تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 22

نشرت

في

Premium Vector | Sketch of the vintage radio receiver. vektor illustration

هل لي ان اذكّر بان انتقالي من المرحلة الاولى للتعليم الثانوي الى الرابعة آداب كانت سنة تحوّلات كبيرة ..؟؟

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

لابدأ بمحيطي العائلي …عبدالكريم في نظر كل سكان الحوش اصبح مهابا ..حتى الملاحظات والنهي التي كانت تلاحقني خفّ ازيزها ..حتى عيّادة الغالية اصبحت ترى في ولدها بذرة امل لمستقبلها علّه ينوّر حياتها بعد تعب السنين، فتراها تلجأ الى الملاحظات الناعمة شكلا ولكنّها المحذرة دوما من الاخطاء والمنزلقات ..اتذكّر جيّدا انّها شاهدتني مرّة مع “ولد برّبة” وهو في مثل سنّي لكنّه مصاب بمرض الرمد الذي قضى على ثلثي عينيه ثم جانب النظافة فيه يكاد يكون منعدما … كان جميع اتراب الحومة يتحاشونه ..وكان ذلك المهجور من قبل الجميع …

شاهدتني عيادة مرّة معه وانا اعانقه بكل حنّية …وبكل ودّ وربما بكثير من الشفقة …همست بعتاب جميل: “يا وليدي توّة ما لقيت تعنّق كان احمد ولد بربّة ؟؟؟ ما شفتش حالتو كيفانهيّة والذبّان اللي يدور عليه ؟؟؟ اجبتها بكل الم: علاه يا عيادة ما خلقوش ربي ..؟؟؟ ولعلّها فهمت المي فردّت باقتضاب ..لا حبّيت نقلّك وبرّة …انا نحبّ نشوفك في مراتب عليا والمهم تعرف اشكون تصاحب وتبعد على اولاد الحرام اللي لا يناموا ولا يخلليو شكون ينام …واتذكّر جيّدا اني ذات مرّة وانا اردّ على مثل هذه الملاحظات الزجريّة لخّصتُ لها ما تنتظره منّي بالقول: شوف يا عيادة حاجة من الاثنين انا راني كي نكبر يا نذّن يا نقيّم فيها الاذان …

دائما في محيطي العائلي كانت تلك السنة سنة تحوّل كم هو مهم ومؤثر جدا في حياتي …في تلك السنة (كدت اقول في بيتنا رجل لعبدالقدوس) ..في تلك السنة في بيتنا راديو…لست ادري كيفاش طلعت عند الوالد سي محمد، كي يقتني مذياعا ..كان من النوع الذي يشتغل بالبطارية يحملها على ظهره ويقع كبسها بشريط بلاستيكي… تماما كما تحمل المرأة الريفية رضيعها فوق ظهرها وتشدّه بمليتها ..ومن جملة عبثنا انذاك اننا كنّا نتساءل عن كيفيّة ارضاعها لذلك الرضيع اثناء شغلها حتى لا تضيع الوقت ..كنّا نقول عنها ستخرج ثديها من تحت ثيابها وترمي به في حركة الى الوراء تماما كما نرمي”الكشكول” على عنقنا لنحميه من البرد شتاء .. حتى يصل ثديها الى فم رضيعها دون عناء …تصوروا ثديا في طوله كالكشكول ..؟؟.شفتو ما اخيبنا ..؟؟

كان المذياع بالنسبة لي الحدث السعيد وايضا بالنسبة لسكّان الحوش الذين كانوا يتحلّقون حوله كل صباح بداية من العاشرة لتكسير اللوز الجاف وللاستماع الى اكثر برنامج جماهيري انذاك: “اغنية لكل مستمع” في الاذاعة الوطنية . وهو برنامج خاص باهداءات الاغاني … اكهو …وكانوا في حوشنا يتقاسمون الاغاني الاولى لفلانة الثانية لفلتانة وهكذا …وبعضهم يتفاءل بما وفّر له حظه الذي قد ينبئه بعريس وهو يستمع الى جواب حب ..”وختما لك الف سلام من قلب لا بيهدا ولا ينام قلب حبيبك” …بينما الاخر يصفرّ وجهه وهو يستمع الى راح راح راح خاصة والاخرون والاصحّ الاخريات تتغامزن على حظّها التعيس ….والمذياع في رمضان هو كنز من كنوز سليمان ..فتحيّة الغروب لعادل يوسف عندليب الاصوات، وحكايات او سمر عبدالعزيز العروي وشاناب والحاج كلوف واختبر ذكاءك…

يوم الثلاثاء كان جميع سكان الحوش يتحلقون حول ذلك المذياع للاستماع والاستمتاع … خاصّة في فصل الصيف حيث تتنوّر وسطية الحوش بـ “كربيلة” من جهة وفنار من جهة اخرى لاضاءة بعض اركانه… و انذاك الستاغ والصوناد كانتا خارج دائرة الوجود… ولتحلّق العائلات الثلاث في اللمّة متعة حميمة جدا رغم كل التجاذبات بين السلايف… لمّة يبدو انّها اضمحلّت تماما في حياتنا الان، لأن التحلّق اصبح ثنائيا بين كلّ فرد وهاتفه (وتسمع كان تك تك…كل “يشاتي” على هواه … ما ابشعنا في عصر الانترنيت عصر رغم كل ايجابيّاته قضى على اجمل ما في الجمال…اللمة العائلية …اليس كذلك يا عالم ..؟؟؟

المذياع بالنسبة لي كان مجالا لاكتشاف محطّات اذاعية اخرى ….مشرقيّة بالاساس ..في تلك السنة اكتشفت الاذاعات المصرية (صوت العرب من القاهرة واذاعة الشرق الاوسط من القاهرة )… هاتان الاذاعتان قهرتا امّي رحمها الله وكانت كلّما راتني متيّما بالمذياع في لياليّ الاّ وعلّقت ..مع هاكي القاهرة هواشي؟ …يرّاها مقهورة ..هي لم تكن لها رغبة في الاستماع الى المذياع عموما ولكنّها كانت تلاحظ ان الاذاعة عامة والاذاعة القاهرية خاصّة اخذت تأخذ من وقتي الكثير على حساب دراستي ..وهي للامانة كانت محقّة نسبيا في ذلك ..فانا وكما تعرفون لم اكن يوما محراث خدمة في الدراسة ولكن سهراتي مع الاذاعتين المصريتين وخاصّة اذاعة الشرق الاوسط، اصبحت يومية بل الى حدّ الادمان ..انذاك وجدت في في هذه المحطة انماطا جديدة من الاساليب الاذاعية…

دعوني اقل لكم اننا نحن التونسيّين كنّا منبهرين باللهجة المصرية من خلال ما نستمع اليه من اغانيهم او من خلال الكم القليل من الافلام التي شاهدناها … كنّا نحسّ بعمق الغرام ونحن نستمع الى احمد مظهر او رشدي اباظة او عبدالحليم او ايّ مصري كان وهو يقول متغزّلا بحبيبته °وحياة عينيك مشتاق اليك” خاصّة بصوت ذلك البلبل الحزين فريد الاطرش لليليا في فلمه …يسري ذلك الغزل في عروقنا خاصة نحن المراهقين سريان المخدّر في “جواجينا”… ثم في تلك الاذاعة اكتشفت انذاك عالم الاشهار الذي كان مفقودا تماما في اذاعتي تونس وصفاقس . اقول لمن هم من نفس تلك الحقبة هل تتذكرون (كانت كانت سيجارة حبيبي) و(الفروج الدنماركي) و(دخّن سالم وانت سالم)؟؟ ثمّ وهو ما شدّني لتلك الاذاعة اسلوبها التنشيطي ..الخفيف الديناميكي ..

الاذاعة انذاك في تونس اذاعة معلّبة جامدة الى درجة الثقل الزئبقي ..اذا انّها كانت تعتمد في جلّها على البرامج المسجّلة وباللغة العربية …تصوّروا فقط انّه لا وجود لبرامج مباشرة باستثناء النشرات الاخبارية والمواجيز ..او نقل المباريات الرياضية او بعض السهرات الغنائية .فقط ؟؟؟ لذلك كانت حركية وخفة التنشيط في اذاعة الشرق الاوسط اكتشافا بالنسبة لي… لذلك كنت استحوذ وبشكل متعسّف على الاخرين ليكون المذياع ملكي بداية من التاسعة ليلا حتى منتصف الليل ..ومانيش ديمقراطي ويلعن جد والدين بو الديموقراطية اللي وصّلتنا بعد 14 جانفي لهذا الوضع الكارثي ..وطزززززززززززززززززززززز في الديموقراطية اللي ماشية بتونس للكارثة من جرّاء الانتهازيين الكوارث اللي على كل لون يا كريمة …يمّة عليك يا تونس يا غالية قدّاش طيّحولك قدرك وعبثو بيك ها الكوارث…

في تلك الاذاعة ايضا وككل الاذاعات المصرية هنالك موعد مع السحر شهريا ..اخر خميس من كل شهر حفلة العظمة على عظمة ..الست ام كلثوم وفي سهرة شهرية تقدّم اغنيتين واحدة جديدة واخرى قديمة ..يااااااااااااااااااااااااااااه اشي عوّدت عيني على رؤياك ..اشي يا ظالمني ..اشي بعيد عنّك اشي امل حياتي واشي واشي واشي ….اريد ان اطرح سؤالا كم يؤلمني طرحه: بالله اش يحسّو ارواحهم الناس اللي من جيلي وجيل القمم الفنية وهوما يشوفو صغارهم واحفادهم يتغناو بـ “اشترق تق”..؟؟؟ كثيرا ما اسمع من البعض اجابة من نوع (كل وقت ووقتو() و(كل جيل عندو فنّو)… لهؤلاء اقول انتم فعلا على حق لان الاجيال مختلفة جدا والعصور ايضا مختلفة جدّا… فقط تذكّروا انه من جملة العصور هنالك عصور يجمع عليها المؤرخون بانها عصور الانحطاط …واترك لكم تصنيف اي عصر هو جدير بصفة الانحطاط ..شكرا اذاعة الشرق الاوسط التي كم متّعتني وكم كان لها تاثير عميق عليّ…وتاثير سكناها في لاشعوري لاجد رواسبها الجميلة تخرج الى السطح ذات سنة وللحديث تفاصيل في قادم الورقات ..

في تلك السنة من عمري توطّدت علاقتي بساقية الداير هذه المنطقة والتي تبعد عن مركز المدينة 6 كم طريق المهدية… اخذتني منذ السنة الاولى من تعليمي الثانوي من ساقية الزيت 7 كم عن وسط المدينة طريق تونس… ظروف التنقل الى وسط المدينة كانت ايسر عن طريق المهدية، لكن علاقتي لم تتوطّد بشكل عميق الا ابتداء من السنة الرابعة ..عامل العمر لعب دورا هاما ..كانت علاقاتي في السنوات الاولى منحصرة مع عائلة “المدّب التريكي” رحمه الله لان ابنه رضا (صديق كلّ عمري) ربطتني به علاقة حميمة جدا منذ صغرنا ..كنّا ومنذ الطفولة وحتى سنوات متقدمة جدا لا نقترق بتاتا …كنت اكبره عمرا بسنة وكنّا متلازمين بشكل يعرفه الجميع ويحسده البعض واستمر الى مرحلة متقدمة من العمر ثمّ ..آه …. آه من الايام آه لم تعط من يهوى مناه ….ساعود الى التفاصيل ..

اذن كانت علاقتي مع اصدقاء الساقية محدودة في البداية ..الا ان تلك السنة كانت سنة تطوّر نوعي وكمّي مع العديد ..الحرّية التي اصبحت افرضها على عائلتي حرّية الوقت ..حرّية الصّداقة ..حرّية لعب الكرة ..كلّها مكنتني من مخالطة عديد الانماط …سنتها اكتشفت لعبة البولاط في حانوت خويا احمد الفقي متّعه الله بالصحّة و اطال عمره …دكاكين الحلاقة انذاك لا تتجاوز في الساقية الاربعة حيث كل حلاّق له نوعية معيّنة من الحرفاء عمريا ومهنيا ..وحانوت “بو احمص” كما كنا نسمّيه جلّه شباب فيه التلمذي وفيه الصّايع …وكم كان اولئك الصيّع على غاية من الجمال والضّمار والطيبة ..الا ان التوصيفات في ذلك الزمن لمعنى _الصّايع _ هو الذي لم ينجح في دراسته ويدخّن او يشرب الخمر ..رغم ان اولياءهم ومن ماثل اولياءهم سنا هم اقرب الى ابي نواس في تعاطي الخمر من الصيّع … علاوة على فتل “شنباتهم” رمز الرجولة والذكورة معا كلّما حضروا حفل زفاف فيه “مرا” علّهم “يباتوا بيها” حسب تعبيرهم ..

