جور نار
ورقات يتيم … الورقة رقم 15
نشرت
قبل 8 أشهرفي
…. السنة الاولى من التعليم الثانوي انتهت اذن بالرسوب …وجاءت العطلة الصيفية …..تلك السنة ورغم الرسوب ملأتني بشعور غريب …احسست في تلك العطلة بأن عبدالكريم آخر بدأ يظهر ..
تجربة السنة الاولى اثمرت في داخلي نوعا من الثقة بالنفس وربما نوعا من الغرور اذ كيف لراسب مثلي في سنته تلك المكللة بالفشل دراسيا وهو الذي كان طيلة دراسته في الابتدائي من الثلاثة الاوائل، ان يكون مزهوا واثق الخطوة يمشي (ليس ملكا قطعا) وكأنه ينظر الى الاشياء والاشخاص والاحداث من برج فوقي ..؟؟؟ في تلك العطلة الصيفية كانت حياتي تسير عادية هادئة …حتى حان موعد عرس احد الاقرباء لاكتشف عالما آخر .. هو من الميسورين …وانا ما حضرت مرة عرس ميسور ابدا …واعراس الميسورين كانت “ربوخ” حقا ..فبدءا بالعشاء الذي فيه ما لذ وطاب من المأكولات لللمدعويين من الاهل والاصدقاء حيث اماكن خاصة للنساء (الحريم) واخرى خاصة بالرجال و “العضارط” (جمع عضروط اي الشباب) وحتى الرجال والعضارط منقسمون الى مجموعتين الاولى كبار السن واطفالهم (اذ كيف لطفل في سني وامثالي ان يختلطوا بالحريم ..؟؟؟) والثانية للعضارط وهم في حلقات منزوية بعيدة عن كبار القوم يأكلون و”يمزّطون” اي يشربون بنت العنبة …
وكلما سمع احدالكبار صرير قواريرهم الا وعّبر البعض منهم (متطرفو ذلك الزمن) عن غضبهم من ام الخبائث: “توة هذا قال بيه ربي والله تقول نمشي نكسرهم على روسهم ..تي هاكة موش ولد خليفة .. لشكون جاء ؟؟؟ بوه خليفة حتى مات ما يعرفش طعمتو ؟؟” فيما يردّ المتفتحون (علمانيو ذلك الزمن) بالعبارة الشهيرة: “كيسان معدودة ويتوب عليهم ربي” … وفي الحقيقة هم لم يكونوا يوما لا متطرفين ولا علمانيين .. بل هم ايضا وفي زمان عضرطتهم كانوا في جلّهم مثلهم تماما ..الا ان الواحد منا ومنهم وفي عمومنا وعندما يتقدم به العمر يتعنتر ويتفنن في نقد تصرفات الاخر والافتاء والعنطزة، حيث لا يقدر ولا يريد ان يقدر مثلنا ومثل هؤلاء على قراءة الاحداث والسلوكيات بمنظار واقعي اي اولا “الجمل ما يراش حدبتو” وفي رواية اخرى “ما يراش عوج كرومتو” وثانيا هل تساءلوا لماذا لجأ امثال هؤلاء العضارط الى ام الخبائث ..؟؟؟ وعندما نعرف السبب لا فقط يبطل العجب بل يصلح العقار ما افسده الدهر ..
اولئك العضارط وقبل ان يركنوا للقوارير ليشتكوا لها بمعزوفة (وداوني بالتي كانت هي الداء) كانوا يقضّون كامل اليوم وهم ينصبون “التيندة” ركح الفرقة المغطّى وجهد بوهم طالع …ثم يرشون المكان المخصص للمدعويين (مساحة هامة من الجنان) بالماء حتى يستطيع الجميع التمتع بسهرة رائقة لا غبار فيها رغم وجود اغبرة اخرى عليها ..وعند العشاء تبدأ معزوفتهم (دع عنك لومي فان اللوم اغراء )…ينتهي العشاء ويبدا تقني مكبرات الصوت والمصادح بعمله ..يمر على كل مصدح ويطلق كلمة سره الغريبة “ساه”؟؟؟ فهمت بعد سنوات انه يجرب ويستعمل فعل جرب بالفرنسية وبشكل مدمر لكلمة essai…. ثم يتداول اعضاء الفرقة على التخت لاخذ اماكنهم ولبدء عملية تعديل اوتار آلاتهم الموسيقية ..وفي زاوية اخرى ينبري عنتر عازف الدربوكة الشهير يحمي دربوكته على مجمارة حتى ينضج جلدها وتستجيب لنقراته …
عنتر هذا كان في بداية الستينات ابرع عازف على الدربوكة دون منازع في صفاقس ومن اغرب ما روي عنه (مبني للمجهول في الفعل وفي الراوي) انه وقع منعه بتاتا من العزف على آلة الايقاع (الدربوكة) وعوضه عازف اخر يدعى لوربو واصبح بعده الاشهر بينما هو اكمل حياته بعزف الرق (الطار )… وقع منع عنتر لانه ذات سهرة اندمجت سيدة في مشاهدة عزفه وبكل انبهار فسقطت من اعلى البناية التي وقع فيها الحفل وماتت لتوّها (والعهدة على من روى) ..
لنعد الى حفل عرس قريبي … في تلك الليلة كانت الفرقة يقودها المرحوم محمد الدريدي عازف قانون بفرقة الاذاعة الجهوية ..وكنت اسمع كبار القوم الذين كانوا ينهون عن المنكر يتهامسون: “الليلة العوادة فيها زوز نساء” … كنت مندهشا من حفل عرس تحضره مطربتان خاصة ولعلمكم ان اذاعة صفاقس عندما فتحت ابوابها وجدت صعوبات كبيرة لادماج عنصر المرأة في فرقتها الموسيقية، لان الغناء انذاك لأية امرأة عيب ..بل عيب كبير .. بدأ الحفل وكأي حفل حتى بداية السبعينات بالمقطوعة الموسيقية الشهيرة (سماعي بياتي للملحن المصري ابراهيم العريان)… كل الفرق تبدأ بها وفي كل المناسبات ..ثم بعدها يأتي الموشح وهو في الغالب شوشانة وفي مرحلة متقدمة ناعورة الطبوع .. ثم تبدأ الاغاني الفردية وهي كلها طقطوقات اما تونسية او مشرقية وابدا ان يتغنى المطربون بعبد الوهاب او ام كلثوم او عبدالحليم ..وحتى المطربون انذاك لم يكونوا مطربين مختصين في الغناء فقط فهم في جلهم اعضاء عازفون في الفرقة ..ولا عزاء في الاعراس للسيدات …
المرأة لا يحق لها حضور الحفل الرجالي … وللامانة كما الرجل في الحفل النسائي لا حضور له مع النساء الذي يكون عادة في الغد وتديره فرقة موسيقية نسائية (بيانو وطار ودربوكة) ويقيادة اشهر الشهيرات كسودية .. المرأة في الحفل الرجالي تاخذ مكانها على سطح المنزل المقام فيه الحفل ..وبأمر من سي السيد عليها ان تلبس السفساري وتكون “التعويرة مغنبزة ” اي لا تظهر من وجهها الا كوة صغيرة على احدى عينيها .. ترى من ثقبها فقط العالم الاخر (وهكذا الاستمتناع او لا يكون _)… والويل والثبور لاية امرأة تظهر حتى عينها الثانية ..بينما عين سي السيد وعند خروج الراقصة تتحول الى بروجكتور رهيب تقضي على الاخضر والاخضر لانه لا يابس في جسدها حسب تعبيرات سي السيد وشلته وهم يتهامسون: “يعطيها عزة بدنها يتلعوك كيف الحلوى” …
عند خروج الراقصة فهمت وقتها ما معنى الليلة العرس فيه زوز نساء اي راقصتان …. وربما لانني من جينات سي السيد شدني ظهور الراقصة وانا اشاهدها لاول مرة (“لحم ولحم” موش لحم ودم) .. كانت اول مرة في حياتي اشاهد امرأة لابسة ثلاثة ارباع “بلاش هدوم” … فحتى عندما كنا نذهب للاصطياف في سيدي منصور كنا نرى شبه آدميات في البحر و”روبتهن” منتفخة في الماء اشبه بالبيوت المكيفة …صدقا ليلتها لم يكن احساسي بها احساسا جنسيا فانا طفل غر انذاك وكل مافيّ غر ايضا ..ولكن هو ربما اكتشاف جسد امرأة (لا انثى) تتلوى بكثير من الاناقة والجمال وبكل راحة واريحية … كنت متسمرا في مكاني انظر اليها احيانا باعجاب عميق وانظر احيانا الى اولئك “المتطرفين” وهم ينزعون كبابيسهم ويضربون بها افخاذهم من شدة الطرب وخاصة للفت انظارها لهم ولشواربهم المفتولة ولباسهم الانيق والمعد لهذه الليلة بالذات… لانه جرت العادة ان “ييبت” بالراقصة من يدفع اكثر من كبار القوم ولو كانوا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر …
اتمت الراقصة الاولى وصلتها وتركت مكانها للراقصة الثانية (موش قلتلكم زوز نساء ؟؟) وكعادتي “الخايبة” انا المهتم بالتفاصيل ..استاذنت ابي في الدخول الى المنزل لقضاء حاجة بشرية واذن لي دون اسئلة بوليسية …كيف لا والراقصة الثانية تعلن عن مقدمها (ربما هو ارتاح من خلقتي) رحمك الله يا سي محمد …وفعلا انا لم اكذب على الوالد انما اختلف معه فقط في نوعية الحاجة البشرية التي فهمها هو ..حاجتي البشرية انذاك ان اتلصًص على عرش الراقصة …تسللت وراءها وخلفها حارسها (صاحبنا متاع “اسسه” اي تقني مكبرات الصوت ..وكنت وددت لولم يكن معها ..ثم الم يكتف بتجربة المصادح ..؟؟؟)… ولانه كان حارسا بارعا لمحني بعين استكوتلانديارد ونهرني كي ابتعد عن عرش الراقصة … “رقدت في الخط” ولم اعره اي اهتمام وافهمته بذلك السلوك اني لم اسمعه و”تلهيت” بامور اخرى حتى يأمن جانبي ويعتبرني عبيطا لا افهم شيئا …
صعد وراقصتنا (طبعا موش متاعو هو اكهو علاه موش راقصتي انا زادة ؟؟؟) صعد الى مدرج يؤدي الى بيت في السطوح ..ذاك هو عرش الراقصة ..اغلقه وعندما سمعت صرير غلق الباب تسللت الى محيط العرش ..الباب لا مفتاح فيه بل الاروع ان المفتاح لا مكان له …اي هنالك كوة صغيرة بامكاني ان ارى من خلالها ما يجري بالداخل … و”ما كنتش من العاكسين” نظرت …سرير وحيد ب”وبلاصة” واحدة والراقصة مستلقية عليه وهي “تقرعط” (اي تشرب)في قارورة ستيلا ..وهي بيرة في قوارير ضخمة … طبعا وسيجارتها “عدو” بضم العين والدال، وهي تطلق عادة على ما ياكله النديم من ماكولات على طاولة ابي نواس …الا ان مقدم احدهم في المدرج افسد عليّ متعة الفرجة واسرعت بعيدا عن بيت السطح …القادمة تفطنت لوجود احد ما هنالك فقدمت للاستطلاع ..انها خالتي نفيسة رحمها الله ..كانت تحبني هلبة وكانت تعتبرني ابنها وهي التي لم تتزوج ولم ترزق …سالت عن وجودي هنالك فافدتها اني اردت مشاهدة الحفل من فوق السطوح …”موش هذا السطح يا ولدي ايجا انهزك للسطح الاخر” …
حملتني معها حيث السطح الاخر وحيث امي …انطلت الحيلة واستاذنت العودة للبقاء مع الرجال …ولم تلح امي في بقائي بجانبها لان خالي رحمه الله كان يعتبر وجود الاطفال في مثل سني بجانب النساء غير محبذ ..ولانها كانت تحترمه جدا ارتات في عودتي لمصاف الرجال اسلم للجميع، رغم انها في قرارة نفسها كانت تكون اكثر راحة لو كنت بجانبها خوفا من العقارب وسط الجنان ..براف ..رضي الخصمان (انا وامي) وهرولت بسرعة الى عرش الراقصة وبالتحديد الى كوة الكاميرا (مكان المفتاح) …وما ان وضعت عيني على الكوة حتى هالني ما رايت …الراقصة وتقني الابواق يتخاصمان …وعادت بي ذاكرتي الى النزالات التي كنا نتبارى فيها نحن الاطفال …كنا وعندما نتخاصم مع بعضنا يقترح الواحد منا على الاخر معركة بقوله: “ايّا تطيحلي”…؟؟؟ وعندما نتفق يقع طرح السؤال الموالي: “بونية والا صراع او ڨراش؟… وفي الحالة الثانية الغالب هو من يطيح بخصمه ويجثم على صدره …وتقني المصادح غالب في الڨراش ….كدت افتح الباب لادافع عن الراقصة …ثم “ما يحشمش يلعب ڨراش مع مرا ؟؟؟؟ المفروض يتصارع هو وراجل كيفو” … وما هدّأ من روعي انذاك ضحكات الراقصة الخفيفة وكأنها تحب الڨراش ….
غادرت المشهد واجما ولم احك لاحد ما شاهدت ولا ما سمعت وانتظرت خروجها لرقصتها الثانية …عندما خرجت كانت اكثر دلالا واكثر غنجا واكثر حيوية ..كانت شهية كطعم الشهد وعسولة كطعم الرقص ..يبدو ان الڨراش يعمل …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 15 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 15 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