بين مستنكر و مستبشر و مستفهم و متفهّم و متفحّم و متشمّت و متشبّث و متعلل بـ : “ولكن” أو “حتى هي” أو “هو تبادل للعنف” أو “برلمان المهازل” و غيرها من التعويمات و التهويمات … بين كل هؤلاء تكاد تبحث عن الرجل من غير الرجل، و المرأة الشريفة من المرأة البغيّ، و بين الأحرار و المأجورين بدينار، و بين أصحاب المبدإ و البادئين و المنتهين من بيع النفس …
عن حادثة الأمس أتحدث، و عما سبقها من حوادث شبيهة … شبيهة في الفعلة و مرتكبيها و ضحاياها (قل ضحيّاتها) و خاصة ذلك الموقع الموبوء الذي ما كنت طيلة حياتي أحترمه أو أرتاح إليه … نعم أحب منطقة باردو، خاصة في مرحلة السبعينات و الثمانينات حيث كان مركزها يعج بالحركة و المقاهي و محطة الحافلة عدد 3 و قاعة السينما و قهوة الحاج و صلاّح التلفزات الإيطالي … أحب باردو بوسط مدينتها و أحيائها القريبة و البعيدة، الراقية و الشعبية، من السعيدية إلى خزندار إلى حي فطومة إلى راس الطابية و قصر السعيد … كل قصور باردو حميمة طيبة الرائحة، عدا ذلك القصر …
قصر البرلمان أو قصر الباي أو قصر المعاهدة المشؤومة … لم أحب تاريخه القديم و لا تاريخه الجديد، و خاصة منذ أزيلت حديقته الجانبية لتوسيع بنايته و إيواء أكثر عدد من النواب … النوّاب؟ آه يا زمن الخفافيش حين أصبحت هذه الصفة في بلدنا على أوطى و أجبن صورة ممكنة … في الماضي و رغم ما يقال عن الاستبداد، عرفنا نوابا أشاوس في الحق ـ و هم قلة ـ سلاحهم الكلمة و لا يسكتون و لو على نظام هم جزء منه … في أعلى القائمة أذكر أستاذي د. منجي الكعبي و معاركه اليومية مع الدكتور الصادق المقدم الذي هدده كم مرة بإيقافه لطول لسانه …
و تدهورت هذه الصفة مع الزمن إلى أن وصلنا بعد غزوة 11 إلى الدرك الذي نحن فيه اليوم … أراذل القوم و أوسخهم و فيهم مهربون و إرهابيون و قوّادون (بالفصحى) و تجار مخدرات و مفتش عنهم و مفككو سيارات مسروقة إلخ … سُقّاط الملّة تجمّعوا الآن في ذاك الربع الذي صار أشبه بضواحي “شيكاغو” الخطرة أيام آل كابوني … و كم أحسد البعثات الصحفية و الجمعياتية المرتكزة هناك على شجاعتها و رباطة جأشها … و لنفس السبب، أبدي إعجابي ببعض النواب ممن يصابرون في ذلك الوكر و هم كما قال شاعرنا الكبير احميدة الصولي: “ورائي الحياة و أمامي الحيّات، و كيف يعيش المرء بين الموت و الحياة؟” …
و ها نحن نرى العيّنات على سواد تلك البؤرة تتوالى مثل شريط رعب … آخرها ما فعله هذا الأفّاق الذي تركناه منذ سنين يرفس بالرجلين لفائدة زبانية النظام الراحل، و إذا بنا نجده من جديد يلعب لحساب عصابة سوء أخرى بعد أن انقلب الدهر … مشهده و هو يقوم من مكانه واثقا و يتوجه نحو نائبة و ينهال عليها باليد و المشطة و الركبتين … مشهده الجبان ذاك جعل ملايين التونسيين يتمنون لو يصادفونه يوما في الشارع أو في أي مكان، و يحوّلوا وجه الصبيّة الذي هو وجهه، إلى كومة من معجون الطماطم … كُسرت يداك يا كلبا في الهراش بتعبير الهمذاني، كسرت يداك و أنت تفتعل بطولة وهمية على امرأة كأيّ عنّين يخفق في كل شيء آخر مع جنس النساء …
و للأسف فقد نجح هذا الدنيء على الأقل في موضوعين … الأوّل في لفت الأنظار إليه و إجبار معظمنا على حفظ اسمه و تداوله و هو الذي كان مفسوخا من اللوحة مثل أغلب طحالب ذلك المنتدى … يعلفون من دمنا بلا فائدة، و لو لناخبيه البؤساء و الوباء يعصف بهم عصفا و هم يتصارخون أين نوابنا؟ … و نجح ثانيا ـ و كما قالت كثرة ـ في صرف الاهتمام عن فضيحة قاض من حزام السلطة الحالية، انكشف بالدليل تلاعبه بآلاف ملفات الإرهاب و التآمر على أمن البلاد و شعبها … و قد عزا الجميع العملية الجبانة (عملية ضرب عبير موسي) إلى تكليف من الحزب الحاكم لهذا الشخص بأن يفجر القنبلة و يعود إلى مقعده … و هناك حتى كلام عن مساومة طالت حكما بالسجن حصل عليه، و جاء لأجله طلب برفع الحصانة عنه …
و مهما يكن من أمر … لا أمل في أن نرى هذا المجرم و أمثاله (و منهم واحد أعاد نفس الفعلة و على نفس الضحية بعده بقليل) مقتادين و السلاسل في أيديهم إلى المرناقية … لا أمل و لا حكم و لا تنفيذ قانون و ليس هناك أوضح من هذا التلبّس … لا أمل إلا في سحب الثقة نهائيا من مجلس داعر داعش كهذا، أي عودة الأمانة إلى أصحابها كما يقول الآخر … و المعنى إتمام ما تم إجهاضه مرة أولى يوم جنازة شكري بالعيد، و مرة ثانية أثناء اعتصام الرحيل … فهل تريحنا المحاولة الشعبية الثالثة من هذا الكابوس؟