جور نار

وانتهت فزعة معرض الكتاب !

بعض التجارب العالمية المحفّزة على القراءة والتعبير

نشرت

في

تقديري أن التئام تظاهرة المعرض الدولي للكتاب سنويا في تونس بكل هذا الزخم والتناول الإعلامي الواسع هو تقليد مهمّ وجبت المحافظة عليه ومزيد تطويره وجعله حدثا وطنيا بارزا يدخل جميع البيوت والمدارس والفضاءات العامة،

<strong>منصف الخميري<strong>

لكنه في نفس الوقت يعطي الانطباع الخاطئ بأننا من الشعوب المصنّفة جيدا على مستوى الوقت المخصص للقراءة، وأن طوابير الكتب تُغرينا أكثر مما تُغرينا طوابير السكّر والموز الفاسد. برأيي هو تقليد أشبه بــ “الفزعة” أو “الزردة” تهبّ لها الجموع في نشوة واندفاع لكن سرعان ما ينطفئ أثرها ويخبو بريقها بمجرد مغادرة المقام والعودة إلى رتابة الأيام.

اخترت بهذه المناسبة أن أعرض عليكم بعض التجارب المجدّدة والمُعتمدة في العالم خارج سياقات المعارض والمناسبات الدورية، لعلّها تفيد مدرستنا ومختلف العاملين فيها والمتردّدين عليها.

تجربة “الشخصية الرمزية الصديقة داخل القسم”

تتمثل هذه التجربة المعتمدة وراء أسوار بعض المدارس البريطانية  في اختيار حيوان أليف مصنوع من الصوف أو ما شابه، يُقدّم في مفتتح السنة الدراسية للتلاميذ بكونه الضيف المبجّل والحريّ بجميع الأطفال أن يتبنّوه صديقا لهم كلّهم ويطلقون عليه اسما توافقيّا طريفا، ثمّ يتولّى كل تلميذ استدعاءه خلال عطلة نهاية الأسبوع فيحمله معه إلى البيت وينجز معه افتراضيا جملة من الأنشطة ويعرّفه على أفراد عائلته ويجعله يكتشف خصوصيات المحيط الذي يعيش فيه ويدعوه إلى حضور فعاليات لعبيّة أو ثقافية مّا لو تسنّى له ذلك. ويوم الاثنين صباحا، تخصص المعلّمة مساحة زمنية لاستعادة الضيف داخل القسم ودعوة التلميذ الذي استضافه مدة يومين، إلى تقديم عرض شفوي مهيكل يدوم ربع ساعة أو أكثر بقليل للحديث إلى أقرانه حول طعم التجربة التي خاضها مع الضيف والأشياء أو الأشخاص أو الأكلات التي تسنى له معرفتها واكتشافها.

من فوائد هذه التجربة أنها تدفع الطفل نحو مواجهة جمهور متحفّز وله انتظارات وتطلّع إلى معرفة ما حدث لصديقهم المشترك وأين تجوّل وماذا أكل وكيف استقبلته العائلة الحاضنة…وهذه المواجهة الأولى هي التي سيتدرّب من خلالها الطفل على دحر خجله واستنهاض أفضل ما لديه لنيل رضى جمهوره ورضاه عن نفسه. من فوائدها أيضا أنها تلقّن الأطفال درسا في “التعاطف” وبذل الجهد في سبيل العناية بالآخر والإحاطة به، في مناخ عام يشجّع على الفردانيّة والتمركز حول الذات وسيادة منطق بعدي أنا الطوفان. وثالثا فإنها تجربة تدفع الطفل إلى اتخاذ مسافة ذهنية كافية إزاء عائلته ومحيطه الطبيعي بمعالمه والحياة البرية والنباتية فيه، حتى يستطيع وصفها والتحدث فيها وعنها باعتباره متفرّجا ناقدا لا جزءً منصهرا فيها.

بالإضافة إلى برامج متفرّدة أخرى أعطت أُكلها في عديد بلدان العالم، نذكر منها :

“برنامج اقرأ واجعلهم يقرؤون” في فرنسا، الذي يؤثثه متطوعون تجاوزوا الخمسين من العمر يتولّون قراءة قصص للأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و 10 سنوات في المدارس والمكتبات ومراكز الترفيه بهدف تشجيع الأطفال على القراءة وشحذ خيالهم.

برنامج اقرأ عبر أمريكا” في الولايات المتحدة وهو برنامج يُحيي يوم الكاتب والرسام الأمريكي للأطفال دكتور سوس من خلال تنظيم فعاليات قراءة في المدارس والمكتبات بهدف النهوض بتقليد المطالعة لدى الأطفال.

“برنامج الشعر عن ظهر قلب” في انكلترا الذي يهدف إلى تشجيع الأطفال على القراءة والتعبير الشفوي من خلال جعلهم يحفظون وينشدون قصائد شعرية. ثم يُدعى التلاميذ للمشاركة في مسابقات لإبراز مهاراتهم في حفظ القصائد.

“برنامج بوك ستارت” في أستراليا المتمثل في توزيع كتب بصفة مجانية على الأطفال منذ نشأتهم لتأصيل قيمة القراءة فيهم وصلب عائلاتهم، الغاية منه زرع بذرة القراءة مبكّرا لتمكين الطفل من حبّ القراءة والارتقاء بتقليد المطالعة لديه.

“برنامج بيبليو بيرو” في كولومبيا الذي يقوده معلّم يجوب القرى والأرياف القصيّة على ظهر حمار من أجل إعارة كتب للأطفال والكهول بهدف زرع حبوب القراءة في مناطق منسيّة وصعبة المنال.

لكن أين مدرستنا من كل هذا ؟

تتفق أغلب الدراسات على أنه توجد علاقة طرديّة واضحة بين الأصول الاجتماعية والثقافية للطفل ونماء متعة القراءة من عدمها. ونظرا إلى كون المدرسة تُطلق على نفسها مدرسة الجمهورية، فهذا يطرح عليها واجبا تاريخيا يتمثل في الارتقاء بتقليد المطالعة لدى الجميع وتوليد رغبة القراءة لديهم  وبناء علاقة جديدة مع الكِتاب، خاصة في ظل المنافسة الشديدة التي تفرضها شاشات الهواتف المحمولة والإغراءات المتنوّعة التي تمارسها المشهدية المتصاعدة على الويب في وجه شباب متعطّش إلى الصورة والحركة أكثر بكثير من تعطّشه إلى الحرف والكلمة.

إن الحرص على جعل ناشئتنا تنفطم على حب الكتاب وتلذّذ نسغ النص الأدبي والشعري والثقافي عموما ليس ترفًا يؤثث به المثقفون جلساتهم ونصوصهم، بل هو القاسم المشترك الأكبر بين جميع من تحدث حول فوائد القراءة عبر العالم والذي عنوانه : “لا تعلّم دون قراءة“… حيث تكون الإجابة واحدة وموحّدة عن السؤال المتعلق بفوائد الكتاب في حياة الأطفال وذلك في كل بلدان العالم المُجمعة على أن القراءة تقاوم تهرّم الخلايا، وبالتالي تسهم في تأجيل الشيخوخة، والقراءة تحسّن أداء الذاكرة، والقراءة تُدرّب على التعاطف (بدلا من الاستعداء المستشري) والقراءة تساعد على التحليق ذهنيا في أقاصي هي أقرب إلى وجدان الناس والكِتاب يُمكّن القارئ من الاستراحة عندما يلمّ به تعب يومه الشاق… بالإضافة إلى مزايا تنمية القدرة على التركيز بواسطة القراءة وإتاحة يُسر في التعبير الكتابي والشفوي لا تلين طلاقته إلا لمن احترف معانقة المعاني وملاحقة المباني .

ويبقى السؤال ملحّا : كيف نفسّر علاقة التنافر والتباغض بين شبابنا بصورة عامة والكتاب وفعل المطالعة، رغم بداهة الفوائد التي كنا بصدد استعراضها ؟

أكتفي بذكر ثلاثة أسباب حالت حسب اعتقادي دون نشأة تلك اللهفة العارمة لدى شبابنا وأطفالنا على الإبحار بين طيّات الكتب التي تختصر التجارب وتُقطّر فاكهة الحياة التي عاشتها أقلام مُضيئة ومنتبهة، أو تُطلع القارئ على ما يعيشه الكاتب “كمفكر ومراقب وناقد في الحاضر بكل كثافته وتحوّلاته ومشاريعه” كما يقول صادق جلال العظم.

– في “عزّ طلعة شبابنا” تتعهّد المدرسة – خاصة في المرحلة الثانوية وما بعدها – بردْم مُجمل المساحات الجوفاء على نسبيّتها التي تتوفر للشاب، بالفروض والاستعداد للامتحانات والدروس الخصوصية حتى لا يكاد التلميذ ينتهي من فترة تقييم حتى يبدأ فترة أخرى وأخرى…فتتحول المدرسة إلى آلة جهنمية منذورة للتقييم والتسديم وسدّ جميع المنافذ المطلّة على ما به تُورق شجرة الشخصية لدى الطفل والشاب كبناء وذات قيد التشكّل.

– المكتبات المدرسية التي ظلّت إلى وقت غير بعيد منارة معرفة وتعلّم ونافذة على أمهات الكتب والمراجع، أصابتها الكآبة والرتابة وحُرم من تسييرها وتعهّدها آلاف المتخصصين في علوم المكتبات والتوثيق من خريجي مؤسسات التعليم العالي، لأن الوزارة توظفها لاستيعاب “غير القابلين للتوظيف في مهام واضحة ودقيقة”. وبقيت مجرد رفوف تضمّ عناوين سئمناها من قبيل التوت المر وعذراء قريش والفضيلة وماجدولين والعروة الوثقى والدقلة في عراجينها …

– أعتقد أيضا أننا لم نستغل تقاليد مُباركة لدينا كشعب شفوي تتمثل في تعهّد أجدادنا وخاصة جدّاتنا بنقل كمّ هائل من الحكايات والأساطير التي تُحكى بأسلوب شيّق وآسر على امتداد ساعات طويلة جعلت جيلا بأكمله يفتتن بعذب الكلام قبل أن ينام ويحلق عاليا بمخيّلته في سماوات وملاذات للدهشة والغرابة…وقد يعود ذلك ربما لأسباب هيكلية متصلة أساسا بارتفاع نسبة الأميّة في أوساط واسعة من أهالينا وعدم تمكّن الكتاب من أن يجد لنفسه مكانا يليق بمقامه ضمن مستلزمات التأثيث في بيوتنا. للأسف لم نسحب هذا التقليد الشفوي العريق والذي وهبنا حكّائين جيّدين وفْداويّة مقتدرين وأناس عاديّين يُجيدون فنّ الحديث الحكيم … لم نسحبه على تقليد تأسّس على أنقاضه في ربوع أخرى وهو تقليد قراءة المكتوب لأطفالنا ومعهم.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version