تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 28

نشرت

في

Les outils de l'enseignant

في حياة الواحد منّا هزّات تعصف باحلامه او لنقل تعصف بالعديد منها ..هزيمتي في تجاوز عقبة الجزء الاول من الباكالوريا اربكتني لاسباب عدّة ..اولها نرجسي ..لاّني كنت دوما في نظر محيطي من عائلة واصدقاء وزملاء في الدراسة واساتذة ..عبدالكريم الشاطر ..فاجدني خذلتهم جميعا ..

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

ثاني الاسباب ان وضع العائلي المادي لم يكن يسمح بمزيد المصاريف … وثالثهما تلك الفتاة التي ارتبطت بها عاطفيا ..كيف لي ان اوفّر لنا معا الارضيّة لبناء عشّ مشترك ..لهذه الاسباب مجتمعة قرّرت ان لا رجعة للدراسة والبحث عن شغل …. مستواي الدراسي في تلك الحقبة من الزمن (سنة 1968) كان يسمح لي بولوج دنيا الشغل فالاطارات التدريسية انذاك كانت تحتاج الى معلّمين واساتذة وفي اختصاصات متعددة .. لذلك كنا نجد في جل معاهدنا نقصا فادحا في الاطارات التونسية، حيث تلتجئ تونس الى متعاونين من فرنسا وبلجيكا وحتى من الولايات المتحدة الامريكية لتدريس لغتي الفرنسية والانكليزية … وتلجأ كذلك الى اساتذة من فلسطين لتدريس بعض المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء …

اما في التعليم الابتدائي فكانت الحاجة ملحة جدا للمعلمين خاصّة في الاماكن الريفية النائية حيث يغلب على نظام التدريس فيها طابع الفرق … اي 3 مستويات مثلا من الاولى الى الثالثة في قسم واحد ومع معلّم واحد يوزّع مدّة الحصّة الواحدة للمستويات الثلاثة ..ولهذا السبب كانت وزارة التربية انذاك تعمد لانتداب ما يسمى مدربين … فمدارس الترشيح انذاك ورغم الدفعات التي تتخرج منها لم تكن تفي بحاجة البلد الى المعلّمين… وكان المدربون صنفين: مدرب درجة اولى وهو الذي اتم دراسته في السنة السادسة ثانويا اي السابعة حاليا دون نيل الباكالوريا ..او مدرب درجة ثانية وهو الذي اتم دراسته حتى الخامسة ثانويا دون نيل الجزء الاول من الباكالوريا وهي حالتي…وعزمت على التقدم بطلب في الامر …وقُوبل طلبي بالايجاب ..لكن مع وجوب القيام بتربّص بيداغوجي في ميدان التدريس وعلى امتداد شهرين مع متفقد تعليم ابتدائي مكلّف للغرض ..

وبدأنا التربّص … كان ذلك بـ”الليسيه” (معهد الهادي شاكر حاليا) وكان سي محمد الصغيّر هو رجل المرحلة… كان متفقدا يتّقد نشاطا وحيوية … كان ذا كاريزما “ترعب” وبقدر ما كان يجيد ويبدع في ايصال المعلومات الخاصّة بتكويننا بيداغوجيا ..بقدر ما يبدع ايضا في الاستماع الينا وبكل تركيز …ربّما لانه كان مطالبا ايضا باختيار افضلنا في نهاية التربّص لترسيمنا بقائمة المتربصين الناجحين ..ولكن والاكيد انه فعلا يحسن الاستماع خاصّة عندما يجيب احيانا بابتسامة قد تكون ساخرة وقد تكون مرادفة للاعجاب والاقتناع …وانتهى التربّص وقبل ان يودّعنا راجيا للجميع حظا سعيدا في انتظار التعيينات ..جذبني السيد محمد الصّغيّر على انفراد وهمس لي: “واصل في اجتهادك ..ستنجح حتما كمربّ .. انا فخور بك ..ولا تبح بالامر لايّ من زملائك” …

كانت تلك الكلمات كفيلة بترميم ما زلزله فشلي في الجزء الاول من الباكالوريا … عاد عبدالكريم الشّاطر الذي غيّبته الهزيمة ..وحضرت في تلك اللحظة جموع مكوّنات محيطي ..حضرت صورة عيّادة وهي تزغرد لولدها الذي اصبح معلّما ..والمعلّم انذاك بمقام الدكتور حاليا ..حضرت صورة اصدقائي وهم يستقبلون “سيّدي المعلّم” بحانوت الحلاّق بكل فخر واعتزاز ..عادت صورة رجل اختي رحمه الله الذي تكفّل بجلّ مصاريفي و”جاء وجهو للضوء”… عادت صورة سي مبروك الحمّاص رحمه الله الذي تكفّل بمصاريف سجائري وحان الوقت من جهته ليفتخر بابنه… ومن جهتي حان الوقت لردّ جميله ..عادت صورة الشّامتين الذين فرحوا لفشلي …والشامتون لم ينقطعوا يوما في حياتي شفاهم الله وغفر لهم _.. وحضرت صورة تلك الفتاة التي لابد ان تفخر بي وانا ادخل عالم الوظيفة …خاصة ان زوج اختها هو ايضا معلّم بالتعليم الابتدائي … كانت همسات سي محمد الصغيّر بمثابة عطر رّش على فاقد الوعي فاعاده الى وعيه وبكثير من الزهو والنرجسية ..

يومها لم اعد الى حوشنا كسائر ايّام الجمر ..يومها حلّقت الى امّي كعندليب اسمر لازفّ لها خبر نجاحي في التربّص …”هيّ دي هيّ فرحة الدنيا دق يا قلبي غني يا عينيّا” … وكعادتها عبّرت لطفلها عن فرحها وباحتراز حيث همهمت: “ما نصدّق اللّي ما نعنّق”… اما سي محمد فكعادته ادمعت عيناه وهبّ مسرعا لشراء رطل لحم حتى يكون زردة لابنه الذي اصبح “معلّم قدّ الدنيا” .. السنة الدراسية في تلك الحقبة كانت تنطلق في الفاتح من اكتوبر ..وحتى نهاية جوان ..وبدأت عقارب ايّام شهر سبتمبر تمرّ ببطئ شديد ..وكأن قدر سبتمبر ان يشترك في اول حرف في سرعته مع السلحفاة ..وجاء يوم 15 سبتمبر ليحمل لي ساعي البريد (جارنا سي علي غربال الو يا قابس شكشوكة ..هل تتذكّرونه ؟؟ رحمه الله) …حمل لي برقية من وزارة التربية …ياااااااااااااااااااه عبدالكريم شاطر بالحق ..؟؟ لقد وقع تعييني مدرّبا صنفا ثانيا بالمدرسة الابتدائية بسبّالة اولاد عسكر … وهي على الطريق الرابطة بين صفاقس والقصرين طريق منزل شاكر وقبل الوصول الى سبيطلة ببعض الكيلومترات …

وانبرت عيّادة في اعداد عدّتها من محمّص وكسكسي وملثوث كمؤونة لي ..وانبرى سي محمد في شراء بعض الملازم …سرير حديدي وطاولة صغيرة وبعض الاغطية …(اشبيك راهو ولدو معلّم ..؟؟)… وانبريت انا في التبضّع بما يلزمني من سجائر وادوات مدرسية لازمة لمهنة المعلم من مذكرات ودفتر الاعداد اليومي واقلام حبر مختلفة الالوان ..كل تلك المصاريف كانت بالكريدي … وحتى المال اللازم لتنقلي في المدّة الاولى كان ايضا بالكريدي ..ولا يهمّك، ما هي الا اشهر و(تهبط الدزّة)…جراية ثلاثة اشهر وهي التي لا تصل في مجموعها حتى المائة دينار ..نعم جراية المدرّب صنف 2 انذاك كانت بالضبط 31 دينارا ..واستاذ التعليم الثانوي كان راتبه 60 دينارا …. طبعا وحتى ننسّب الاشياء كان كيلو اللحم بـ 700 مليم ..

جاء يوم 30 سبتمبر وانتقلت لاول مرة في حياتي من تلميذ الى موظّف ..وصلت الى السبّالة على الساعة الثالثة ظهرا ووجدت في استقبالي السيد حاجب المدرسة (ابراهيم رحمه الله) وعلى بعد امتار منه المدير السيد رضوان هنيّة …كان الاستقبال مزيجا من الترحاب العفوي الجميل من ذلك الحاجب الريفي ..و من الدهشة …هذا الولد هو المعلّم .؟؟؟ بهذا الجسم النحيف..؟؟؟ ..بهذا العمر الغضّ ..؟؟ ولعلّ نفس الاحساس كان ينتاب حضرة السيّد المدير ابن القلعة الكبرى المدينة الساحلية وصاحب الجسم الممتلئ… والذي لم يجد فيّ الا الكوخ الصغير او لنقل احد اعمدته السمراء ..الا انه وبصدق كان متّزنا جدّا ..هادئا ..رصينا ..وصلت ودلّني الحاجب على مسكني او بالاحرى غرفتي حيث كانت الوزارة انذاك تمنح المعلّمين في المدارس النائية سكنا مجانيا ..

حمل معي ادباشي دون ان اكون معه ..الريفيون في جلّهم يقدّرون تقديرا لا حدود له الضيف عامة ورجل التعليم خاصّة ..لذلك لم يتركني احمل معه ايّ شيء… كان في كل مرة يقسم باغلظ الايمان انه هو فقط من سيتكفّل بايصال الادباش (هو يصير سي عبدالكريم ؟؟ راك معلّم … هكذا كان يقول وبكل عفويّة وصدق)…وحتى عندما هممت باعطائه شيئا من المال (500 مليم) لشكره على تعبه، انتفض غاضبا وابتعد مسرعا واضاف: “اهاه يا سي عبدالكريم ..ما يشرقش علينا ..واش درت انا حتى تعطيني 500 فرنك..عيب” ..وهرب … دخلت بيتي لاستريح قليلا ..وتمددت على سريري ..هل تفاجؤون اذا قلت لكم انها اوّل مرة في حياتي اتمدّد على سرير ..؟؟ نعم سريري قبل ذلك كان بساطا تصنعه امي من قماش يلف بعض الملابس المترهلة ..وفي افضل الحالات صيفا “جلد علوش” وكفى …

اغمضت يومها عينيّ واحسستني انام على عرش كسرى انو شروان ….خرجت بعدها الى المدرسة لاكتشف اقسامها ثم الى مكتب المدير لالتقي الزملاء المعلّمين ..كنا سبعة..اثنان من صفاقس… ثالث من قرقنة… رابع من مساكن… خامس من القلعة… سادس من السواسي وسابع من فريانة …خليط من مدن متعددة ..كنت اصغر واحد فيهم عمرا وجسما ..بل يكاد الواحد منهم سنّيا يكون ابا لي ..ونظرت اليهم فقرأت في اعينهم نظرة تساؤل واستغراب يمكن حوصلتها في (زعمة هالولد ماشي ينجم روحو ..؟؟) وبعبارة اخرى …(اش ماشي يعمل ها الفرخ اللي مازال كيف حلّ عينيه في الدنيا ؟)..او بعبارة ثالثة …(مسكين التعليم قداش كب ربّي سعدو) …ربّما لو حدث الامر في هذه الحقبة لخرج هؤلاء الزملاء في اعتصام امام وزارة التربية للتنديد بجلّول على تطّيح القدر متاعهم كمربين وهو يرسل معهم هاالفرخ، يقاسمهم المهنة الشريفة والتي ما اصبحت في يومنا شريفة بعد ان انتهكتها كل الاطراف ..وبعد ان اصبحت واصبح التلميذ فيها كبش فداء لكل التجاذبات… لك الله يا تعليم لا تربية فيه ….

تكلّم المدير مرحّبا بالجميع ومقدّما الجميع .. ووزّع السنوات على الجميع …وعرفت انّه اختصّني بالسنة الثانية ابتدائية وهي المتكونة من قسمين ..حمدت الله على ذلك لان التعليم في مرحلته الابتدائية حسب ما توفّر لي في التربّص الصيفي من معلومات، يكون اكثر سهولة في السنوات الزوجية (الثانية والرابعة والسادسة) مقارنة بصويحباتها الفردية (الاولى والثالثة والخامسة)… تمنّى للجميع التوفيق في سنتنا الدراسية واستدار للبعض منّا وقال كيف العادة نسهرو في دار سي عبدالحميد ..(سي عبدالحميد هذا هو اكبرنا سنّا على ابواب التقاعد وهو مختص في تدريس السنوات الاولى) وفهمت من اشارة المدير للالتقاء ببيته انهم على موعد يومي بمقهى المدرسة والمدرّسين وبعيدا عن الاعين للشكبّة والروندة ..بل واكتشفت ايضا العابا لم اكن اعرفها كالبليڨو والتريسيتي علاوة طبعا على النوفي …

لم اشاركهم ليلتها السهرة .ولم اشاركهم يوما العابهم …كنت منشغلا بترتيب بيتي ..وهي المرة الاولى التي ارتب فيها بيتا ..قبلها كنت وكسائر الاطفال الذكور نترك ذلك لاخواتنا الفتيات ..ذلك اختصاصهن و”يومها مشوم” التي لا تقوم بذلك حالما تفتح عينيها من النوم ..ليلتها لم انم الا قليلا ..غدا ساكون معلّما فعلا ..جالت بفكري عديد الذكريات ..عدت الى سنواتي الاولى في التعليم الابتدائي تذكّرت: ” ما بك .؟؟ هرب طاهر بكرتي” …و “لسعت حليمة عقرب فجعلت تبكي وتقول اُّو ..اّو ..أّو” .. تذكّرت: “هذا مفتاح بابك …و “هذا ابي مبروك” … وعدت الى واقعي بهذه المدرسة الريفية ..اين سأجد الكرة لامارس هوايتي ..؟؟ هل فعلا هرب بها طاهر ..؟؟ و حليمة التي لسعتها العقرب ..وواقعي في السبّالة يقول ان العقارب لا معنى لها ولا خوف منها امام الثعابين وخاصة الذئاب … المتسكعة ليلا نهارا .. و مفتاح الباب ….؟؟… غدا سافتح بمفتاح فكري وقلبي ووجداني صفحة جديدة في حياتي ..اما الاب مبروك فذلك شأن بعيد المنال لأني ومهما كنت محظوظا لن اجد مبروكا اخر مثل سي مبروك الحمّاص في بسمته الجميلة وطيبته ووداعته .

