تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 14

نشرت

في

Coloriage - Emoji d'escrime de personne | Coloriages à imprimer gratuits

….السنة الاولى من التعليم الثانوي كانت سنة العبث الطفولي بكل المقاييس …نجاحي في مناظرة السيزيام بقدر ما اسعد العائلة بقدر ما ملأني زهوا وفخرا بمعانيه السلبية ..ومخلفاته السلبية ايضا ..

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

كنت وانا امشي بين اترابي وانا اعبث معهم اشبه بطائر النسر الذي يرى في بقية الطيور من جنسه لا يعدون ان يكونوا (عصافير حيطي) … كنت احس بأني ملك والبقية رعية، خاصة ان محيطي العائلي لم يكن مؤهلا البتة لتأطير هذا الطفل النرجسي في داخلي ..كانت الامتحانات انذاك بنظام الثلاثيات وكانت اعدادي فيها جميعا سيئة للغاية ..وكان من الطبيعي ان ارسب .. ورسبت في سنتي الاولى من التعليم الثانوي … الغريب اني لم اتأثر بتاتا بهذا المصير ..كانت سنة دراسية جوفاء من التحصيل المعرفي … وحتى العائلة لم تتقبل النتيجة بشكل درامي … ربما لأني مقابل فشلي نجحت في شهادة ختم الدروس الابتدائية وتسمى انذاك “سرتفيكا” والتي لم يتسنّ لي اجراء امتحانها في سنة السيزيام نظرا إلى صغر سنّي ..

والسرتفيكا في ذلك الزمن كانت ذات بعد معنوي وعلمي كبير …هي بمثابة الباكالوريا في عهود متقدمة ..تصوروا فقط ان حاملها ونظرا إلى قلة اطارات التدريس في تلك الحقبة، باستطاعته ان يقوم بتربص تكويني بيداغوجي ليصبح معلما في الابتدائي ..نعم …ربما هو تجسيد للمثل الشعبي (من قلة الصوف تتجز الكلاب) … ولكن واقسم لكم بكل المقدسات انه ومن خلال تجربتي في التدريس الجامعي سنوات طوالا، اؤكد لكم ان يعض حاملي السرتفيكا يكتبون باللغتين العربية والفرنسية بشكل افضل من عديد الطلبة في الخامسة جامعي … نعم والله .. وهنا لابد من الاعتراف والاقرار بان هؤلاء الطلبة هم في الحقيقة ضحايا لانظمة تربوية وتعليمية فاسدة، وضحايا لتجارب تعليمية مخبرية كانوا اشبه بالفئران فيها …

وحتى انهي مع تلك السنة الاولى لابد من القول ان غزارة الاكتشافات فيها اعاقتني تماما على الاعتناء بدروسي ..اذ ليس من السهل على التلميذ انذاك عموما وعليّ انا، خاصة وانا المهتم دوما بالتفاصيل التي اعتبرها هامة في حياة الفرد بل واعتبرتها طيلة حياتي انها هي التي تصنع الفارق بين الواحد والاخر …ليس من السهل ان تمر تلك التفاصيل عندي مرور الكرام، فالانتقال من نظام تربوي ابتدائي ينحصر فيه عدد المربين في اثنين (واحد للعربية وثان للفرنسية)، الى نظام يجد فيه التلميذ نفسه امام فيلق من المربين، كل استاذ في اختصاصه … وانا كنت من ضمن اولئك الذين لم يعتبروا يوما الاستاذ مربيا عابرا آخذ منه العلم والمعرفة واعطيه يوم الاجابة ـ اي يوم الامتحان ـ ما حفظته ..معدتي لم تكن يوما كالاسفنجة تضعها في الماء ثم تعصرها فترد لك ما حملته في احشائها من ماء .. معدتي بقدر ما هي سريعة في هضمها للاكل بقدر ما هي لا تتسرع غالبا في تعاملها مع ما ترى وما تسمع …

كنت وانا في تلك السن اهتم جدا بتفاصيل كل استاذ في تعامله معنا … على حساب التحصيل المعرفي نعم، ولكن هكذا كنت ..وما زلت .. كنت مثلا مزبهلا بكل تفاصيل تفاصيل شخصيات الاساتذة … كنت استمتع مثلا بصياح استاذ الرياضة (السيد حبيب مرزوق، اطال الله عمره) وكم سعدت للقياه قبل عيد الاضحى وهو يوقف السيارة التي كان على متنها ويناديني بصوته الجهوري: “ايجا يا عبدالكريم هذا رقمي ونحبك تكلمني عندي ما نقلك على السي اس اس” ..كيف لا وهو من قدماء لاعبي النادي كمتوسط دفاع في الخمسينات … استاذي هذا كان يعيد دوما عباراته المشهورة وهو يشاهد احد التلامذة يتقاعس في التمارين الرياضية: “ايجا هنا انت يا بوريكو يا مقرونة!” … ولئن فهمت بعد سنوات معنى “بوريكو” اي حمار، فلم افهم لحد الان ما دخل كلمة مقرونة وهو يعبر عن غضبه ..؟؟

نفس هذا الاستاذ كنا في شهر ماي وبعد ان تتحول حصة الرياضة في المعهد الى حصص تعلم السباحة في المسبح البلدي (الذي اصبح الان اطلالا حزينة)، كان يرمي بنا الواحد تلو الاخر في المسبح دون رحمة وكنا نتخبط في ماء هذا المسبح بكل رعب رغم اننا مطوقون بالواقيات من الخفاف ..وهو يعيد دوما: عوم يا بوريكو ..وما اذكره حسب ما رواه لي بعض اترابي ان واحدا من التلاميذ (محمود الفخفاخ رحمه الله) نزل كعادته في المسبح العميق تحت “السقالة” التي تستعمل عادة للارتماءات الهوائية (بلونجونات)… ومن سوء حظه ان وجد قميصه مشدودا باحد اعمدة السقالة الحديدية ولم يستطع الافلات منها … ولحسن حظه ان تفطنت عين سي الحبيب الى غيابه لمدة ثوان فاندفع كالسهم نحو اليمّ وخلّصه من موت محقق …

ذمن تفاصيل السنة الاولى اننا كنا ندرس مادتي النجارة والحدادة …ولانني لم اكن ولحد يوم الناس هذا بارعا في كل الاعمال اليدوية باستثناء “المونتاج” والذي بدأت معه مسيرتي المهنية في مؤسسة الاذاعة والتفزة التونسية وللامر هذا عودة في ورقات قادمة .. اذن لانني كنت ابهم البهائم في الاعمال اليدوية كنت اتلهّى باشياء ثانوية في تلك الحصص ..واذكر اني ذات مرة دعوت زميلا لي في الدراسة للقيام بـ”طرح” مبارزة بالسيف بيننا ..ولم تكن سيوفنا الا تلك المبارد التي نستعملها في حصة النجارة …كنا “شائخين” باللعبة خاصة ونحن نرى شذرات وومضات النيران (“الدڨداڨ”) تنطلق من المبردين ..وكأننا فارسان مغواران يتحاربان من اجل فتوحات وهمية …ولم نكن ندري انذاك اننا قضينا بفعل ضرباتنا المتبادلة على المبردين الذين اصبحا في عداد المبارد الموؤودة ..

ولأن استاذنا الرائع في وداعته (سي عمر) مجبر يوما ما على السؤال: “باي ذنب وئدت المبارد” أي حفيت، فانه اضطر كارها ان يرفع امرنا الى الادارة اي الى ستالين المعهد ومديره السيد احمد الزغل اطال الله في عمره ومتعه بالصحة ..وما هي الا لحظات حتى اتانا سي الزين الفراتي رحمه الله وهو اشبه بـ”لوريل” مقطّبا عابسا يدعوني انا وزميلي للمثول امام المدير …وبكامل الزهو واللامبالاة ذهبت …وما ان وصلنا حتى خرج الينا سي احمد من مكتبه الذي لم ادخله يوما ككل التلاميذ فهو مكان مقدس باتم معنى الكلمة وليس علينا فقط بل حتى على جل الاساتذة …. نظر الينا سي احمد بعين لم نفهم سرها وغليونه لا يفارقه ثم (يا رحمان!) “داودي” لم اذق مثله في حياتي وهو الثاني والاخير بعد داودي “مسيو دوميناتي”، في مدرسة واد القراوة التى كم احبها …

لم انتظر اية كلمة منه وعدت الى القسم الخاص بالنجارة وحملت محفظتي وغادرت المعهد الى بيتنا …اندهشت والدتي من عودتي المبكرة وزاد هلعها وهي تسمعني ابكي و اتوعد واقول لن اعود الى المدرسة …بعد ان حكيت لها عن الصفعة الشهيرة ..هي لم تسأل عن الاسباب وانبرت تدعو على سي احمد ذلك الذي سمح لنفسه بضرب طفلها “اللي اش فيه ما يتضرب” … وما ان جاء والدي حتى “حمّشتّو” على سي احمد، بكل ما تعرفونه عن اية زوجة لها تأثيرها السحري الرهيب على زوجها …_ وعيادة الله يرحمها كيف تنوي تطيّحو زايد تطيّحو رغم صلفه الشديد وعنطزته المهولة اليس كيدهن عظيما ؟؟؟…

و”ماكانش من العاكسين” .. ازبد الوالد وتوعّد بالثبور الويل له سي احمد هذا …اشبيه يحسايب الدنيا على ڨرنو .؟؟ غدوة نورّيه الرجال اشتعمل … طبعا مع وابل من السب والشتم على كل لون يا كريمة وسي محمد رحمه الله بارع في هذا القليّم ….حملني في الغد الى المعهد وطالب فورا بمقابلة هذا المدير الذي اهان ولده …والغريب اتني لحد الان لم افهم كيف خضع سي احمد الزغل وما ادراك لموقف والدي المتمثل في (عاقبو كيف ما تحب اما ما تضربوش …ما نسمحلكش باش تمس ولدي) … وانتهت حكاية المبارد التالفة عند ذلك الحد …وحتى عندما فاجأت سي احمد الزغل يوما بزيارته مع مجموعة من اصدقاء الزمن الجميل الى منزله اعترافا له بالجميل، لم اجرؤ صدقا على العودة لذلك الموقف خوفا من احراجه …خاصة ان علاقتي به توطدت جدا بعد عودتي من فرنسا وبالتحديد عبر برامجي الاذاعية وخاصة كتاباتي الصحفية …

فوجئت به يوما يطلبني عبر هاتف الاذاعة ويقول لي: “احمد الزغل معاك”، واين الدنيا التي تسعني انذاك ..قال لي اريد ان التقيك ..قلت له الان الان وليس غدا ..ذهبت اليه وهو انذاك يشغل خطة رئيس بلدية صفاقس ..استقبلني بالاحضان وبعد بروتوكولات التحايا والسؤال عن الصحة والعائلة قال لي سي احمد وما ادراك …عندي طلب صغير منك لو تسمح ..لم ادعه يكمل حديثه وقلت له ..يا سي احمد راك سي احمد ..فكيف لك ان تطلب من ابنك طلبا ما ؟؟؟ انت تأمر وانا انفذ دون قيد ..وبكل سعادة وامتنان ونظرة افتخار منه قال: “انا اتابع جيدا برامجك وقلمك الصحفي .. وانت تكتب في عديد العناوين الصحفية فهل تسمح باعطائي نسخة من كل ما تكتب؟ ..انت قلم متميز و احد ابنائي الذين افتخر بهم ..هل تسمح ؟؟؟ تصوروا سي احمد يقول هذا …اجبت على الفور: ومن انا حتى تقول لي هل تسمح ..لك وعد سي احمد ان تصلك كل المقالات التي اكتبها …وحتى عند سفرك إلى تونس ساضعها لك في صندوقك البريدي ..وفعلا فعلت وبسعادة لا توصف ..

يااااااااااااااااه .كم هي السنوات كفيلة بان تعيد اعتبارنا للاشياء والمسميات والاشخاص ..نعم فهمنا جميعا ان ستالين الحي وهتلره وفرعونه كان يجب ان يكون هكذا او لا يكون لانه علمنا الاحترام واعطاء قيمة لهيبة المربين …وهاكم تشاهدون الان كيف اصبحت هيبة المربّين (في جلهم) منكسة الأعلام تعبيرا عن الحداد لا لموتها فقط (لانو لو كان ماتت ارتحنا) بل لاهانتها والاهانة اشد الما من الموت … رغم اني كلي ايمان بأن المربّي ولحد الان مازال قادرا على فرض الانضباط والهيبة لو آمن بدوره التربوي اولا قبل التعليمي، و بتغيير اسلوبه البيداغوجي الى فن راق في التواصل والذي يجعل التلميذ او الطالب يخضع لنواميسه وبكل استمتاع واقتناع ..صدقوني ومن خلال تجربتي في الجامعة كنت ومازلت قاسيا جدا في تعاملي مع طلبتي (قسوة البناء طبعا لا قسوة التقزيم) … ولكن رغم طبعي الذي يبدو ظاهريا بوليسي الملامح،في الفترة الاولى من التعارف على الاقل، كنت معهم دوما الاخ والاب والصديق والحبيب بكل عمق الاعماق وللحديث تفاصيل ضافية في ورقات قادمة …

من التفاصيل التي لا تنسى في سنتي الاولى ايضا اني لاول مرة في حياتي الدراسية يشتري لي ابي محفظة من مكتبة …نعم قبلها كانت محفظتي تخيطها عيادة من قماش الاكياس كسائر التلاميذ المعوزين انذاك …ثم كانت هدية الوالد بعد ان نلت السيزيام محفظة سوداء متوسطة الحجم، وكان كل همّ امي ثقلها وهي محمّلة بعديد الكتب والكراسات ..وكثيرا ما كانت تجبر اختي الكبرى على ان تحملها معي لمحطة الحافلة ..ولكني كنت اشترط عليها ان لا تصل معي الى المحطة ابدا بل تكتفي بحدود “الزنقة” قبل الوصول الى الطريق العام …وانا اردد في خلدي: ” الله الله على سيدي الطلطول عبدالكريم تهزلو اختو كارتبلتو …اشنوة يقولو عليّا مانيش راجل ..؟؟؟” …

من الاشياء التي لم انسها كذلك انني لاول مرة عند حلول الشتاء يشتري لي والدي رحمه الله (والاكيد بفعل معسول كلام عيادة) معطفا ….هو يسمى “ترواكار” اي يغطي ثلاثة ارباع الجسد ولشدة تعلقي به كنت لا افارقه كامل اليوم 24 على 24 ..حتى النوم انام به …وهذا حتما كان كافيا للقضاء عليه تماما في سنته الاولى لانه اصبح يشبه كل شيء الا ان يكون معطفا …جرّد وبره واصبح اشبه بالابرص …

هذه التفاصيل وغيرها في حياتي اليومية الدراسية جعلتني كثير الملاحظة دقيقها بدءا بالحافلة التي امتطيها مرورا بالمدينة العتيقة التي اكتشفت كل انهجها وازقتها وثناياها، وصولا الى المعهد بكل زخمه واحداثه واشيائه مما لم يترك لي مجالا للاعتناء بدروسي … كانت معدلاتي في الثلاث ثلاثيات لا تتجاوز السبعة على عشربين ..وكنت جديرا جدا بالرسوب لاني لا استحق النجاح وانا الذي لم اعره اي اهتمام ..التجربة رغم الخيبة لم احس يوما بالندم عليها ..كنت دوما ومازلت اؤمن بمسؤوليتي في كل ما يحصل وما اقوم به في حياتي ..لذلك استحق كل ما ينتج عن ذلك ..سلبا او ايجابا .. شكرا او سبا ..حبا او كرها … استحق ما جنته يداي …

ـ يتبع ـ…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار