وحانت ساعة الثانوي …. في زمننا كان عدد السنوات في التعليم الابتدائي ست سنوات ونفس هذا العدد كان بالنسبة للثانوي …ثلاث سنوات اولى ـ جذعا مشتركا ـ وبداية من السنة الرابعة تبدأ عملية التوجيه الى اربع شعب لا غير: آداب …علوم .. رياضيات … و ترشيح معلمين.
هذا التقسيم لم نكن نعرف عنه شيئا في السنة الاولى من تعليمنا الثانوي … وكيف لنا ان ندرك ذلك ونحن في جلنا اطفال يافعون من مدينة صفاقس واحوازها القريبة منها والبعيدة، ومن عديد المدن الاخرى التي تفتقر لمعاهد ثانوية انذك .. العديد منا وانا اولهم لم يكتشف بعد ماهية المدينة … صفاقس المدينة كانت بالنسبة إلياكتشافا مذهلا سواء المدينة العتيقة او صفاقس خارج اسوارها .. وساعود لها بكل تفاصيلها في ورقة قادمة … دعوني اخصص هذه الورقة لمعهد الحي، 15 نوفمبر حاليا …
اول ما شد انتباهي في معهد الحي نوعية الاساتذة الذين يدرسون به شكلا ومضمونا ..اذ ان العديد منهم كان زيتونيا باتم معنى الكلمة، فلباسهم انحصر في الجبة والشاشية (كبوس او كبوس اسطمبولي) وهذا الاخير عشقته جدا نظرا إلى جماله الاخاذ الى درجة اني بحثت عنه عديد المرات وما زلت ابحث عنه ولكني لم اجد من نوعيته الا المقلد …وقيل لي انه يباع فقط في حانوت في المدينة العتيقة بتونس العاصمة ولأسفي الشديد لم اعثر عليه … ثم هؤلاء الاساتذة رحم الله جلهم، كانوا يطلقون عليهم لقب الشيخ ..الشيخان حبيب ومحمد التركي، الشيخان عامر ومحمد الجربي، الشيخ محمد قطاطة، ابن عم والدي، الشيخ يوسف المزغني، الشيخ الطاهر الحشيشة والتحق بهم في اواسط الستينات الشيخ احمد رويس …
كلهم دون استثناء هيبة ووهرة وكلهم ايضا دون استثناء يجهلون تماما اللغة الفرنسية …ولكل شيخ منهم بصمته المميزة وشخصيته المستقلة، فبعضهم كان آية في الطيبة الى درجة ان شياطين التلاميذ انذاك كانوا يذيقونهم اشد انواع الخبث (طبعا خبث الطفولة) فيسمعونهم الوانا من الصفات باللغة الفرنسية، ويعلو الضجيج والضحك وهم لا يفقهون اسباب ذلك …ورغم ما يحدث فان القليل منهم من يعاقب ابناءه التلاميذ لانه يعتبرهم ابناءه بحق فيغفر لهم زلاتهم …البعض الاخر كان من النوع الذي “يشمّها وهي طايرة” … المرحوم عامر الجربي مثلا، كان البعض منا يحاول ان يدس بعض الكلمات النابئة في سؤال ما او في اجابة ما (زعمة زعمة يغش فيه ويعديها عليه) … لكن اجاباته كانت من نوع رد الصاع صاعين وبكل ذكاء وردود مختارة ومنتقاة حتى لا ينزل الى مستوى الرداءة … وكنا “نشيخ” بردوده الضامرة وهو يبادلنا شيختنا بابتسامة كم هي معبرة ومن نوع “جيتو تتعلمو ا في الزلق في بيت الصابون”او “راني ولد … عليكم) !
نوعية ثالثة تحاول الرد على شغبنا باسلوب واقعي ينبثق من العصر المعيش …اتذكر جيدا الشيخ الطاهر الحشيشة رحمه الله … كان يكتب على السبورة محاور النص حتى نتدارسه وكان امامي الزميل عبدالعزيز الوكيل(امام الجمعة حاليا بجامع سيدي اللخمي) وكان الطقس حارا … نظرت الى رجلي عبدالعزيز فوجدت انه يرتدي “شلاكة” احدى فردتيها في رجله والاخرى اعتقها من سجن الرجل الاخرى …ادخلت رجلي بهدوء وجذبت تلك الفردة في غفلة منه وقذفتها تماما ككرة على مصطبة القسم …كنت اتصور اني ساكون بطلا مجهولا لعملتي تلك ..ولكن من سوء حظي ان لحظة قذف فردة الشلاكة على المصطبة تزامنت تماما مع لحظة استدارة الشيخ الطاهر الى التلاميذ (يعني جات الغمزة في عين القاضي) …
نظر الشيخ الى عبدالكريم مليا ووجهه محمر من كثرة غضبه وقال: “ايّا سجلت الهدف يا قطاطة .؟؟؟” ولا تسالوا عن ضجيج اترابي ضحكا ومرحا لا شماتة فيّ بل اعجابا بالشيخ الطاهر وهو يحكي كرة قدم ..ثم لا تسالوا عن جزعي مما سيقرره الشيخ من عقاب قد يصل الى حد الرفت من المدرسة …عقاب لا ادري كيف سيكون ؟؟؟… الا اني وطيلة مراحل تعليمي كنت افاجأ دوما بكل المربين في “حنّيتهم” وتسامحهم معي ..توعد سي الطاهر ومضى يكمل الدرس …وها انا لحد يوم الناس هذا انتظر العقاب … نعم انتظر العقاب …
نوع اخير من هؤلاء الاساتذة الزيتونيين هو الكاريزما في ابهى مظاهرها، ولعل الاستاذ المرحوم يوسف خماخم هو افضل من يمثلها ….. استاذ رهيب قصير القامة ممتلئ الجسم حاد النظرة ذو كفاءة عالية في التدريس وفي علاقته مع جميع التلاميذ دون استثناء (ما تسمعش عندو حس الذبانة) … نهابه بشكل عجيب رغم شقاوتنا مع الاخرين ..بل كان لا يتاخر لحظة واحدة اذا حاول البعض تجاوز الحدود سلوكا او تجاهلا لدروسه، ان يدعوه الى السبورة وان يناوله “شلبوق” (لا يقرا ولا يكتب) … بل احيانا وعلى قصر قامته “يتشعبط” للوصول الى وجه التلميذ الذي يفوقه طولا ليطبع على وجهه “داودي” لا يعرف سره الا سي يوسف رحمه الله …
بقية الاساتذة في معهد الحي كانوا جلهم من خريجي الجامعات المشرقية (سوريا والعراق) واكتشفنا فيما بعد انهم معارضون اشاوس لبورقيبة لانهم ايديولوجيّا هم اما قوميون او بعثيون وفئة قليلة منهم يوسفيون …لكن وفي اي زمان ومكان هنالك المنخرطون اما اقتناعا او انتهازا في الحزب الحر الدستوري (الحزب الحاكم انذاك) .. لكن الملفت جدا للنظر ان معهد الحي في تلك الحقبة به مدرّسة وحيدة، الانسة لاكوست … هي فرنسية عزباء وباحدى ساقيها عرج ومتوسطة الجمال رغم اناقتها ولكن كل رؤوس التلاميذ تتابع المرأة الوحيدة في المعهد بكثير من الاهتمام ….واهتمام واعجاب كل تلميذ له نوعيته حسب الاعمار وحسب ما يدور في خلد كل واحد منا من رغبات … والاكيد انه لا احد منا فكر في مشروع فلاحي او صناعي او تربوي مع الانسة لاكوست، خاصة وهي تدمر الاعين واشياء اخرى بالميني جوب التي لا ترتدي سواه وبكل سادية (واحنا صغيرين وما نعرفش الحاجات دي … ومظلومين يا بيه) …
ما يميز معهد الحي انذاك مديره الذي لا يشق له غبار السيد احمد الزغل اطال الله في عمره ومتعه بالصحة …دعوني اختصر لكم وصف هذه الشخصية الطاغية والمخيفة لحد الهوس، في المشهد التالي: سي احمد كنا لا نراه الا لحظة قدومه الى المعهد ينزل من سيارته السوداء ويتجه نحو مكتبه ..في تلك اللحظة هل تتصورون ماذا يحل بكل التلاميذ المتحلقين بالساحة قبل بدء الدروس ؟؟؟… عودوا بذاكرتكم اما للقرآن وهو يروي لنا قصة النبي موسى عندما يضرب يعصاه البحر فيشقه الى نصفين …او عودوا الى الفيلم الكبير الذي انتج في اواسط السبعينات “الوصايا العشر” بطولة يول برينير وهو يمثل دور فرعون، وشارلتون هيستون وهو يمثل دور موسى، لتعرفوا كيف كنا نتصرف لاشعوريا وسي احمد يتقدم بتؤدة و”السبسي” الذي كان يلازمه في فمه ورائحة تبغه الشهية (امستردام) هكذا كان يسمى تبغه الذي يحشوه في غليونه …رائحة تعبق بها ساحة الحي …
اقسم لكم اننا كنا ننقسم كالبحر الى نصفين حتى يشق سي احمد الساحة خوفا من ان “يكبّش” في احدنا … يااااااااااااه كم هو احد الفراعنة انذاك في جبروته …وكم اكتشفنا يوم قررت انا وزملائي زيارته في بيته بعد عشرات السنين كم اكتشفنا رجلا اخر تشعّ سعادته بنا من خلال دموع تترقرق في عينيه … تصوروا (وهذه اقولها لزملائي الذين عاصروني) ان سي احمد يرجوني بكل الحاح ان لا احرمه من كتاباتي الصحفية التي يعتبرها وساما له لاني وكما يقول، طلعت “ضنوة صالحة” كاغلب تلاميذ الحي انذاك الذين قلّ وندر ان تلقى في عرجونهم “صيشة” اي بلحة فاسدة …ما اريد ان اقوله اننا في جلنا ومهما كانت كاريزمتنا او بطشنا او الاعتداد بانفسنا، “اولنا صغار وعقابنا صغار” … ولاسفي الشديد والمؤلم انني يوم قررت تكريمه مع ثلة من زملائي (في الحي) ارتأت عائلته ان صحته لم تعد تسمح له بالتنقل الى صفاقس باعتبار سكناه في تونس، ورجتني ان اعتذر له بدعوى تاخير يوم التكريم لانه كان مشتاقا جدا للمجيء للحفل …
وها انا اتفهمه وبكل عمق وانا انزل ضيفا على اصدقائي واحبابي يوم تكريمي الاحد الماضي ….بعد سيناريو ممتع ومفاجأة مذهلة جعلتني “مزبهلا” الى حد لا يوصف خاصة وانا التقي عيونا كم كانت نافذة في وجداني لانها كانت الحب في اعمق واروع وامتع معانيه …
معهد الحي ايضا هو التقاء لمجموعة من القيمين الذين بصموا حياتنا التلمذية بخصوصيات عجيبة … فالسيد محمد شطورو كنا نهابه لانه مختص في فرك الاذن باصابعه كلما حدث شغب ما من احدنا، وهو يرى انه العقاب الامثل للتلميذ عوضا عن الحجز يوم الاحد او التقارير التي قد تصل به الى الرفت … أيضا السيد زين العابدين الفراتي وهو قيم داخلي شدنا بنظرته التي كلها “تنوميس” وبهنسة …والقيم السيد بلقاسم كان يحلو لنا ان نصيح من اي مكان نوجد فيه باسمه وبلهجة بدوية: “بلقاااااااااااااااااسم” ! وبثلاث نقاط على القاف، باعتباره بدوي طيب لحد السذاجة …ومن سذاجته تلك لم يستطع يوما المسك بمن يعزف تلك الصيحة … دون نسيان القيم العام الداخلي المرحوم “عبداللطيف ولها” وكنا نطلق عليه ولا ادري لماذا لقب “بحبح” … كذلك القيم العام الخارجي المرحوم احمد بالاسود ويمتاز ايضا بطيبته رغم انه يريد ان يوهمنا بنظراته با نه صعب المراس …
هذه التوصيفة لمعهدالحي قد لا تجد صدى في نفوس قارئيّ الذين لم يدرسوا بالمعهد …الا انني ذكرتها بتفاصيلها المملة بالنسبة للبعض، لعمق تاثيرها على الجيل الذي عاصرني في الدراسة بهذا المعهد الذي يعد وقتها من افضل معاهد الجهة مع معهد الهادي شاكر (الليسيه) وستجدون تفاصيل مثيرة عن ذلك في ورقاتي القادمة ..ثم انا لا اشك في ان كل واحد منا له ذكريات تتشابه مع هذه الذكريات في المعهد الذي درس به …ماضيا وحاضرا … حتى وان اختلفت التفاصيل والاغصان، الا ان جذع تلك الفترة واحد …
يوم زرت معهد الحي بعد عودتي من فرنسا، سنة 1979… ويوم زرت المعهد بعد الثورة (الغورة)، احسست بسعادة نوستالجية لا توصف ولكن احسست بألم كبير …ألم نفذ الى عمق اعماقي …ياه كم احسست باليتم وانا لم اجد رائحة معهدي الحي … بحثت عنها حتى في مراحيضه الشرقية جغرافيا والتي اصبحت لا شرقية ولا غربية ….بحثت عنها في زواياه الغربية حيث كان يقيم سي احمد الزغل … في زواياه الشمالية حيث كان يقيم جماعة الترشيح فاذا بالاماكن لا ترشح شيئا … بحثت عنه في اعين التلاميذ فلم اجد تلاميذ كنت عندما تراهم تقول “هذوما هوما”، هذوما هوما، تلاميذ الحي … واليوم اصبحوا في جلهم نسخا كربونية من تلاميذ المعاهد الاخرى ….دجاج حاكم …. بلا هوية في جلهم …بلا عنوان …
ما اصعب ان تهوى يا ولدي اي شيء اي كائن بلا عنوان … كم هو مدمر ان ترى معهدك بلا عنوان …التلاميذ ما عادوا تلاميذ والحي ماعاد حيا …