انذاك لم اكن ادخّن بالمعنى الحقيقي للتدخين ..قمت بتجربة سجائر القراطيس صنعا لكن لم ترق لي النكهة … بل اكثر من ذلك كنت اتأفف من رائحة دخان السجائر واندهش من قوم اسمّيهم “اخّ بفّ” تعبيرا عن الزفير والشهيق وهم يدخّنون … في الساقية كان ملتقانا اليومي باستثناء الاثنين (عطلة الحلاقين والتجارين بساقيتنا) بحانوت حلاقنا وكان مجاورا لمدرسة الامانة للفتيات من جهة ولحانوت الفواكهة الجافة (حمّاص) لواحد من افضل من عرفته الساقية اخلاقا وسلوكا … سي المبروك الله يرحمو… هو جنوبي كسائر الحمّاصة من اصيلي مدنين ويقدر ما كان اخوه صلفا جدّا معنا بقدر ما كان سي مبروك لطيفا وديعا باسما ..تصوّروا ان كلّ الصيّع انتذاك يقتنون منه سجائرهم “بالكريدي” دون ان يدوّن اسم اي واحد منهم …وكلّه ايمان بأنهم سيرجعون يوما ما عليهم من دين .. وايمانه في محلّه دون شك واشكون يغيّر سي مبروك ؟؟؟

هذه بسيطة .لكن دعوني اقل لكم ما حدث لي معه يوم ان اصبحت من قبيلة الصيّع وادخّن مثلهم ..اوّلا سي مبروك هذا كان يحبّني بشكل مختلف عن الجميع كان يسمّيني “كريّم” بضم الكاف ..هكّة رشقتلو اشكون يسالو … ثمّ كان كلّما يهم بمغادرة حانوته للتسوّق من وسط المدينة يكلّفني انا او لا احد بتعويضه كحمّاص في حانوته . نعم اشتغلت صانع حمّاص عند سي المبروك … .وكنت اقبل بكل حفاوة وطيب خاطر لأجل ذلك الرجل الطيب الجميل ولكنها كانت مني حفاوة انتهازية …. نعم انتهازية ….ذلك لان حانوته وكما اسلفت كان يبعد بضعة امتار عن مدرسة الفتيات الابتدائية والتي فيها انذاك “هسكّة” اي تلميذات مكتملات التكوين جسديا ..وتلك فرصة لي حتى اغازل احداهن ..والمغازلة انذاك وحتى في تلك السن لا تتجاوز ابتسامة ماكرة اعرف مسبقا انّها تؤدّي رسالتها .. ثمّ ماذا بعد ذلك ….؟؟؟؟صدّقوني لا شيء …. لا شيء …

باستثناء واحدة منهن تجرّات ولست ادري كيف بعد ان تفاعلت مع ملاحقتي لها بابتساماتي الماكرة تجرأت على ان ترسل لي عن طريق اخيها الطفل (5 سنوات) رسالة فيها بالضبط حرفيا بحباك …ولست ادري ما دخل الالف الزائدة بعد الباء ؟؟ وفيها ….صورتها .نعم صورتها لم اقل عنها المرحومة ..ليس لاني اعرف شيئا عنها الان بل لانه لو °شلّق ° بها احد اخوتها الذكور وخاصّة والدها الصارم جدّا والذي لم اره يوما مبتسما لكانت في عداد المرحومات وربّما لحقني شويّة الطشّ …..ويوم فاقت بيها عيادة قالت لي بالحرف الواحد، اشنية هالمرعوبة (قطعة الفحم الرديئة) مانيش راضية عليك لو كان تفكّر تاخذها ..ما اعزك وما اهونك تاخذ حطبة كيف هذي …

عيّادة وغيرها ولحدّ يوم الناس هذا لم يعرفوا ان اقدارنا هي التي تسيّر حياتنا وان الجمال له مقاييس اعمق من مرعوبة وبيضاء وشقراء ..ومربوعة قدّ وطويلة وقصيرة وفمها واسع وخشمها طويل وحجرة فمها عالية وعودة على دودة وان افضل ما قيل في العلاقات في العشق في الجمال في اي عمر ..في اي زمان .في اي مكان .. خوذو عيني شوفو بيها … وحتى اكون صادقا معكم، مانيش ماشي نعطيكم عيني تشوفو بيها … ده كلام ؟؟؟

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

حرب عالمية… تجارية، دون ذخيرة حيّة… على الأبواب!

نشرت

في

محمد الأطرش:

يتساءل الجميع اليوم عن حجم ردود الفعل العالمية المنتظرة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن هيكل تعريفي جديد للولايات المتحدة في “يوم التحرير الثاني”… وهي التسمية التي أطلقها ترامب على يوم الثاني من أفريل من هذه السنة، ترامب يعتبر ذلك اليوم ثاني أهمّ يوم في تاريخ الماما بعد اعلان استقلالها يوم 4 جويلية من سنة 1776 …

يرى ساكن البيت الأبيض أن الإجراءات التي أعلن عنها يومها ستعيد الحياة للعصر الذهبي لأمريكا، وستجدد من استقلالها حسب رأيه… ولسان حاله يقول انه لم يجد حلاّ لمشاكل الماما الاقتصادية غير فرض ضرائب على دول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية والبرازيل والهند والصين واليابان وكندا والمكسيك والعديد من الدول الأخرى، رغم أنه يدرك جيّدا ان أغلب هذه الدول ستعامله بالمثل وقد لا تخرج الماما من الازمة الاقتصادية بالسهولة التي يتصورها… فدول الاتحاد الأوروبي تسعى لتكوين جبهة موحدة في الأيام المقبلة لتقف في وجه ما قرره ترامب… ومن المحتمل أن يتم الاتفاق حول مجموعة أولى من الإجراءات المضادة تستهدف واردات أمريكية تصل قيمتها إلى 28 مليار دولار…

 هذا التحرك المنتظر يعني بالتأكيد انضمام الاتحاد الأوروبي إلى الصين وكندا في فرض تعريفات ردعية انتقامية على الولايات المتحدة في تصعيد مبكّر لما يخشى البعض أن يتحول إلى حرب تجارية اقتصادية عالمية… والخوف كل الخوف أن ترتفع تكلفة الآلاف من السلع لأغلب سكان المعمورة مما قد يدفع أغلب الاقتصادات حول العالم إلى الركود.

وتهدف الجبهة التي يسعى الاتحاد الأوروبي لتكوينها إلى الخروج برسالة موحدة تعبر عن النيّة والرغبة في التفاوض جدّيا مع ساكن واشنطن لإزالة التعريفات… مع التلويح بالاستعداد الدائم للمعاملة بالمثل والرد بإجراءات جمركية ثأرية مضادة، إن فشلت هذه المفاوضات في إزالة التعريفات الجديدة التي يريد ترامب فرضها على الجميع أو في التخفيض منها… ومن بين المنتجات التي حظيت باهتمام الجبهة الأوروبية الموحدة وأثارت قلق الرئيس ترامب، فرض رسوم جمركية جديدة على “البوربون” الأمريكي (الويسكي) بنسبة قد تصل إلى 50%… وهو الأمر الذي جعل ترامب يهدّد برسوم نسبتها 200% على النبيذ والشمبانيا وغيرهما من المنتجات الكحولية من فرنسا وإيطاليا وغيرهما من دول الاتحاد الأوروبي.

تغطي التعريفات الجمركية الجديدة التي فرضها ترامب على الاتحاد الأوروبي حوالي 70% من صادراته نحو الولايات المتحدة… وقد بلغت قيمتها الإجمالية 532 مليار يورو (585 مليار دولار) العام الماضي، مع احتمال فرض رسوم أخرى على العديد من الصادرات الاخرى في المستقبل إن تعنتت الجبهة الأوروبية وردّت بالمثل… وتفيد بعض المصادر ان المفوضية التي تنسق السياسات التجارية للاتحاد الأوروبي قد تكون اقترحت على أعضائها قائمة بالمنتجات الأمريكية التي يجب ان تخضع لرسوم جمركية إضافية، ردّا على ما فرضه ترامب من تعريفات جديدة على الصلب والألومنيوم بدلاً من الرسوم المتبادلة… ومن المتوقع أن تشمل هذه المنتجات اللحوم الأمريكية، والحبوب، وغيرها من المنتجات التي قد تثير قلق ترامب…