.تدثّرت بغطائي (من راسي لساسي) وقلت كما كانت تردد “سكارليت” في فيلم ذهب مع الريح وعندما تتمشكل عندها الحياة: “غدا ستكون الامور افضل” …هي حكمة جدّ ثمينة ليتنا نتعلّمها جميعا عندما تتمشكل الحياة ..لذلك كنت دوما انصح نفسي والاخرين “ما تمشكلوهاش” …وبمعنى اخر علينا ان لا نعطي الفرصة لايّ اشكال ان يضحك علينا وهو يرانا مهمومين ..بل الانسب ان نضحك عليه ..ادرك جيدا ان الفارق شاسع بين النظري والعملي ولكن يكفي الواحد منّا شرف المحاولة، حتى تشرق الشمس من جديد ….ونمت …لا ادري كم …. لا ادري متى ..لا ادري كيف .. لان موسيقى الذئاب لم تنقطع طيلة الليلة …والغريب انه لم ينتبني شعور بالخوف منها ..علاوة على صرير الرياح الذي رافقها …المدرسة كانت محاطة بهضاب ولا شيء غير الهضاب …بعض المنازل المتناثرة على سفوحها …اما نحن المعلّمين فكنّا محظوظين لان بيوتنا لا تبعد عن المدرسة الا بعض الامتار ..وكنّا محظوظين ايضا لان المكان كان به حانوت عطرية …وبه جزار ..وكفى بالله حسيبا ..وكنا محظوظين لان المدرسة تقع على الطريق اي انها ليست في الارياف العميقة ..التي تستوجب بغالا او احمرة كي نصل اليها ..عرفت في ما بعد اني ولأني نجحت في التربص متحصّلا على المرتبة الاولى، وقعت تسميتي بتلك المدرسة (اي كان عندي بونيس) لان زملائي المتربصين الآخرين وقعت تسميتهم ..في ادغال الريف … ومدرسة السبالة حاليا اصبحت معهدا ثانويا بعد ان تحولت المنطقة من عمادة الى معتمدية تتبع سيدي بوزيد وبعد ان كانت تتبع القصرين …

واستفقت صباح اول يوم من اكتوبر 1968 …لبست ميدعتي البيضاء وحملت محفظة المعلم السوداء الكبيرة …وقصدت القاعة المخصّصة لتلاميذ السنة الثانية ..كانت الساحة تغصّ بالاولياء، الذكور طبعا ..فالمرأة الريفية لا يحق لها ان تكون هنالك …فهي اما ان تقوم بشؤون البيت اوهي ترعى المواشي وما تبقّى شؤون رجالية صرفة ..وكنت المح في اعين جلّهم السؤال ….شكونو ها الشنتي ..؟؟؟ ولعل سؤالهم منطقي جدا ..بقيّة المعلمين هم معروفون لديهم وانا (ها الشنتي) معلّم جديد في المدرسة .للمرّة الاولى ..وصفّر الحاجب …واصطفّ التلاميذ امام قاعاتهم …وانا متوجّه الى القاعة كنت مشتت الذهن ..كيف ساتعامل معهم ….؟؟؟.هل اكون مثل سي عبدالقادر اليانڨي وسي علي الشعري رحمهما الله في كاريزمتهما .؟؟ .هل ساكون مثل سي شراد في ليونته وعطفه عليّ ؟؟ .. مثل مسيو دوميناتي في دهائه ؟؟؟؟.. اغمضت عينيّ وقلت كما اوصتني عيّادة: “يا رضاية الله يا رضاية الوالدين”….

لم اكن وقتها ذلك المؤمن جدا بمثل ذلك الدعاء .ولا حتى بواجباتي الدينية ..كنت “صايع” ولكن اكتشفت بعد مراحل من الزمن ان رضاء والديّ على الاقل وارجو رضاء الرحمان…لاني لا ازكّي رضاء الله عليّ فهو وحده من يعلم ما في الصدور وهو وحده احكم الحاكمين _…اكتشفت ان دعاء والديّ كم اسعفني في ظروف حالكة من عمري …وكم وقف حاجزا لصدّ وابعاد الشر عنّي ..ولانني احبّكم جدا استسمحكم في دعوتي لكم للبرّ بوالديكم وهم احياء ….لا تضيّعوا عنكم فرصا قد لا تعود ..بوسوا ارجلهم صباحا مساء ويوم الاحد ..لانهم سجّادة الحياة .الناعمة ….الفواحة … والتي لا مثيل لها …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 67

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حياتنا عادة ما تكون اشبه بدرس من دروس الجغرافيا… الم نقرأ في ما قرأنا عن التضاريس والتلال …؟؟؟… الم نقرأ عن السهول والمروج ..؟؟؟ الم نقرأ عن الامطار الاستوائية وعن الجفاف ..؟؟؟ الم نقرأ عن الزلازل والفيضانات ؟؟؟ اليست هذه هي مواصفات حياتنا ؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ولعلّ السمة البارزة التي طبعت حياتي منذ خُلقت ـ والحمد للكريم في ذلك ـ انني عشت الجغرافيا بكلّ طقوسها واحوالها … اذ كانت تترواج بين المدّ والجزر فأنا عشت الفقر والجوع وعشت ايضا كسب التحدّيات …كلّ ما درسته سواء في المدرسة والمعهد او في مدرسة الحياة جعلني انتمي الى عشيرة نيتشة الذي يرى انّ الحياة ارادة …اُعيد القول انّ العنصر الايماني انذاك كان شبه مفقود …الاّ ان داخلي كان ممتلئا بعزيمة لا تُقهر وبالرضى بالاقدار المؤلمة تلك التي لا حول لي فيها ولاقوّة …

ففي عامي الاوّل بعد الزواج رزقني الله بتوأم (ايمن وايمان) في الشهر السابع من الحمل …الا انهما كانا غير مكتملي التكوين وزنا (كلغ واحد وبعض الغرامات) مما جعلهما غير قادرين على مقاومة الصراع مع الحياة … ايمان انتقلت الى جوار ربّها بعد 48 ساعة من ولادتها وايمن بعد نصف شهر … كان الطبيب انذاك يهمس لي لا تحزن …عند الله افضل …لانهما كانا مهددين بالاعاقة الحتمية اذا استمرّا في الحياة… وبقدر شوقي كي اكون ابا بقدر عجبي من نفسي وانا اقبل القدر بكل راحة بال ورضى …عندما التفت الان الى جويلية 1981 شهر انجابهما وارى التوائم الان اغبط والديهما على مثل تلك النعمة الكبرى …ياااااااااااه ما اعظم ان يكون للواحد منّا توائم وما اسعد من منّ الله عليه بهم … واذكّر فقط بأني وُلدت مع توأم (بنت) لم يُكتب لها النور اذ وُلدت ميتة …

ما اردت قوله وانا في الثلاثين من عمري ان تجاربي فيما عشته جعلت منّي ذلك الذي لا يسقط بسهولة امام نوائب وصروف الدهر … ولعلّ مازاد في صلابة مواقفي وعنادي وصحّة راسي النجاح المهني الذي حققته منذ اوّل يوم باشرت فيه العمل بالاذاعة والتلفزة التونسية (1972) كمركّب افلام، الى اخر يوم من خروجي من هذه المؤسسة بعد انسحابي النهائي سنة 2012 كمنشّط عندما ادركت انّي اصبحت عبئا على بعض المناوئين والذين عملوا وبكل الاساليب الرخيصة كي يعبثوا بكرامتي ويكون طردي على ايديهم كما خططوا لذلك … ولكن عزّة نفسي ابت الا ان تكون حاضرة لحرمانهم من هذه الامنية الغادرة فانسحبت وانسحبت معي ابتسام … وها انا اعيد القول: انا مسامحهم دنيا وآخرة، لسببين اوّلهما ومهما كان الذي حدث انا لن اسمح لنفسي بحمل ايّة ضغينة تجاه ايّ كان ..ثمّ لانّي ادركت ودون رجعة ان اذاعة صفاقس مُقبلة على مرحلة مؤلمة للغاية بعد 14 جانفي… مرحلة تعملق التافهين وعنتريتهم… مرحلة يصول فيها ويجول الفارغون والصراصير _ مع احترامي الشديد للعديد من الزملاء الصادقين الطيبين والذين يقولون سرّا ما اقوله الان جهرا …وحتما ستكون لي عودة لكلّ التفاصيل في ورقات قادمة حتّى يعلم الجميع ما حدث …

مضت السنة الاولى من الكوكتيل في وهج جماهيري غير متوقّع… صمتت الادارة العامة عنّي ولم تعد ولو مرّة واحدة لطلبها عودتي الى تونس العاصمة وكأنها قبلت بالامر بشكل نهائي … وبدأت الجرائد تتابع مسيرتي وتثمّن انجازات كوكتيل من البريد الى الاثير والذي استطاع ان يخلق مساحة اذاعية جديدة في المشهد الاذاعي التونسي… اذ تخلت الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير عن برامج الاهداءات وقلّدت اذاعة صفاقس في برمجة الضحى… نعم وبكل صدق كان للكوكتيل دور كبير في خلق مساحة اذاعية اسمها منوعة الضحى في الاذاعات الثلاث ..هذه الفترة التي كانت شبه ميّتة اصبح العديدون ولحد هذا اليوم يتكالبون عليها ويعتبرون أنفسهم مظلومين اذا لم ينالوا نصيبهم منها مرّة في الاسبوع ..

ومما يُحكى عن زميلي محمد عبد الكافي والذي كان يشغل وقتها مديرا لاذاعة المنستير انّه كان يجتمع اسبوعيّا مع المنشطين ويحثهم وبشدّة وبغضب احيانا على ان يقتدوا بما فعله عبدالكريم باذاعة صفاقس في فترة الضحى … بعبارة اخرى _ كان يقطّع شعرو ويقللهم اش عندو زايد عبدالكريم هذا متاع وذني باش ما تعملوش كيفو _ رغم انّ عبارة (يقطّع شعرو) لا تصحّ عليه نظرا لقلّة الانتاج في شعر رأسه …في الاذاعة الوطنية كان نجيب الخطاب وصالح جغام رحمة الله عليهما هما المتصدران للمشهد الاذاعي كنجمين من الطراز العالي … في اذاعة المنستير كان هنالك العديد من الاسماء علياء رحيم حبيب جغام رابح الفجاري فتحية جلاد السيدة العبيدي و نجاة الغرياني وشادية جعيدان رحمهما الله وغيرهم الذين يتداولون يوميا على مصدح منوعة الضحى… وكانت علياء اقربهم الى قلبي هي امرأة متمردة عصامية وتحمل نفسا مغايرا وهذا ما اعشقه في الفرد عموما … ولذلك هي ايضا عانت كثيرا ولكنها لم تنثن …لانّها شامخة واصيلة … كنت كذلك اتنبأ بمستقبل واعد لمنشطة مبتدئة انذاك (الفة العلاني) طالبة حقوق وقتها ومتعاونة … وكم كانت حسرتي شديدة عليها عندما غادرت هذا الميدان لاسباب اجهلها تماما …

في اذاعة صفاقس ونظرا إلى عملي اليومي في الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار كامل ايام الاسبوع انذاك، لم تُتح الفرصة لزملاء آخرين حتّى ينالوا حظّهم وتلك كانت من النقاط السلبية التي طبعت مسيرتي رغم انفي .. كان بامكان الادارة انذاك ان تفكّر في اخرين الا انّ منطق (لا نغيّر الفريق الرابح) وتشبّث ايّة ادارة بالربح الآني دون التفكير في المصلحة العليا للاذاعة، حال دونها ودون مجرّد التفكير في هذه النقطة… فالمسؤولون عموما وفي ايّ قطاع يفكرون في اليوم فقط .. اتذكّر جيدا احد المديرين في الاذاعة وانا اعرض عليه مقترح التفكير في غد اذاعة صفاقس كيف يجب ان نعتني به استشرافيا.. اجابني ربما دون وعي منه ولكن كانت الحقيقة (احييني اليوم واقتلني غدوة)… معنى ذلك وهو المعمول به لحد الان في جل القطاعات المهم تلميع صورة المسؤول وتلميع انجازاته في تلك المرحلة حتى ولو كانت من نوع الـ”ان بي كا”، سرطان الفوسفات في قلب مدينة صفاقس …او بورقيبة رئيسا مدى الحياة … وهذه لمعلوماتكم اوّل من صدح بها في احد مؤتمرات الحزب هو مدير من مديري اذاعة صفاقس…. فعلا شأنه هو ايضا مدى الحياة لحدود السابع من نوفمبر (بات ما صبح) اي دخل الثلاجة مدى الحياة …

في اذاعة صفاقس كانت هنالك اربعة اسماء تحتلّ مكانة جماهيرية… عبدالكريم ابتسام ابو سهيل وبدرجة اقل عبدالجبار العيادي ..الا انّ انتظام الكوكتيل يوميا في دورية البرمجة جعله الاكثر حضورا … ابتسام المكوّر كانت ومازالت من اقرب المنشطين اليّ … كنّا ومازلنا نحمل عديد الثوابت المشتركة وحتى العيوب المشتركة (ياما عملت فينا نرجسيتنا) وللحديث عودة … كلّ ذلك جعل بعض الزملاء غير مرتاحين لهذا الوافد الجديد على اذاعة صفاقس خاصة وهو لا يتردد لحظة واحدة في التعليق على اي حدث دون نفاق او قفافيز… كنت (فرشك نيو نيو من فرنسا) متشبعا بحرية التعبير دون خوف او وجل لذلك لم ار يوما ما اي حرج في ان ابدي رايي في كل ما يحدث داخل اذاعة صفاقس مهنيا او نقابيا او علاقاتيا ..

هذا قرّب اليّ العديد من الزملاء لكنّه في نفس الوقت جعل من القليل منهم في موقع احتراز اوّلا ثم في موضع قلق ثانيا واخيرا في حالة حرب ثالثا ..اذ كيف لهذا الوافد الجديد ان يلتفّ حوله من كانوا بالامس لا يثقون ولا ينصتون الا في زيد او عمرو …رغم انني كنت اؤكد دوما انّني في طموحاتي بعيد كل البعد عن منطق الزعامة لأي هيكل مسيّر في اذاعتنا …الا ان زيدا وعمروا وشلّتهم كانوا يرون في موقفي هذا (خطابا وقتيا) وهو للاستهلاك فقط … غير انّ التاريخ اثبت في ما بعد انّي كنت نزيها مع نفسي … وحتى اشرافي على اذاعة الشباب سنة 1988 واشرافي على مصلحة البرمجة باذاعة صفاقس ثم تكليفي بمصلحة الانتاج التلفزي بوحدة الانتاج التلفزي بعدها، انتفت فيه رغبتي تماما واقسم بكل المقدسات اني لم ارغب فيها ولم اعمل عليها بتاتا … وستاتيكم تفاصيل ما حدث في ورقات لاحقة … اذن انقسمت اذاعة صفاقس في علاقتي بالزملاء الى ثلاثة اصناف… صنف اوّل وهو متواجد في كل الازمنة حدّو حد روحو لا يهمّو لا خلات لا عمرت الخبز مخبوز والزيت في الكوز… صنف ثان رأى في عبدالكريم نفَسا جديدا بكلّ المقاييس واغلبهم من الفنيين والاداريين والموسيقيين… وصنف اخير يرون في عبدالكريم ذلك الذي يهددهم اما مهنيّا او في زعامتهم …

في اواخر السنة الثانية من وجودي باذاعة صفاقس حدثت اشياء كثيرة وهامة جدّا… في 21 جويلية 1982 رزقني الكريم باوّل مولودة لي (كرامة)… كانت سعادتي لا توصف … محيطات وسماوات سبع واراض سبع بحجم سعادتي جاءت ليلة عيد فطر فاحتفل العالم الاسلامي بقدومها وكأنه اراد ان يهمس لي بكل حب ما اسعدك بعيد الكرامة … ما اروع ذلك الاحساس .. كلّ ما اذكره والحال صيف اني اشتريت لكل العاملين ليلتها بالمصحة مثلجات … كنت كطائر السنونو الذي يحلّق وهو في مكانه من وجع السعادة اللذيذ… اسالكم بالله هل هناك سعادة في الدنيا تضاهي سعادة ان تكون ابا او امّا لأوّل مرّة ..؟؟؟ مع اعتذاري الذي لا حدود له للذي حُرم من هذه السعادة… كان عيدا ليس ككلّ الاعياد… عيد عاد بكل الوان قوس قزح الجميلة وبكل طعم السعادة السعيدة… ايه يا كرامة لو تدرين … ايه يا يوزرسيف لو تدري … ايه يا عالم لو تدري …

الحدث الثاني في بداية تلك السنة … 3 جانفي 82… وفاة الاخ العزيز جدا على قلبي الفنان الاول في تونس بالنسبة لي وبكلّ المقاييس، محمد الجموسي … مرضه في البداية لم نحسب له حساب الموت… كنت زرته وهو في مصحة التوفيق (السلامة حاليا) وكنت سجلت له حوارا تلفزيا قصيرا سائلا عن صحته… وما زلت اتذكّر وجهه الباسم وهو يردّ عليّ بخفّة روحه وانا اسأل عن حالته ليقول: {خويا عبدالكريم موش طلع عندي مقطع حجر في الكلاوي!}… كانت تلك اخر كلمات اسمعها منه… بعدها تدهورت حالته بشكل مفاجئ وتحوّل اثرها الى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة ليشرف على علاجه “الدكتور الجدّ” واحد من ابرز الاسماء الذي مرّت على قسم الانعاش كفاءة وحضورا دائما به …

كنّا نزوره بشكل يومي وهو في غيبوبة تامة الى ان انتقل الى رحمة الكريم … كانت وفاته الما كبيرا لكل الناس لانّه كان حبيب كل الناس في اذاعة صفاقس… وهو من القلائل الذي كان حبيب الجميع لأنّه كان حبيب الفن من قمة راسه الى اخمص قدميه… ولانّه وكما غنّى (عمري للفن)…وحتى قصة تلك الفتاة التي تعرّف عليها في اواخر حياته ويبدو انه قرّر الاقتران بها، كان فيها الجموسي الفنان الانسان الرقيق الصادق الجميل … رحل الجموسي وكان حتما عليّ ان اُخلّد رحيله بحصّة خاصّة به… حصّة خلّفت مشاكل لي في ما بعد لأن البعض من ابناء الحلال لم استدعهم للادلاء بدلوهم في مسيرته… فاعتبروا ذلك جريمة في حقّهم وحين التآمر عليّ لابعادي من اذاعة صفاقس وجدوا الفرصة سانحة ليغرسوا انيابهم فيّ وبكل شراسة …ربّي يهديهم وانا مسامحهم …

لم تمض ايام على وفاة الكبير محمد الجموسي ودفنه بمقبرة الهادي شاكر بطريق تونس حتى دُفن بجانبه من قام بتأبينه …انّه محمد قاسم المسدّي مدير اذاعة صفاقس الذي تُوفّي في حادث مرور مع والي صفاقس ايضا في طريق عودتهما من تونس العاصمة بعد ان كانا في مهمّة … رحمهما العزيز الرحمان … اثر ذلك كان لابُدّ من مٌعوّض للمرحوم المسدّي في انتظار تعيين مدير جديد، فكلّفت الادارة العامة الزميل محمد الفراتي رحمة الله عليه رئيس مصلحة الاخبار انذاك باذاعة صفاقس بخطّة مدير بالنيابة على راس ادارتها لتسيير شؤونها اليومية اداريا …ومعه بدات اولى حلقات المعاناة …

واذا كان حليّم ونزار يقولان في “رسالة من تحت الماء” (لو أني اعرف خاتمتي ما كنت بدأت) فانا اقول: لو كنت اعرف خاتمتي لكنت بدأت وبدأت واعدت… الم اقل لكم ان الحياة علمتني فيما علمتني ان الواحد منّا دون معاناة والم هي حياة فاقدة للنكهة ؟ ما معنى ان لا نسير حفاة على الرمل حتى نقبّل ولو بارجلنا اصلنا ..؟؟؟ السنا من تراب ؟؟؟ ما معنى ان نتبرجز في كل طقوس حياتنا …؟؟؟ كيف نحسّ انذاك بالفقير ؟؟ باليتيم ؟؟ بالملهوف ..؟؟؟ دعوني هنا اذكر مثلا واحدا في حياتي المهنية … كان بامكاني وانا في تنقلاتي لتسجيل “مع احباء البرنامج على عين المكان” ان اتمتّع وظيفيا بالسيارة الادارية وبمنحة الإقامة في اقرب نزل للمكان الذي اعمل به… لكنّي كنت افضّل ودون ايّ تردد ان ابيت مع المستمعين وهم يفتحون بيوتهم البسيطة واحضانهم الكبيرة لينعموا حسب قولهم بحلمهم الاكبر والذي كان بالنسبة لي الواجب الاكبر… كنت اراني وانا على حصير وفوقه جلد كبش اسعد الناس …

اتذكّر جيّدا زيارة لن انساها لاحد مستمعيّ (محمد كمال بن سالم) بمنطقة الماي جربة… هو صديق مُعاق اليدين والرجلين وكانت رسائله لي رغم اعاقته من اجمل الرسائل شكلا ومضمونا… يوم زرته لم يكن مصدّقا بالمرّة بأن هذا الذي ذاع صيته موجود لا فقط ببيته بل جالس على الارض بجانب سريره… كانت سعادته يومها لا يمكن ان تمُرّ دون ترك اثر على لسانه … صدقا لقد خرس الرجل … عجز محمد كمال عن الكلام لكنّ عينيه كانتا تقولان اشياء واشياء …ولانّه كان ثملا دون النبس بأية كلمة، قلت له هامسا: وماذا ستقول لو اعلمتك بأني سأبيت الليلة بجانبك افترش ذلك الجلد الصوفي ونسهر معا ونتسامر؟؟؟… وقتها تكلُم محمد كمال وقال (بعدها مرحبا يا موت)… وبتّ بجانبه ليلتها واستجاب الرحمان لرغبته… اذ توفي فعلا بعد ايام …

الم اقل لكم انّ الحياة جغرافيا لكلّ المتناقضات بما في ذلك الحياة والموت ؟؟؟ هنيئا لكلّ واحد منّا يحبّ الانسان … يحب الحياة بسهولها وتضاريسها بحلوها ومرّها اذ هي بالحلو بتمرّ بالمرّ بتمرّ ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 66

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

السنة الاولى من الكوكتيل شهدت تغييرات جذرية في حياتي الشخصية منها والمهنية … منذ سفري الى فرنسا، نصحني الاصدقاء والمقربين بفتح حساب ادخار بنكي سكني .. من اجل ضمان محلّ للسكنى (قبر الحياة) كما يسمونه هنا في مدينتي …

عبد الكريم قطاطة

هو من الاولويات في فلسفة الحياة لدى العائلة الصفاقسية … لذلك وعندما يتقدّم اي شاب لخطبة فتاة يُطرح السؤال الاول: عندو دار ؟؟… ثمّ تاتي الاسئلة الاخرى (اشنية خدمتو ..؟؟ عندو اخوات بنات .؟؟؟) ..وهذا سؤال مفصلي لان اخواته البنات منظور اليهن كآفات (اخت الراجل عقرب في الطاجن)… ومن جهة مضادة تصبح (مرت الخو عقرب في الدلو)… من تلك الزاوية جاء التفكير في فتح حساب ادخار سكني ببنك الاسكان …الا انّ الثلاث سنوات التي قضيتها في دراستي بفرنسا، ومرتباتي التي كانت تدخل بشكل كامل في حسابي البنكي… لم تكن لتفي بالمبلغ المأمول لامتلاك منزل ولو متواضع…

المرتبات انذاك كانت لا تتجاوز الستين دينارا ..وما ادخرته من عملي بفرنسا اقتنيت به اثاثا وملابس فقط ..في الملابس لابد من الاشارة اني ( تحلّيت طول وعرض)… لم اكن ذلك “الصّفق” الذي يدّخر الملاليم ولا الدينارات ولا مئات الدينارات ..لم اكن يوما (قرنيطة) في جمع المال ..بل كنت بالعكس (اكبر فلاقة) في تبذيره ..كنت مغرما بشراء افضل الملابس لي وللعائلة ولخطيبتي ولخطيبة صديق عمري رضا … صديق عمري هذا يوم حمل الادباش الى منزله في عرسه، كان العديدون وبمزاح يقولون (يخخي فلانة واخذة رضا او صاحبه؟!) … وكنت انا المقصود، نظرا إلى الكمّ الهائل من الملابس التي اهديتها ايّاها… كيف لا وهي خطيبة اخي؟ …

ومن صدمات حياتي انّها وبعد الزواج اي بعد ان تمكّنت من صديقي، اصبحت حياتي معهما عبئا ثقيلا عليها… هي من صنف التي تريد التملّك الكلّي بزوجها دون ان يقاسمها احد فيه ولو كنت انا …كنت في منتهى التعاسة من هذا المآل ..وكان عليّ ان اتصرّف بحكمة ….دعوته يوما للقاء على انفراد ..ذهبنا معا على شاطئ بحر سيدي منصور واعلمته بقراري النهائي …لابد ان اخرج من حياتك… زوجتك حامل وأنت ستصبح ابا وهي لا تحتمل ايّا كان في علاقتها بك… لذلك ومن اجل سعادتك يجب ان انسحب …كان لقاء الدموع والصمت …ما ابشع لقاءات الخيبة، ما ابشع حوارات الخيبة ما ابشع الكلمات التي تخرج بمرارة …تختلج طويلا في الحلوق وكأنها تعلن ولادة مأساة … وخسرت صديقي الى الابد ..

لم ادّخر اذن في فرنسا الا ثمن السيارة التي عدت بها وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف دينار وبعض القروش … من جهة ثانية، وعند عودتي بديبلوم درجة ثالثة علوما سمعية بصرية من دراستي والذي وقعت معادلته حيفا وظلما باربع سنوات تعليما عاليا عوضا عن ستّ… والذي كذلك وقع تصنيفي بمقتضاه في المعادلة ضمن سلك مهندس اشغال دولة وهو ما لم اقبل به يوما… ونظرا إلى تمسّكي بحقّي ان اكون ضمن سلك المخرجين التلفزيين كما ينص الديبلوم… ونظرا ايضا إلى تمسّكي برفض العودة لتونس العاصمة اي للمؤسسة بعد تجميد مشروع النواة التلفزية للانتاج بصفاقس …كل هذه العوامل جمّدت وضعيتي المهنية ماديا وكأنني لم ادرس بفرنسا، وكأنني معاقب على اشياء لم اقترفها بتاتا ..

تصوروا فقط ان فكّ عقدة هذا الاشكال لم يتمّ إلاّ بعد 11 سنة… اي سنة 1990… والفضل في ذلك يعود لشخصين كانا من اصدقائي قبل ان يصبح اولهما رئيسا مديرا عاما للمؤسسة: الصديق صلاح الدين معاوية … شكرا وألف رحمة خويا صلاح… والصديق مختار الرصاع الذي اصبح مديرا للتلفزة التونسية انذاك… شكرا خويا مختار… هذان وبعد عشرات الرسائل التي وجهتها للادارة العامة لتسوية وضعيتي وتمكيني من حقوقي الضائعة، والتي لم اتلق عليها ولو ردّا بالنفي او الايجاب .. هذان هما اللذان اخذا الامور بكل جدّية وسرعة وقاما بتسوية وضعيتي (دون مفعول مادي رجعي) …وهذا يعني “ملاين” حُرمت منها …

نظرا إلى كل ما اوردته وجدت نفسي في نهاية سنة 1980 وبالتحديد في بداية اكتوبر، في مفترق طرق …السن 31 سنة ..فترة الخطوبة طالت (5 سنوات) والامل في الحصول على قبر الحياة ضئيل للغاية … بين عشية وضحاها وجدتني امام هبلة من هبلاتي ..فليذهب مشروع قبر الحياة للجحيم وليكن العرس بعد شهرين على اقصى تقدير …فوجئت العائلتان بقراري ولكنهما لانهما تدركان انّي قراقوش في مواقفي، قبلتاه على مضض …طبعا بعد تلك الاسطوانات من فصيلة (كيفاش ما حضرنا شيء ويصير هكة في شهرين ..؟؟ اش يقولو علينا الناس ..؟؟ علاش تغصر فينا اش عملنالك؟؟؟)… كنت استمع فقط واكرّر: (العرس سيكون نهاية نوفمبر)..

وكان لي ذلك وكان حفل زفافي يوم 30 نوفمبر 1980 … تسوغت منزلا فخما (فيلا) واثثته بالكامل واقمت كل مراسم العرس من سهرية للاصدقاء المقربين وكل واحد وشربو… الى حفل يقيمه العروس للاهل (عوّادة) الى نزول بكل تفاصيله ثم يُختم بالحفل الرسمي للجميع بافضل صالة افراح انذاك (صالة البلدية) كيف لا والحفل عروسه المنشط (اللي قدّ الدنيا) كما يقولون… عبدالكريم ..؟؟ مما اذكره في حفل زواجي انذاك اني كنت اوّل من رفض ان يسوق سيارة العروسين ايّ كان ..كنت ارفض ان اكون ذلك السلطان بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة… كنت اريد ان اكون سلطانا على طريقتي… لا ذلك الذي تجرّه العربة الكبيرة والسائق المسكين الذي يضرب بعصاه الجوادين وهو يهمس بين جنباته (بلعن بو هالخدمة نقولشي عبد عند سيادتو) …

كنت ارى في ذلك اهانة لذات الانسان ..سائق السلطان … سائق الوزير ..سائق الرؤساء والملوك …. لماذا وهبهم الله تلك الايدي ..؟؟؟ وحتّى لو كانوا مرهقين من شدة المشاغل …لماذا يلجؤون الى المقاعد الخلفية ..؟؟؟ اليس في ذلك احتقارا للذات البشرية ؟؟؟ تماما كذلك المواطن الذي ياخذ سيارة تاكسي ويسقط على ذاته صورة المتجبرين وياخذ مكانه في المقعد الخلفي ودون حتى اية نظرة احترام لسائق سيارة الاجرة… وما يخسر عليه كا ن يقوللو العويّات …او حيّ البحري …لا اشكال ان نكون من سكان الاحياء الفقيرة بل كل الاشكال ان تكون نفوسنا فقيرة ورخيصة …

وتمّت مراسم الزواج على احسن حال ..كيف لا وانا قد سحبت كل المبلغ الذي ادخرته لمدة ثلاث سنوات … وهنا لابد من التأكيد على امر مهمّ جدا في ما حدث …كما ذكرت لكم لست من اولئك الذين قال فيهم الشاعر (يا عابد المال قلي هل وجدت به… روحا تواسيك او روحا تواسيها )… ولست ايضا من عشاق المظاهر في كل شؤون حياتي حتى يُقال عنّي (ملاّ عرس عملو فلان شيء يفتّق)… بل كان كلّ همّي ان اُسعد عيادة بفرح وليدها كما حلمت به… وعيادة رحمها الله تحب كل شيء بالفرننو… وفي نفس الوقت اسعد عائلة خالي حيث ابنته الوحيدة لابد ان تعيش فرحتها كما تشتهي ..

لهذه الاسباب وقع انفاق كل المال المدّخر … وخرجت من “المولد” (لا عاد موش بلا حًمّص) بل بهناء وراحة بال وبسعادة وهّاجة لمن ذكرت ..لامعة براقة في اعينهم …

وبدأت مشوارا جديدا في حياتي …عبدالكريم المنشط الزوج …هي فرصة لأتقدّم بعبارات العرفان الى زوجتي التي ضحّت معي بالكثير وعلى حساب حياتها ..البرنامج كان يتطلب منّي يوميا 16 ساعة عملا، اعداد ومونتاجا وتنفيذا وخاصة قراءة رسائل ..ايّة زوجة منذ الشهر الاول من حياتها تعيش شبه طلاق مع زوج منغمس للعنكوش في عمله؟ … اية زوجة تحملت ومازالت (وبكل فخر واعتزاز ) العشق المجنون للمعجبات بزوجها …سألها مرة احد الصحفيين عن هذه المسألة فاجابت بكل ثقة وصدق (هات لي اي واحد منكم لا يعشق فنانا ما او فنانة ما … اذن اين الاشكال ..؟؟ عشق الاخرين والاخريات لزوجي يعني انه ناجح في عمله وذلك مصدر سعادتي)… وتضيف: .انا اسعد زوجة في الوجود لاني احب زوجي جدا ولانه لم يرفع صوته يوما عليّ ولم يتفوه طيلة زواجنا بأية كلمة نابية او سبّة معي ولا مع اطفالي ..والذي على الجميع ان يعرفه انه في الاخير يدخل الى بيتنا ويُغلق الباب دون الجميع …. ثم تضيف وبدموعها: يا رب اجعل يومي قبل يومه …

شكرا منية على صبرك شكرا على سعة بالك وعذرا ان قصّرت في حقك ولكن تلك هي مهنتنا وذلك هو قدري و قدرك …

في نهاية تلك السنة ايضا ونظرا إلى لنجاح الجماهيري الذي حظي به الكوكتيل بدات اشعر بتضايق البعض من الزملاء منّي ولكن بشكل خفيّ… لكنّ هذا لا ينفي وجود بعض ممن ربطتني بهم علاقات ممتازة جدا وعميقة جدا وناصعة البياض …لعلّ في مقدمتهم جل التقنيين الذين كانوا يقدّرون نوعية عملي وحرصي الشديد على الاتقان والجودة منا جميعا ..كذلك جل الاداريين والموسيقين الذين رأوا فيّ اسما يمكن ان ينافس وبجدية اسماء المنشطين بالاذاعة المركزية وفي ذلك فخر لابن مدينتهم واذاعتهم …

بعض المنشطين وفي مقدمتهم انذاك الصديقة والزميلة ابتسام المكوّر …كانت من المعجبات بحق وصدق بعبدالكريم المنشط والانسان… وكان نفس الموقف منّي تجاهها لانها بالنسبة لي تُعدّ انذاك وحتى خروجها من اذاعة صفاقس، واحدة من افضل المنشطات للبرامج الثقافية في المشهد الاذاعي التونسي دون ايّ جدال …علاوة على علاقة الصداقة العائلية التي ربطتني بزوجها ذلك الرجل المحترم جدا والنقي جدا (خويا التوفيق المكور) والذي كلما وقع سوء تفاهم بيني وبين ابتسام الا وكان دوما من جانبي …

مقابل ذلك كنت ارى وجوها لبعض الزملاء يصعب انذاك فك شفرتها …انا من الذين يؤمنون بأن بعض الظن اثم اذ انّي كلما رايت تجهما في وجه زميل ما اُرجعه الى مشاكل حياتية يومية خاصة به كسائر الناس …وابدا في البداية ان اقرأه كموقف مبطّن منّي … الا انّ ما وقع لي قي السنة الثانية من عمر الكوكتيل كان مغايرا تماما لقراءاتي وتوقعاتي …كانت هناك مقالب تُطبخ على نار هادئة وتنتظر الساعة الصفر لتنفيذها… للتخلّص من عبدالكريم اذاعيا وبشكل شيطاني… وكلّ لحسابه الخاصّ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“صعيدي” في الألعاب الأولمبية!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

في باريس، انطفأت أنوار لتضاء أخرى… ودعنا ألعابا أولمبية صيفية للأسوياء، وجاء الدور على ألعاب أجمل وأنبل: ألعاب بارالمبية… أولمبياد مواز… ألعاب أولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة.. التسميات متعددة والكائن واحد، رائد، صامد.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

هي بعدُ الألعاب الأولمبية “العادية” حزمة تحديات تحضر فيها الموهبة والعمل والذكاء والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والصراع الأزلي بين الإنسان والطبيعة… الطبيعة في حدود الجسد البشري التي لم تتوقف عن الاتساع ولو بالسنتيمتر، ولو بكسور الثانية، ولو بما لا يطاق من تحمل وتنفس ومغالبة للتعب والوجع وعناد الآخرين، منافسين وأعلاما وأناشيد وطنية… الطبيعة في قوانين الجاذبية وهبوب الرياح وهطول المطر وصلابة الأرض التي نجري فوقها…الطبيعة في تيارات الماء التي لها نزواتها ومطلوب من الحفناوي والملولي وغيرهما، مقاومتها مقاومة محرك ديزل بعشرة خيول حتى يفلتوا من سطوتها…

والطبيعة أخيرا في طبائع أفراد اللجان وسياسات الحكومات وتكييف الرياضة لخدمة الأقوى ولو كال بمكيالين… فإذا بمئات الأبطال الروس يُحرمون من الألعاب وتٌحرم منهم بدورها وهم الذين كانوا يكملون اللوحة برشاقتهم وعطائهم اللامحدود، ويعتلون جدول الميداليات ولا يبزّهم أحد في بعض التخصصات… وكم كان مؤسفا غياب الرائعة “إيزنباييفا” أو من يخلفها في القفز بالزانة مثلا… والسبب حرب لا ناقة (بل لا “دب”) لهم فيها ولا جمل… ولا نجد من يعامل بنفس المقياس “رياضيين” سيعودون فورا بعد الألعاب إلى ثكنات ودبابات وطائرات تقصف أهالينا في غزة أطفالا ونساء وكل من يتحرك هناك ولو كان رضيعا، ولو كان جنينا في بطن أم…

هذا عن أولمبياد الأسوياء… فما بالك بالدورة الأخرى التي تقام بنفس المكان ونفس الاحتفال ونفس الأمم ونفس البروتوكول… ولكن مع أبطال أعيق من أجسادهم بعض أو كلّ، ويسابقون ويقاتلون ضد ما ذكرناه أعلاه من تحد، يضاف إليه تحدي النقص الذي حُكم به عليهم، ومطلوب منهم مع ذلك أن يراهنوا وأن يتفوقوا وأن يحملوا على أكتافهم المظلومة رايات شعوب وأحلامها… وأن يصعدوا حيث منصة الميداليات أخيرا … وأن يفرحوا ويُفرحوا، ولكن بعد أي جهد وبعد أية تضحية!… ومطلوب منهم أن يحطموا أرقاما وقبلها أغلال وُلدت معهم … فإذا الصرخة آتية من أفئدتهم ومن جمهورهم ومن معلق منبهر بما يأتي به هذا الكائن المليء ضعفا وحتى تشوّهات مفروضة عليه: اخلع نظّارتيك ما أنت أعمى.. انهض وسر في سبيل الحياة… ستعيش نسرا رغم كل داء!

ثم وهذه مباراة أخرى بين الشعوب والدول والمنظومات… بين حال المعاق في بلد، وحاله في بلد ثان… بين مدللين مرفهين مرعيين رعاية كاملة تحرسهم مؤسسات وجمعيات وقوانين وتمييز أكثر من إيجابي… وبين آخرين لم يكفهم ظلم القدر الذي سلبهم بعضا من الحواس أو الأعضاء، فإذا به أيضا يُسقطهم في بلاد لا أهمية فيها لإنسان سويّ ولا معاق… حيث الحياة صعبة على الكل، وحيث الإهمال هو القاعدة، وحيث المعيشة أقرب ما تكون إلى ظروف الغابات…

إذن هو “تحد ثالث” ما يخوضه أبطالنا وبطلاتنا في ميادين باريس… نحن الذين رياضتنا بلا نسب ولا وليّ أمر… يطلع فيها الموهوبون كأزهار البرّ لا أحد يزرع ولا أحد يسقي ولا أحد يحمي… وكم يضحكني المتحدثون اليوم عن مراكز التكوين عندنا وكأنهم يخوضون في سيرة بلد آخر… عن أية مراكز تكوين يهذون؟ وما نُشر عن المركز “الوحيد” ببئر الباي ذات مرة، يصيبك بالهزيمة قبل أن تبدأ يومك… عن أية مراكز تكوين يخرّفون ونحن مركز تكويننا الوحيد هو حانوت الجربي الذي كان يبعد 20 كلم عن منزل أسرة محمد القمودي… وبفضل الركض المزمن والمفزوع بين النقطتين، وُلد عندنا واحد من أفضل عدّائي العالم والتاريخ… وما تزال تلك هي بنيتنا التحتية اليتيمة، ما تزال…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار