكين الطفل من حبّ القراءة والارتقاء بتقليد المطالعة لديه.

“برنامج بيبليو بيرو” في كولومبيا الذي يقوده معلّم يجوب القرى والأرياف القصيّة على ظهر حمار من أجل إعارة كتب للأطفال والكهول بهدف زرع حبوب القراءة في مناطق منسيّة وصعبة المنال.

لكن أين مدرستنا من كل هذا ؟

تتفق أغلب الدراسات على أنه توجد علاقة طرديّة واضحة بين الأصول الاجتماعية والثقافية للطفل ونماء متعة القراءة من عدمها. ونظرا إلى كون المدرسة تُطلق على نفسها مدرسة الجمهورية، فهذا يطرح عليها واجبا تاريخيا يتمثل في الارتقاء بتقليد المطالعة لدى الجميع وتوليد رغبة القراءة لديهم  وبناء علاقة جديدة مع الكِتاب، خاصة في ظل المنافسة الشديدة التي تفرضها شاشات الهواتف المحمولة والإغراءات المتنوّعة التي تمارسها المشهدية المتصاعدة على الويب في وجه شباب متعطّش إلى الصورة والحركة أكثر بكثير من تعطّشه إلى الحرف والكلمة.

إن الحرص على جعل ناشئتنا تنفطم على حب الكتاب وتلذّذ نسغ النص الأدبي والشعري والثقافي عموما ليس ترفًا يؤثث به المثقفون جلساتهم ونصوصهم، بل هو القاسم المشترك الأكبر بين جميع من تحدث حول فوائد القراءة عبر العالم والذي عنوانه : “لا تعلّم دون قراءة“… حيث تكون الإجابة واحدة وموحّدة عن السؤال المتعلق بفوائد الكتاب في حياة الأطفال وذلك في كل بلدان العالم المُجمعة على أن القراءة تقاوم تهرّم الخلايا، وبالتالي تسهم في تأجيل الشيخوخة، والقراءة تحسّن أداء الذاكرة، والقراءة تُدرّب على التعاطف (بدلا من الاستعداء المستشري) والقراءة تساعد على التحليق ذهنيا في أقاصي هي أقرب إلى وجدان الناس والكِتاب يُمكّن القارئ من الاستراحة عندما يلمّ به تعب يومه الشاق… بالإضافة إلى مزايا تنمية القدرة على التركيز بواسطة القراءة وإتاحة يُسر في التعبير الكتابي والشفوي لا تلين طلاقته إلا لمن احترف معانقة المعاني وملاحقة المباني .

ويبقى السؤال ملحّا : كيف نفسّر علاقة التنافر والتباغض بين شبابنا بصورة عامة والكتاب وفعل المطالعة، رغم بداهة الفوائد التي كنا بصدد استعراضها ؟

أكتفي بذكر ثلاثة أسباب حالت حسب اعتقادي دون نشأة تلك اللهفة العارمة لدى شبابنا وأطفالنا على الإبحار بين طيّات الكتب التي تختصر التجارب وتُقطّر فاكهة الحياة التي عاشتها أقلام مُضيئة ومنتبهة، أو تُطلع القارئ على ما يعيشه الكاتب “كمفكر ومراقب وناقد في الحاضر بكل كثافته وتحوّلاته ومشاريعه” كما يقول صادق جلال العظم.

– في “عزّ طلعة شبابنا” تتعهّد المدرسة – خاصة في المرحلة الثانوية وما بعدها – بردْم مُجمل المساحات الجوفاء على نسبيّتها التي تتوفر للشاب، بالفروض والاستعداد للامتحانات والدروس الخصوصية حتى لا يكاد التلميذ ينتهي من فترة تقييم حتى يبدأ فترة أخرى وأخرى…فتتحول المدرسة إلى آلة جهنمية منذورة للتقييم والتسديم وسدّ جميع المنافذ المطلّة على ما به تُورق شجرة الشخصية لدى الطفل والشاب كبناء وذات قيد التشكّل.

– المكتبات المدرسية التي ظلّت إلى وقت غير بعيد منارة معرفة وتعلّم ونافذة على أمهات الكتب والمراجع، أصابتها الكآبة والرتابة وحُرم من تسييرها وتعهّدها آلاف المتخصصين في علوم المكتبات والتوثيق من خريجي مؤسسات التعليم العالي، لأن الوزارة توظفها لاستيعاب “غير القابلين للتوظيف في مهام واضحة ودقيقة”. وبقيت مجرد رفوف تضمّ عناوين سئمناها من قبيل التوت المر وعذراء قريش والفضيلة وماجدولين والعروة الوثقى والدقلة في عراجينها …

– أعتقد أيضا أننا لم نستغل تقاليد مُباركة لدينا كشعب شفوي تتمثل في تعهّد أجدادنا وخاصة جدّاتنا بنقل كمّ هائل من الحكايات والأساطير التي تُحكى بأسلوب شيّق وآسر على امتداد ساعات طويلة جعلت جيلا بأكمله يفتتن بعذب الكلام قبل أن ينام ويحلق عاليا بمخيّلته في سماوات وملاذات للدهشة والغرابة…وقد يعود ذلك ربما لأسباب هيكلية متصلة أساسا بارتفاع نسبة الأميّة في أوساط واسعة من أهالينا وعدم تمكّن الكتاب من أن يجد لنفسه مكانا يليق بمقامه ضمن مستلزمات التأثيث في بيوتنا. للأسف لم نسحب هذا التقليد الشفوي العريق والذي وهبنا حكّائين جيّدين وفْداويّة مقتدرين وأناس عاديّين يُجيدون فنّ الحديث الحكيم … لم نسحبه على تقليد تأسّس على أنقاضه في ربوع أخرى وهو تقليد قراءة المكتوب لأطفالنا ومعهم.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار