يوم وصلتني بطاقة الدعوة لاجراء مناظرة السيزيام لم ينتبني اي شعور بالرهبة او بالخوف … ولم اجد لحد يوم الناس هذا اي تفسير لحالتي العادية في جل امتحاناتي …
ليس معنى هذا اني كنت واثقا من نجاحي، ابدا فبعضها كانت بحق مناظرة مصير …الا اني هكذا ! … بل وصل بي التعنت احيانا الى مخاطر في بعضها (وللحديث بقية) …وكان اليوم الموعود، نهضت باكرا وكعادتي لم آكل شيئا في فطور الصباح فعلاقتي منعدمة تماما بالبيض والحليب والزبدة والسمن (ان وجدوت) وكل ما في الامر بقايا عشاء البارحة …وهو لا يغريني … الا ان امي لم تنفك تردد: “يا وليدي ماشي للامتحان على ريقك ؟؟؟ اشكون يعرف ادوخشي في (الكار) كول حويجة” … ولست ادري مالذي جعلها تخاف من الحافلة رغم اني لم امتطها من قبل الا في مناستين …يوم ذهابي الى المصور الزواري لاخذ صورة لبطاقة التعريف المدرسية للمناظرة المرتقبة ..او يوم ذهبت مع خطيب اختي الى السينما …
و في الحقيقة ولان قلب المؤمن خبيرو، هي على حق في نصيحتها لاني وبعد معاشرتي للحافلات خلال مرحلة تعلّمي الثانوي الاولى خاصة،كثيرا ما احسست بالدوار متى بالغ السائق في استعمال فرامله …بل واحيانا كنت انزل قبل محطتي بمحطات واكمل بقية الطريق ماشيا حتى اتفادى الدوخة … يومها رافقني ابي الى معهد الهادي شاكر طريق قابس (الليسيه) وكان اول عهدي بمعهد ثانوي بمثل تلك الضخامة المعمارية … يفجع … ولكني لم افجع …لا اتذكر بالضبط كم يوما قضيته في امتحان المناظرة، ولكن كل ما اذكره سؤال امي الذي لم ينقطع: “يا وليدي عديت بالباهي ؟” … واجابتي الدائمة:لا.باس …اميتها وشبه امية ابي ما كانت لتسمح لهما باسئلة اكثر تفاصيل … ورب ضارة نافعة اذ اني وعلى عكس اولياء هذا الزمن (اللي يسالوا على البسباس واللي كانلو غراس) الى حد الارهاق …
لم يكن هنالك اي اشكال من هذا القبيل من ناحيتهما …كنت احس بداخلي بوجع امي خاصة وهي الأم غير القادرة على نبش تفاصيل امتحان ولدها وهي التي ما انفكت تعبر عن عدم رضاها على مذاكرته لدروسه وكثرة نهمه لشتى انواع اللعب …ولقد لازمها هذا الوجع حتى يوم اعلان النتيجة …النتائج انذاك كانت تظهر فقط في الجرائد اليومية والتي كانت “الصباح” و”العمل” في نسختيها العربية والفرنسية، و”لابريس” …
يومها ولاول مرة اشترينا جريدة الصباح وثمنها 20 مليما (حق خبزة والخبزة ابجل اولا ثم لم يكن انذاك مكان للجريدة الا لدى بعض الكبايرية من مثقفين او من المتمظهرين بالعلم والثقافة) …وبدأت ابحث عن اسمي بين الاف الناجحين …لست ادري اي حدس انتابني يومها لاقلب نتائج التلاميذ الناجحين والموجهين في نفس الوقت الى معهد دون غيره ..حدسي جعلني ابحث عن اسمي في معهد الحي الزيتوني (15 نوفمبر حاليا)… و”اوريكا”! اسمي موجود … فرحت نعم …ولكن كانت فرحة عادية … بل واصبحت مشوبة بحذر شديد لان ابن عمي لم يحالفه النجاح …وحتى عندما دخلت الحوش كانت العائلتان تنتظران التلميذين بكل وجل والف سؤال يرتسم في اعين الجميع ..وكان من واجبي ان اعلن عن نجاحي بكل هدوء ورصانة حتى لا ابدو شامتا في فشل ابن عمي … وكذلك عائلتي … هو الفرح الصامت، وما اتعس الفرح الصامت …
كان هم امي وابي واختي الكبرى ان انجح حتى لا يتحول زواج اختي في اوت الى شبه مأتم …كيف لا والعائلة معلقة آمالها على ابنها ؟؟ كيف لا وهو سيكون اول ناجحي السيزيام في الحوش ؟؟؟ وحتى اختي التي حرمت من التعليم من اجلي كانت فرحتها كبيرة خوفا على مراسم زواجها … لو فشل عبدالكريم “يتعدالها عرس سلاطة” … وللامانة اصبحت منذ تلك اللحظة كسرى انو شروان … نحكم باحكامي … لقد رفعت راس العائلة وكنت في مستوى التضحيات الجسيمة (ماديا) التي قاست منها ميزانية العائلة من اجلي … لا تذهبوا بتصوراتكم بعيدا فعبارة كسرى انو شروان نسبية وعيارة تضحيات جسيمة لا تقل عنها نسبية …لان لعب الكرة ما زال ممنوعا ولان مخالطة اي كان ممنوعة ولان الحوش هو مقر سكناي ولعبي اي سجني … وحتى بعض هدايا العائلة لي بمناسبة نجاحي لا تتجاوز ڨازوزة بوڨا سيدر ، او بعض البسكويت القطعة الواحدة منه بمليم واحد اي الهدية 20 مليما … ثمنهما معا …
وكنت كلما عبرت عن رغبتي في “روبولوت” اي اعادة الزردة الڨازوزية، واجهتني امي باجابتها الحاضرة: “اه وليدي ماذا بيّا اما ما تنساش رانا قادمين على عرس وخيتك” … ولعله من ميزات العائلات في صفاقس انها ومهما كان مستواها المادي تستعد جيدا لكل المناسبات، بفضل حكمة وزيرة الاقتصاد والمالية التي عادة ما تكون الام … وهذا ما يحدث في عائلتي ..ابي كان “ترتاق” متاع فلوس، ولا يخبئ القرش الابيض لليوم الاسود …وهذا ما ورثته عنه في القليل الذي ورثته عنه …اما امي فهي وكاغلب الصفاقسية تحكم التصرف في الميزانية اذ لا عيد اضحى دون كبش العيد يعلف 4 اشهر قبل ذبحه، ولا عيد فطر دون حلوياته وحوت مالحه وشرمولته، ولا صائفة دون عولة (محمص وكسكسي وملثوث) اللي كتب من ربي كما تقول …فما بالكم وهي تستعد لزفاف ابنتها البكر ؟؟؟؟
هي منذ ان بلغت اختي الكبرى 14 سنة ووالدتي “تحَتْرف” طرف فلوس لتشتري كل مرة شيئا من جهازها، اي ملابسها لتحملها معها قبل عرسها الى بيت العروس … ودائما على عربة مجرورة ببغلين (الكارو) و فرقة فلكلورية تصحبها بالكورنيطة …وسيارتان او ثلاثا على اقصى تقدير مكتظة باهل البنت حتى التخمة (نساء) وهن المكلفات بترتيب جهاز العروسة بمنزل زوجها …كنت سعيدا بالحدث وكنت اترقب الاسبوع الاخير قبل اليوم الموعود لاستعرض عضلاتي في الدربكة والغناء كما يحدث في كل الاعراس … إذ قد حفظت من مذياع الجيران عديد الاغاني التونسية والشرقية وحان الوقت لاستعراضها …وطبيعي جدا ان يكون الاختيار على تلك التي احدثت “بيزززز” من جهة وعلى اغاني الافراح (من الغريب جدا اننا في عصرنا الحاضر نستمع الى مطريبن ومطربات يتغنون في حفلات الاعراس بـ “يا غدارة” او “يا خاينة” او ما شابههما في المعاني ..
المطربون الذين كان لهم صيت ذائع انذاك هم نعمة، علية، صفية شامية، الهادي القلال، الجموسي، احمد حمزة … علاوة على الاغاني الفلكلورية لجهة صفاقس والتي وقع تسجيلها في ما بعد مع افتتاح الاذاعة الجهوية بصفاقس (يمة لسمر دوني، يا رمانة، سيدي منصور…) اما من المشرقيين فكانت جل الاغاني التي تلاقي صدى لدينا من الطقطوقات (العصفورية والغاوي لصباح، بحلم بيك وبتلوموني ليه لعبد الحليم، انا قلبي ليك ميال لفائزة احمد، “اش لوننا” لشفيق جلال، على شط بحر الهوى لكارم محمود) … اي ان الفوندو من فصيلة ام كلثوم وعبدالوهاب لم نكن قادرين على فك رموز شفراته …وانا من الجيل الذي عرف ام كلثوم يوم التقائها بعبدالوهاب في “انت عمري” …
كنت اذن اتأهب لاكون في نفس الوقت درابكي الفرقة ومغنيها ومنشطها … وما ان حل الاسبوع الموعود حتى ابتليت بـ “بوجنيّب” في سبابة يدي اليسرى وهو نوع من الدمّل الذي يؤلم جدا … ولكم ان تتصوروا العازف على آلة الايقاع وهو يقضي العشية والسهرة يعزف ويغني ثم يؤوي الى فراشه كل ليلة وهو يبكي من الألم … السبابة تبات تنقّح، بثلاث نقاط على حرف القاف … وعبثا ان تحاول امي اثنائي عن العزف والغناء غدا …_النافع ربي … مما جعل الورم يزيد تعفنا و إيلاما ولم اشف منه الا بعد الزواج باسابيع …حتى ان آثاره ما زالت مرسومة علىي سبابتي ليوم الناس هذا …
حفل الزواج انذاك يخضع الى تقاليد وحيثيات هي في جلها معمول بها الى الآن … هناك الحمام ثم الحنة ثم البطالة ثم النزول ثم يوم العرس … وهنالك ايضا السبوع، اي مرور سبعة ايام بعد العرس وهي من التقاليد التي اصبحت نادرة جدا في صفاقس … الحيثيات الاولى لا تختلف في شيء عما يحدث الان من حيث المبدأ رغم اختلافها في جزئياتها … فالحمام مثلا كان في حمام عربي في المدينة العتيقة ولعل اشهرها “حمام بوعصيدة” واليوم اصبح “عند محاسن” …ولست ادري هل عرائس اليوم يستمتعن بنفس رائحة الحمام العربي ايام زمان …لست ادري لاني ببساطة وشيء من البلادة …لم احضر يوما حمام نساء … على عكس طفل “عصفور السطح” …اتصور فقط ان مثل هذه الحمامات العصرية يستحيل ان نجد فيها نكهة ايام زمان …
مما اذكره في مراسم النزول ان الفرقة نسائية بآلات ايقاع (دربوكة وطار وبنادر) …وكانت احدى تلك الفرق تترأسها امرأة متقدمة في السن تسمى “الدجيجة”وهي بالكاد ترى … وهي امرأة كثيرة الخصام مع بدء عملية الرشقان على العروسة …فاحداهن تدعي انها رشقت 5 دينارات والدجيجة تقسم انها رشقت 10د لانها ستاخذ نسبة من كل الآلاف التي يقع رشقها على جبين العروسة …ومن مآثر هذه البندارة (وهو اللقب الذي يطلق عليها من خلال مهنتها)، انها كانت لا تشرب الماء الا من حلابها الصغير (درجية) واننا كنا نتسرب خفية الى حرمها وهي غاطسة في التبندير ونقوم بسرقة الدرجية لاستفزازها حتى تقول جملتها الشهيرة:اشكون هز الدرجية يجعل كبدو مشوية! وذاك ما كنا نبغيه من فعلتنا …التمتع بتلك السمفونية التي “تخرج عسل” من فم الدجيجة …
يوم العرس كان في جله حفلا نهاريا اما بمنزل العروس ان كان يستجيب جغرافيا للحشد الكبير، او باحدى صالات الافراح ويتصدرها انذاك صالة الافراح البلدية (للدمادم ماديا) او صالة العموص وهي التي تقع في بودريار وكانت تؤمنها عادة فرقة نسائية بالبيانو واشهرها فرقة كسودية ثم فرقة ذيابة …ولا مجال لدخول اي رجل داخل الصالة (ذاك حرم نسائي لا ينتهك) وللرجال مكانهم في حديقة الصالة يتلصصون على هذه او تلك رغم ان تلصصهم لا يسمن ولا يغني من جوع، لان جل النساء متزوجات وصبايا بالسفساري … ماعدا “كعيبات” لا يتجاوز عددهن اصابع اليدين … لكن المهم ان لا تمر واحدة دون ان يتهامس الشبان اذا اعجبهم الجسد المكور داخل السفساري: “هذي زعمة من جماعة العروس والا العروسة ..؟؟؟ والله منظرها ما تخيبش” … ولست ادري اي منظر يقصدون ..؟؟؟ ام ان الرجل العربي في ذلك الزمن وربما لحد الان مغرم بالتربيع والتكوير ؟؟؟؟
يوم العرس كادت الامور تؤول الى ما لا يحمد عقباه …العائلتان اتفقتا على ان يضمن العروس يوم الزفاف (اي يوم قدومه لاخذ العروسة واهلها الى الصالة) … اتفقتا على ضمان خمس سيارات لنقل اهل العروسة …الا ان السيارات التي انتصبت امام باب الحوش كانت اربعا …وحملق الوالد وبدأ عرق النرفزة يتصبب ومباشرة صاح: “وينو علي ولد عمي ..؟؟؟ يا سي علي ولينا مسخرة نتفاهمو في خمسة تجيبلي اربعة …؟؟؟؟” ويربت سي علي على كتف ابي: “اه اها يا محمد وليدات احنا ؟؟؟؟” اما الخامسة تبلّعت في التراب متاع الزنقة (وفعلا زنقتنا، زنقة المظفر، كانت مضربا للامثال في ترابها _العيثة _ وكانت العديد من السيارات لا تغامر بولوج كثبان رمالها …_لا تبحثوا عنها كثيرا زنقة المظفر لانها اصبحت الان تتشهى رمالها بعد ان تربضت وكغيرها كل الزقاق) … زمانا كان في صفاقس بعض الارباض لا تعد حتى على اصابع اليد الواحدة كربض القائد وربض زنقة بن سعيد …والان …..ياااااااااااااااااااااااه لقد وأدوا الغابات والرمال وطوابي الهندي واصبحت صفاقس يتيمة منها .. اصبحت صفاقس ام الارباض ..
وهدّأ سي علي من روع ابي ووعده بان يعوضها له يوم السبوع …يوم السبوع هو يوم يحتفل به اهل العروس باهل العروسة ويتم كما تدل تسميته بعد اسبوع من حفل الزفاف تقديرا من العروس للعائلة التي انجبت عروسته وخاصة لاصالتها وتربيتها والمحافظة على شرفها حتى تصل بكرا الى زوجها وحتى تقدم عربون الشرف الى والديها من خلال ما تخبؤه العروس في احدى السلال المخصصة للغرض …دماء الشرف … وتقدمه بخجل وسعادة الى امها وكل من صاحبها من نساء عاقلات لا فتيات يسترقن السمع والنظر لما في السلة من كنز والكبريات ينهرنهن: “هذي امور خاطيتكم يززيو من التنسنيس” ….وما هي الا زغاريد الافراح تتعالى من جميع النساء …ويعلو البشر والفخر لدى الاب ولدى العريوس ايضا ..الاول افتخارا ببنت الاصول والثاني افتخارا برجولته والاصح بفحولته …التي قد تصل احيانا بالفحل الى حجز اقامة لدى بعض المستشفيات لانقاذ زوجته المسكينة من وحشيته …_طبعا ….تحبهم يقولو عليه موش راجل ؟؟؟؟ ضربة بموس ولا ها الشيء …
وبكل امانة مثل هؤلاء قد نجد لهم تبريرا لا عذرا لما يقترفونه في حق زوجاتهم من سلوك شنيع قد يؤثر على كل الحياة الزوجية بفعل الصدمة لان معظمهم لم يعرفوا يوما ان المرأة كيان انساني وان الرجولة الحقيقية في ان تكون انسانا معها لا وحشا كاسرا … في المقابل واذا حدث ووجد العريوس عروسته غير عذراء فانه وعلى عكس العديد من الجهات التي تصبح الحالة فيها مدمرة قد تصل الى القتل من قبل والدها لانها لوثت شرفه وشرف العائلة او من قبل العروس انتقاما لشرفه المهدور …فان ما يحكى عن مثل تلك الحالات في صفاقس وفي جلها هو ما تتداوله بعض الالسن الخبيثة من النساء وبعد مرور مدة طويلة على الحدث والتي تصل احيانا الى سنوات …ان فلان كلاها ورقد …مرتو ما لقاهاش بنية (وبنية هنا تعني عذراء) …وترد عليها اخرى امالا اش يعمل بنت عمو راهي ..اشبيك يلزمو يسترها ويستر العائلة الكل …هذا اذا كان الزواج زواج اقارب ..اما اذا كان من فصيلة اخرى فكثيرا ما تمضي النسوة في وصفها بابشع النعوت لعل اخفها وقعا عليكم كقراء: “اشبيك راهي العوبان كلاتلو عقلو ووكلتهولو في الزميت” (اي مسحور) “قللك وكلتلو ذيل ام البويا” (الحرباء) …
اولم يكن من الافضل دينا وفكرا واخلاقا ان يبتلع هؤلاء النساء الحرباوات لسانهن وان يسترن ما ستر الله ..؟؟؟ …