وبالعودة إلى تاريخ الصراعات التجارية التي شهدها العالم، يذكر جميعنا انهيار سوق الأسهم سنة 1929 والإجراءات الحمائية التي تبعته وما وقع في السنوات التي تلته… فقد تمّ القضاء على ثلثي التجارة العالمية إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت عن تخفيض الولايات المتحدة لجميع التعريفات الجمركية على أي شريك تجاري سيقوم بالمثل… لذلك لا يمكن تجاهل حدوث انخفاض حاد في التجارة العالمية لو تعنّتت جميع الأطراف وواصلت سياسات الردّ بالمثل وعدم العودة إلى رسومات جمركية يقبل بها الجميع …

لكن في هذه الحرب التجارية الطاحنة، لكن هل فكّر ترامب وخصومه في “كيف سيكون حال الدول الفقيرة وشعوبها؟؟” فأغلب الشعوب التي قد تتضرر مما اقدم عليه الرئيس ترامب عانت من أزمة 2008 ولم تخرج من اسقاطاتها وتبعاتها إلى يومنا هذا… وبعضها انهارت اقتصاديا بعد سنوات الكوفيد ولم تخرج إلى يومنا هذا من وجعها ومعاناتها… لذلك علينا ان لا ننسى أن أكبر الخاسرين هم أغلب دول إفريقيا وجنوب شرقي آسيا وبعض دول الشرق الأوسط التي لا تعيش على ما يجود لهم به باطن الأرض… فما يفعله اليوم ترامب وخصومه بالشعوب الفقيرة يعتبر جريمة وطوفانا مدمرا لاقتصاداتها فأغلب هذه الدول تعيش على التسوّل وقروض صندوق النقد الدولي ومساعدات البنك الدولي…

ترامب لم يفكّر في مصير شعوب الدول الفقيرة بل فكّر فقط في إصلاح اختلال ميزان الماما التجاري… ونسي اختلال الميزان التجاري لدول لا يفوق اقتصادها اقتصاد مدينة من مدن أفقر ولاية من ولايات الماما… فهل يزحف الركود التجاري والاقتصادي إلى اغلب دول العالم بما اتاه ترامب بشطحاته الغريبة؟؟ وهل يعود الجميع إلى العقل، أم أن حلقة تصعيد إضافية ستفتح؟؟… ويصل بنا الأمر إلى حرب عالمية تجارية قد تكون …تبعاتها أخطر من كل الحروب التي عرفها العالم؟؟

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 113

نشرت

في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد الكريم قطاطة:

من طباعي منذ كنت شابا انّ الله وهبني نعمة الصبر على كل شيء… وكان العديد من اصدقائي يغبطونني على (دمي البارد)… وعندما هرعت الى الله تعمّقت في داخلي القدرة على تحمّل كلّ المشاكل ومخلّفاتها… قد اكون واحدا من سلالة ايّوب، ولكن… واذا فاض كأس الصبر كما غنّى شكري بوزيان… واذا علا صوت ام كلثوم بـ (ما تصبرنيش ما خلاص انا فاض بيّ وملّيت)… وتختمها بـ(للصبر حدود يا حبيبي)… اردّ كأيّ بشر الفعل، لكنني كنت آخذ قراراتي ودائما باعصاب هادئة في ردّ الفعل…

عبد الكريم قطاطة

عندما اسرّت لي زميلتاي باذاعة الشباب بالحوار الذي دار بينهما وبين مديري سي عبدالقادر الله يرحمو… وفهمت انّ حدسي كان في محلّه بالشكّ في نواياه بعد الجلسة الصلحية مع زميلي الصادق بوعبان… تكسّر كأس الصبر… والكأس اذا تكسّر يستحيل لمّ شتاته…. ايقنت ان لا فائدة تُرجى من ايّ صلح بل وقررت ان تكون الحرب معه… اكاهو… وعليّ ان استعدّ لاوزارها… وليضحك كثيرا من يضحك اخيرا… انتهت السهرة الخاصة بتكريمي مع زميلتيّ وكانتا سعيدتين بها شكلا ومضمونا وعدت الى بيتي لاخطّط لحرب فعلية مع مديري…

وفي الصباح الباكر ذهبت لمكتبه… سلّمت عليه وسألته هل استمع الى حصّة التكريم البارحة… اجابني بالايجاب بل وشكرني على كلّ ما قلته في تلك السهرة… سالته باستعباط هل صدر منّي كلام او تعليق في غير محلّه لايّ كان؟.. اجابني: (ابدا ابدا، يخخي انت جديد عليّ نعرفك معلّم) … كنت جالسا فنهضت واقفا امامه واضعا كفّي يديّ على طاولة مكتبه وكأنّي تحوّلت من لاعب وسط ميدان الى مهاجم صريح وقلت له: (انا طول عمري كنت راجل معاك رغم كل الاختلافات والخلافات… ولم اقل في ظهرك كلمة سوء لكن وللاسف الذي حدث امس بينك وبين زميلتيّ في اذاعة الشباب ونُصحك اياهما بتغييري كضيف لهما اكّد بالدليل القاطع انّو بقدر ما انا كنت راجل معاك انت ما كنتش…..)

نعم هي كلمة وقحة ولكنّي قلتها لانّو فاض كاس الصبر… اندهش مديري منّي وانا اتلفّظ لاوّل مرّة بكلمة لا تليق به وقال لي: انت غلطت في حقّي راك.. قلت له: اعرف ذلك وانا جئت اليوم لاثبت لك اني ساعلن الحرب عليك ..ودون هوادة .. وصحّة ليك كان ربحتها وخرجتني قبل التقاعد مثلما قلت ذلك مرات عديدة، اما صحّة ليّ انا زادة كان خرجتك قبل التقاعد… وباش تعرف رجوليتي معاك ثمشي واحد يعلن الحرب على الاخر ويجي ويعلمو بيها ..؟؟ اذن اعتبرني من اليوم عدوّا لك ولكن ثق انّ الحرب بقدر ما ستكون شرسة بقدر ما ستكون من جانبي شريفة بمعنى ـ وربّي شاهد عليّ ـ لن الفّق لك ايّة تهمة لكن سافضح كلّ اعمالك)…

ولم انتظر اجابة منه… غادرت مكتبه وعزمت على التنفيذ… اتّصلت بالعديد من الزملاء الذين تضرروا من تصرفات مديري وسالتهم هل هم مستعدون للادلاء بشهادتهم كتابيا؟؟.. ولبّى العديد منهم طلبي… دون نسياني كتابة تقرير ل بكلّ ما حدث منذ قدومه على رأس اذاعة صفاقس… وللشفافية، كان هنالك ايضا تقرير على غاية من الاهمية وفي ثلاث ورقات كتبته احدى سكريتيراته وبتفاصيل مرعبة بعد ان ذاقت منه الويل… واعتقد انّ ذلك التقرير لعب دورا هاما في قرار اصحاب القرار…

اذن اصبح عندي ملفّ جاهز يحتوي على 30 ورقة ولم افكّر بتاتا في ارساله لا الى رئيس المؤسسة ولا الى ايّ كان… كان هدفي ان ارسله رأسا الى رئيس الدولة دون المرور عبر الرجل النافذ في الاعلام انذاك السيّد عبدالوهاب عبدالله الذي اعلم انه يكنّ لمديري ودّا خاصّا… وهذا يعني اذا يطيح بيه يبعثو لمؤانسة اهل الكهف (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)… وكم هو عدد الكلاب في حاشية الحكّام… لكن كيف يمكن لي ارسال الملفّ على الفاكس الشخصي للرئيس بن علي؟ ووجدت الحلّ (عليّ وعلى هاكة الناقوبة)… الناقوبة هي كنية لزميل يعمل في الصحافة المكتوبة وماشاء الله عليه في اجندا العلاقات… نعم مع الولاة مع الوزراء مع عدد لا يُحصى… تذكّرت وانا ابحث عمن يوصلني الى الفاكس الشخصي لرئيس الدولة…

تذكرت ذلك الناقوبة وتذكرت خاصة يوم زفافه… كنت يومها ممن حضروا حفل زفافه، خاصة انّ علاقتي به كانت من نوع علاقة الاستاذ بتلميذه… اذ هو ومنذ كان طالبا كان من مستمعيّ وعندما بدأ يخربش اولى محاولاته في الكتابة الصحفية مددت له يدي وشجعته … ولكن في اجندا العلاقات تفوّق الناقوبة التلميذ على استاذه… وللامانة حمدت الله على انّ اجندة العلاقات في حياتي سواء العامة او المهنية خلت من مثل اولئك الكبارات، هكذا يسمّونهم… ولكن وحسب ما عشته، قليل منهم من يستحق لقب الكبير…

يوم زفاف ذلك الناقوبة اشار اليّ من بعيد وهو بجانب عروسه كي اتوجّه اليه… توجهت لمنصة العروسين واقتربت منه فهمس في اذني (ماشي نوريك ورقة اقراها ورجعهالي) .. ومدّ اليّ تلغراف تهنئة لزفافه وبامضاء من؟… بامضاء زين العابدين بن علي… رئيس الجمهورية… الم اقل لكم انه باش ناقوبة ..؟؟ اذن عليّ به ليصل الملفّ الى الفاكس الشخصي للرئيس بن علي… بسطت له الفكرة وبكلّ برودة دم ووثوق اجابني: هات الملفّ وغدوة يوصل للرئيس وفي فاكسه الشخصي…

كان ذلك وسط شهر جوان ..ولم يمض يومان حتى هاتفني المرحوم كمال عمران المدير العام للقنوات الاذاعية ليقول لي: (يا سي عبدالكريم الملفّ الذي ارسلته للرئيس بن علي احاله لي شخصيا وكلفني بالقيام بابحاث مدققة مع جميع الاطراف وانت واحد منهم… ما يعزش بيك هذا امر رئاسي وعليّ تنفيذه)… اجبت على الفور: (وعلاش يعزّ بيّ؟.. ونزيد نقلك اكثر ما نسامحكش قدام ربّي اذا تقول فيّ كلمة سمحة ما نستاهلهاش)… وانتهت المكالمة وقام السيد كمال عمران رحمه الله بدوره كما ينبغي مع الجميع وللامانة ليست لي ايّة فكرة عن تقرير السيّد كمال عمران الذي ارسله للرئيس بن علي…

وما ان حلّ الاسبوع الاوّل من شهر جويلية حتى صدر القرار…ق رار رئيس الدولة باقالة السيّد عبدالقادر عقير من مهامه على راس اذاعة صفاقس وتعيين السيد رمضان العليمي خلفا له… يوم صدور القرار ذهبت الى مكتب سي عبدالقادر واقسم بالله دون شعور واحد بالمائة من خبث الشماتة… استقبلتني سكرتيرته زميلتي فاطمة العلوي ورجوتها ان تعلن للسيد عبدالقادر عن قدومي لمقابلته… خرج اليّ مديري الى مكتب السكرتيرة… سلّم عليّ ولم اتركه للضياع وقلت له : (انا ما اتيتك شامتا ولكن اتيتك لاقول لك انّ قرار اقالتك انا عملت عليه وانا الذي ارسلت الى الرئيس ملفا كاملا حول تصرفاتك ويشهد الله اني لم افترِ عليك بتاتا… الآن جئت لاودّعك ولأتمنى لك الصحة ولاقول لك انا مسامحك دنيا وآخرة…

عانقني سي عبدالقادر والدموع في عينيه وقال لي: (انت هو الراجل وانا هو اللي ما كنتش راجل معاك وربي يهلك اصحاب الشرّ)… غادرت المكان وتلك كانت الحلقة الاخيرة مع السيد عبدالقادر عقير رحمه الله وغفر له… سامح الله ايضا الشلّة التي عبثت بالمدير وبمصلحة اذاعة صفاقس وبالعديد من الزملاء… وهذه الفئة ذكرها الله في القرآن بقوله عنها (الملأ) ووُجدت في كل الانظمة عبر التاريخ وستوجد حتى يوم البعث… انها شلّة الهمّازين واللمازين والحاقدين والاشرار وخاصة ذوي القدرات المحدودة فيعوّضون عن ضعفهم وسذاجة تفكيرهم بنصب الفخاخ للاخرين وبكلّ انواع الفخاخ…

انهم احفاد قابيل…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار