تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 10

نشرت

في

darbouka percussion instrument de le milieu est vecteur illustration 23736326 Art vectoriel chez Vecteezy

يوم وصلتني بطاقة الدعوة لاجراء مناظرة السيزيام لم ينتبني اي شعور بالرهبة او بالخوف … ولم اجد لحد يوم الناس هذا اي تفسير لحالتي العادية في جل امتحاناتي …

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

ليس معنى هذا اني كنت واثقا من نجاحي، ابدا فبعضها كانت بحق مناظرة مصير …الا اني هكذا ! … بل وصل بي التعنت احيانا الى مخاطر في بعضها (وللحديث بقية) …وكان اليوم الموعود، نهضت باكرا وكعادتي لم آكل شيئا في فطور الصباح فعلاقتي منعدمة تماما بالبيض والحليب والزبدة والسمن (ان وجدوت) وكل ما في الامر بقايا عشاء البارحة …وهو لا يغريني … الا ان امي لم تنفك تردد: “يا وليدي ماشي للامتحان على ريقك ؟؟؟ اشكون يعرف ادوخشي في (الكار) كول حويجة” … ولست ادري مالذي جعلها تخاف من الحافلة رغم اني لم امتطها من قبل الا في مناستين …يوم ذهابي الى المصور الزواري لاخذ صورة لبطاقة التعريف المدرسية للمناظرة المرتقبة ..او يوم ذهبت مع خطيب اختي الى السينما …

و في الحقيقة ولان قلب المؤمن خبيرو، هي على حق في نصيحتها لاني وبعد معاشرتي للحافلات خلال مرحلة تعلّمي الثانوي الاولى خاصة،كثيرا ما احسست بالدوار متى بالغ السائق في استعمال فرامله …بل واحيانا كنت انزل قبل محطتي بمحطات واكمل بقية الطريق ماشيا حتى اتفادى الدوخة … يومها رافقني ابي الى معهد الهادي شاكر طريق قابس (الليسيه) وكان اول عهدي بمعهد ثانوي بمثل تلك الضخامة المعمارية … يفجع … ولكني لم افجع …لا اتذكر بالضبط كم يوما قضيته في امتحان المناظرة، ولكن كل ما اذكره سؤال امي الذي لم ينقطع: “يا وليدي عديت بالباهي ؟” … واجابتي الدائمة:لا.باس …اميتها وشبه امية ابي ما كانت لتسمح لهما باسئلة اكثر تفاصيل … ورب ضارة نافعة اذ اني وعلى عكس اولياء هذا الزمن (اللي يسالوا على البسباس واللي كانلو غراس) الى حد الارهاق …

لم يكن هنالك اي اشكال من هذا القبيل من ناحيتهما …كنت احس بداخلي بوجع امي خاصة وهي الأم غير القادرة على نبش تفاصيل امتحان ولدها وهي التي ما انفكت تعبر عن عدم رضاها على مذاكرته لدروسه وكثرة نهمه لشتى انواع اللعب …ولقد لازمها هذا الوجع حتى يوم اعلان النتيجة …النتائج انذاك كانت تظهر فقط في الجرائد اليومية والتي كانت “الصباح” و”العمل” في نسختيها العربية والفرنسية، و”لابريس” …

يومها ولاول مرة اشترينا جريدة الصباح وثمنها 20 مليما (حق خبزة والخبزة ابجل اولا ثم لم يكن انذاك مكان للجريدة الا لدى بعض الكبايرية من مثقفين او من المتمظهرين بالعلم والثقافة) …وبدأت ابحث عن اسمي بين الاف الناجحين …لست ادري اي حدس انتابني يومها لاقلب نتائج التلاميذ الناجحين والموجهين في نفس الوقت الى معهد دون غيره ..حدسي جعلني ابحث عن اسمي في معهد الحي الزيتوني (15 نوفمبر حاليا)… و”اوريكا”! اسمي موجود … فرحت نعم …ولكن كانت فرحة عادية … بل واصبحت مشوبة بحذر شديد لان ابن عمي لم يحالفه النجاح …وحتى عندما دخلت الحوش كانت العائلتان تنتظران التلميذين بكل وجل والف سؤال يرتسم في اعين الجميع ..وكان من واجبي ان اعلن عن نجاحي بكل هدوء ورصانة حتى لا ابدو شامتا في فشل ابن عمي … وكذلك عائلتي … هو الفرح الصامت، وما اتعس الفرح الصامت …

كان هم امي وابي واختي الكبرى ان انجح حتى لا يتحول زواج اختي في اوت الى شبه مأتم …كيف لا والعائلة معلقة آمالها على ابنها ؟؟ كيف لا وهو سيكون اول ناجحي السيزيام في الحوش ؟؟؟ وحتى اختي التي حرمت من التعليم من اجلي كانت فرحتها كبيرة خوفا على مراسم زواجها … لو فشل عبدالكريم “يتعدالها عرس سلاطة” … وللامانة اصبحت منذ تلك اللحظة كسرى انو شروان … نحكم باحكامي … لقد رفعت راس العائلة وكنت في مستوى التضحيات الجسيمة (ماديا) التي قاست منها ميزانية العائلة من اجلي … لا تذهبوا بتصوراتكم بعيدا فعبارة كسرى انو شروان نسبية وعيارة تضحيات جسيمة لا تقل عنها نسبية …لان لعب الكرة ما زال ممنوعا ولان مخالطة اي كان ممنوعة ولان الحوش هو مقر سكناي ولعبي اي سجني … وحتى بعض هدايا العائلة لي بمناسبة نجاحي لا تتجاوز ڨازوزة بوڨا سيدر ، او بعض البسكويت القطعة الواحدة منه بمليم واحد اي الهدية 20 مليما … ثمنهما معا …

وكنت كلما عبرت عن رغبتي في “روبولوت” اي اعادة الزردة الڨازوزية، واجهتني امي باجابتها الحاضرة: “اه وليدي ماذا بيّا اما ما تنساش رانا قادمين على عرس وخيتك” … ولعله من ميزات العائلات في صفاقس انها ومهما كان مستواها المادي تستعد جيدا لكل المناسبات، بفضل حكمة وزيرة الاقتصاد والمالية التي عادة ما تكون الام … وهذا ما يحدث في عائلتي ..ابي كان “ترتاق” متاع فلوس، ولا يخبئ القرش الابيض لليوم الاسود …وهذا ما ورثته عنه في القليل الذي ورثته عنه …اما امي فهي وكاغلب الصفاقسية تحكم التصرف في الميزانية اذ لا عيد اضحى دون كبش العيد يعلف 4 اشهر قبل ذبحه، ولا عيد فطر دون حلوياته وحوت مالحه وشرمولته، ولا صائفة دون عولة (محمص وكسكسي وملثوث) اللي كتب من ربي كما تقول …فما بالكم وهي تستعد لزفاف ابنتها البكر ؟؟؟؟

هي منذ ان بلغت اختي الكبرى 14 سنة ووالدتي “تحَتْرف” طرف فلوس لتشتري كل مرة شيئا من جهازها، اي ملابسها لتحملها معها قبل عرسها الى بيت العروس … ودائما على عربة مجرورة ببغلين (الكارو) و فرقة فلكلورية تصحبها بالكورنيطة …وسيارتان او ثلاثا على اقصى تقدير مكتظة باهل البنت حتى التخمة (نساء) وهن المكلفات بترتيب جهاز العروسة بمنزل زوجها …كنت سعيدا بالحدث وكنت اترقب الاسبوع الاخير قبل اليوم الموعود لاستعرض عضلاتي في الدربكة والغناء كما يحدث في كل الاعراس … إذ قد حفظت من مذياع الجيران عديد الاغاني التونسية والشرقية وحان الوقت لاستعراضها …وطبيعي جدا ان يكون الاختيار على تلك التي احدثت “بيزززز” من جهة وعلى اغاني الافراح (من الغريب جدا اننا في عصرنا الحاضر نستمع الى مطريبن ومطربات يتغنون في حفلات الاعراس بـ “يا غدارة” او “يا خاينة” او ما شابههما في المعاني ..

المطربون الذين كان لهم صيت ذائع انذاك هم نعمة، علية، صفية شامية، الهادي القلال، الجموسي، احمد حمزة … علاوة على الاغاني الفلكلورية لجهة صفاقس والتي وقع تسجيلها في ما بعد مع افتتاح الاذاعة الجهوية بصفاقس (يمة لسمر دوني، يا رمانة، سيدي منصور…) اما من المشرقيين فكانت جل الاغاني التي تلاقي صدى لدينا من الطقطوقات (العصفورية والغاوي لصباح، بحلم بيك وبتلوموني ليه لعبد الحليم، انا قلبي ليك ميال لفائزة احمد، “اش لوننا” لشفيق جلال، على شط بحر الهوى لكارم محمود) … اي ان الفوندو من فصيلة ام كلثوم وعبدالوهاب لم نكن قادرين على فك رموز شفراته …وانا من الجيل الذي عرف ام كلثوم يوم التقائها بعبدالوهاب في “انت عمري” …

كنت اذن اتأهب لاكون في نفس الوقت درابكي الفرقة ومغنيها ومنشطها … وما ان حل الاسبوع الموعود حتى ابتليت بـ “بوجنيّب” في سبابة يدي اليسرى وهو نوع من الدمّل الذي يؤلم جدا … ولكم ان تتصوروا العازف على آلة الايقاع وهو يقضي العشية والسهرة يعزف ويغني ثم يؤوي الى فراشه كل ليلة وهو يبكي من الألم … السبابة تبات تنقّح، بثلاث نقاط على حرف القاف … وعبثا ان تحاول امي اثنائي عن العزف والغناء غدا …_النافع ربي … مما جعل الورم يزيد تعفنا و إيلاما ولم اشف منه الا بعد الزواج باسابيع …حتى ان آثاره ما زالت مرسومة علىي سبابتي ليوم الناس هذا …

حفل الزواج انذاك يخضع الى تقاليد وحيثيات هي في جلها معمول بها الى الآن … هناك الحمام ثم الحنة ثم البطالة ثم النزول ثم يوم العرس … وهنالك ايضا السبوع، اي مرور سبعة ايام بعد العرس وهي من التقاليد التي اصبحت نادرة جدا في صفاقس … الحيثيات الاولى لا تختلف في شيء عما يحدث الان من حيث المبدأ رغم اختلافها في جزئياتها … فالحمام مثلا كان في حمام عربي في المدينة العتيقة ولعل اشهرها “حمام بوعصيدة” واليوم اصبح “عند محاسن” …ولست ادري هل عرائس اليوم يستمتعن بنفس رائحة الحمام العربي ايام زمان …لست ادري لاني ببساطة وشيء من البلادة …لم احضر يوما حمام نساء … على عكس طفل “عصفور السطح” …اتصور فقط ان مثل هذه الحمامات العصرية يستحيل ان نجد فيها نكهة ايام زمان …

مما اذكره في مراسم النزول ان الفرقة نسائية بآلات ايقاع (دربوكة وطار وبنادر) …وكانت احدى تلك الفرق تترأسها امرأة متقدمة في السن تسمى “الدجيجة”وهي بالكاد ترى … وهي امرأة كثيرة الخصام مع بدء عملية الرشقان على العروسة …فاحداهن تدعي انها رشقت 5 دينارات والدجيجة تقسم انها رشقت 10د لانها ستاخذ نسبة من كل الآلاف التي يقع رشقها على جبين العروسة …ومن مآثر هذه البندارة (وهو اللقب الذي يطلق عليها من خلال مهنتها)، انها كانت لا تشرب الماء الا من حلابها الصغير (درجية) واننا كنا نتسرب خفية الى حرمها وهي غاطسة في التبندير ونقوم بسرقة الدرجية لاستفزازها حتى تقول جملتها الشهيرة:اشكون هز الدرجية يجعل كبدو مشوية! وذاك ما كنا نبغيه من فعلتنا …التمتع بتلك السمفونية التي “تخرج عسل” من فم الدجيجة …

يوم العرس كان في جله حفلا نهاريا اما بمنزل العروس ان كان يستجيب جغرافيا للحشد الكبير، او باحدى صالات الافراح ويتصدرها انذاك صالة الافراح البلدية (للدمادم ماديا) او صالة العموص وهي التي تقع في بودريار وكانت تؤمنها عادة فرقة نسائية بالبيانو واشهرها فرقة كسودية ثم فرقة ذيابة …ولا مجال لدخول اي رجل داخل الصالة (ذاك حرم نسائي لا ينتهك) وللرجال مكانهم في حديقة الصالة يتلصصون على هذه او تلك رغم ان تلصصهم لا يسمن ولا يغني من جوع، لان جل النساء متزوجات وصبايا بالسفساري … ماعدا “كعيبات” لا يتجاوز عددهن اصابع اليدين … لكن المهم ان لا تمر واحدة دون ان يتهامس الشبان اذا اعجبهم الجسد المكور داخل السفساري: “هذي زعمة من جماعة العروس والا العروسة ..؟؟؟ والله منظرها ما تخيبش” … ولست ادري اي منظر يقصدون ..؟؟؟ ام ان الرجل العربي في ذلك الزمن وربما لحد الان مغرم بالتربيع والتكوير ؟؟؟؟

يوم العرس كادت الامور تؤول الى ما لا يحمد عقباه …العائلتان اتفقتا على ان يضمن العروس يوم الزفاف (اي يوم قدومه لاخذ العروسة واهلها الى الصالة) … اتفقتا على ضمان خمس سيارات لنقل اهل العروسة …الا ان السيارات التي انتصبت امام باب الحوش كانت اربعا …وحملق الوالد وبدأ عرق النرفزة يتصبب ومباشرة صاح: “وينو علي ولد عمي ..؟؟؟ يا سي علي ولينا مسخرة نتفاهمو في خمسة تجيبلي اربعة …؟؟؟؟” ويربت سي علي على كتف ابي: “اه اها يا محمد وليدات احنا ؟؟؟؟” اما الخامسة تبلّعت في التراب متاع الزنقة (وفعلا زنقتنا، زنقة المظفر، كانت مضربا للامثال في ترابها _العيثة _ وكانت العديد من السيارات لا تغامر بولوج كثبان رمالها …_لا تبحثوا عنها كثيرا زنقة المظفر لانها اصبحت الان تتشهى رمالها بعد ان تربضت وكغيرها كل الزقاق) … زمانا كان في صفاقس بعض الارباض لا تعد حتى على اصابع اليد الواحدة كربض القائد وربض زنقة بن سعيد …والان …..ياااااااااااااااااااااااه لقد وأدوا الغابات والرمال وطوابي الهندي واصبحت صفاقس يتيمة منها .. اصبحت صفاقس ام الارباض ..

وهدّأ سي علي من روع ابي ووعده بان يعوضها له يوم السبوع …يوم السبوع هو يوم يحتفل به اهل العروس باهل العروسة ويتم كما تدل تسميته بعد اسبوع من حفل الزفاف تقديرا من العروس للعائلة التي انجبت عروسته وخاصة لاصالتها وتربيتها والمحافظة على شرفها حتى تصل بكرا الى زوجها وحتى تقدم عربون الشرف الى والديها من خلال ما تخبؤه العروس في احدى السلال المخصصة للغرض …دماء الشرف … وتقدمه بخجل وسعادة الى امها وكل من صاحبها من نساء عاقلات لا فتيات يسترقن السمع والنظر لما في السلة من كنز والكبريات ينهرنهن: “هذي امور خاطيتكم يززيو من التنسنيس” ….وما هي الا زغاريد الافراح تتعالى من جميع النساء …ويعلو البشر والفخر لدى الاب ولدى العريوس ايضا ..الاول افتخارا ببنت الاصول والثاني افتخارا برجولته والاصح بفحولته …التي قد تصل احيانا بالفحل الى حجز اقامة لدى بعض المستشفيات لانقاذ زوجته المسكينة من وحشيته …_طبعا ….تحبهم يقولو عليه موش راجل ؟؟؟؟ ضربة بموس ولا ها الشيء …

وبكل امانة مثل هؤلاء قد نجد لهم تبريرا لا عذرا لما يقترفونه في حق زوجاتهم من سلوك شنيع قد يؤثر على كل الحياة الزوجية بفعل الصدمة لان معظمهم لم يعرفوا يوما ان المرأة كيان انساني وان الرجولة الحقيقية في ان تكون انسانا معها لا وحشا كاسرا … في المقابل واذا حدث ووجد العريوس عروسته غير عذراء فانه وعلى عكس العديد من الجهات التي تصبح الحالة فيها مدمرة قد تصل الى القتل من قبل والدها لانها لوثت شرفه وشرف العائلة او من قبل العروس انتقاما لشرفه المهدور …فان ما يحكى عن مثل تلك الحالات في صفاقس وفي جلها هو ما تتداوله بعض الالسن الخبيثة من النساء وبعد مرور مدة طويلة على الحدث والتي تصل احيانا الى سنوات …ان فلان كلاها ورقد …مرتو ما لقاهاش بنية (وبنية هنا تعني عذراء) …وترد عليها اخرى امالا اش يعمل بنت عمو راهي ..اشبيك يلزمو يسترها ويستر العائلة الكل …هذا اذا كان الزواج زواج اقارب ..اما اذا كان من فصيلة اخرى فكثيرا ما تمضي النسوة في وصفها بابشع النعوت لعل اخفها وقعا عليكم كقراء: “اشبيك راهي العوبان كلاتلو عقلو ووكلتهولو في الزميت” (اي مسحور) “قللك وكلتلو ذيل ام البويا” (الحرباء) …

اولم يكن من الافضل دينا وفكرا واخلاقا ان يبتلع هؤلاء النساء الحرباوات لسانهن وان يسترن ما ستر الله ..؟؟؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار