تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 37

نشرت

في

image 1

عبد الكريم قطاطة:

وانا في طريق العودة الى صفاقس بعد اعلان نتيجة مناظرة الاذاعة والتلفزة التونسية لتكوين اطاراتها التقنية دفعة 70 ـ 71، لم يكن وقتها القطارالسريع قد حلّ ركبه بقطاع السكك الحديدية ..كان “الاومنيبوس” وسيلة النقل الوحيدة .

عبد الكريم قطاطة

الاومنيبوس بالنسبة لي علّمني ان الحياة امتع واجدى للمعرفة ..أن تاخذ قطارا سريعا في حياتك فهذا يعني انّك ستتوقّف في محطّات قليلة وانّك لن تتعرّف الا على حرفاء تلك المحطّات .. اليست الحياة في حاجة لنتعرف على كل محطّاتها …؟؟ ما قيمة الواحد منّا اذا اقتصرت حياته على الشمس المشرقة والبلابل الشادية اذا لم يعرف يوما صهيل الرعود ودعاء الكروان ؟؟.. ما قيمة النهر الخالد والجندول والكرنك اذا لم نستمع يوما الى “انا موش مريڨل وانت موش مريڨلة” ؟ ما قيمة العقربي وديوة وبيليه ومارادونا اذا لم نشاهد يوما عبدالنور او عبد الظلام؟؟…

نجاحي في تلك المناظرة كان بمثابة الشمعة الاولى التي اخرجتني من ظلمات الاحباط والضياع الى نور.. نور غمرني بشيء من استرداد الايمان النفسي ..كنت وانا في قطار العودة اراجع ما حررته في الامتحان الكتابي لتلك المناظرة ..الفيلم الذي عُرض علينا يومها لتحليله ونقده كان من النوع الكلاسيكي وكان بالنسبة لي تافها شكلا ومضمونا ..لأني تعودت ومنذ السنة الخامسة ثانوي ان امرّ من مرحلة استهلاك الافلام العاطفية الساذجة الى اختيارات ارقى… فالافلام المصرية لم تعد تغريني نظرا لتشابه الطرح فيها ..حبيب وحبيبة ومصاعب للوصول لبعضهما ثم الـ”هابي فينيشينغ” … النهاية السعيدة بتزوج الحبيبين … وافلام جيمس بوند لا تختلف كذلك في الطرح (ذلك العبقري البريطاني الذي يقهر كل الصعاب لينتصر على اعدائه وخاصة الروسيين)… وافلام الويسترن تنحو ايضا نفس المنحى باستثناء البعض منها كـ”حدث ذات مرة في الغرب” والكبير شارل برونسون …وبعض افلام سيرجيو ليوني عموما خاصة عندما يكون واضع موسيقاها اينيو موريكوني، ذلك الموسيقار الايطالي الكبير ..

تلك النوعية لم تعُد ترويني ..خاصة وزخم الافلام الرائعة في تلك الحقبة بدأ ينهمر … فمن “ذهب مع الريح” اسطورة السينما عبر العصور ، الى “فتاة ريان”، الى “دكتور جيفاغو” الى “ساكو وفانزيتّي”، الى “رجال الرئيس” ..تلك الموجة من الافلام الهادفة والعميقة والتي كنّا نعشقها حسّيا وفكريا ودون الالمام بالجانب العلمي لعالم السينما، طوّرت في اختياراتنا …والغريب انه ورغم وجود نادي السينما انذاك والذي تتلمذ عليه العديد من رواد السينما التونسية (بوزيد ودمق وغيرهما) ..فانّي لم اكن من رواده الدائمين …كنت اضجر من تلك النقاشات التي لا تعتني بالفيلم بقدر انسياقها في معالجات ايديولوجية بحتة …ورغم ميولاتنا انذاك نحن كشباب مراهق للفكر اليساري، الا أنني كنت ومازلت وخاصة بعد دراستي لدنيا العلوم السمعية البصرية اعتقد، وبكل اصرار، أن اي عمل سمعي بصري هو حتما يناقش ضمنيا التوجه الايديولوجي للعمل المُقدّم ولكن بحيّز زمني محدود اوّلا و الأهم ان يكون انطلاقا من احداث ووقائع المنتوج الذي يقع عرضه وبعيدا عن استعراض العضلات السياسوية …لعلّ ذلك المخزون السينمائي الذي امتلكته (حسّيّا لا معرفيّا علميا) هو الذي حضر لدي يوم المناظرة والذي عرفت في ما بعد ان العدد الذي تحصّلت عليه في الكتابي هو الذي شفع لي ايضا يوم امتحان الشفاهي باعتبار عجزي عن مجاراة الحوار باللغة الفرنسية …

وصلت ليلا الى ساقيتي …الشلّة وقتها غادرت والحوانيت اغلقت ابوابها …وها انا ادُقّ باب قصرنا (الحوش)… العائلة لم تكن تدري ايّ شيء عن نتيجة الامتحان الشفاهي …نظر الجميع الى عبدالكريم دون النبس لا ببنت شفة ولا بابنة عمّها …السؤال بعد خيباتي التي سبقت اصبح مغلولا ..مكبّلا ..غير قادر على الانعتاق …ما ابشع تلك الحالة عندما نريد ان نطرح الف سؤال ولن نقدر على طرح حتى ربع سؤال …وكان عليّ ان ارحم الجميع وان اروي ظمأهم …نظرت اليها وعيناها مُسدلتان في خوف وامل ورجاء وقلت …الحمد لله نجحت ….فرح ابي كعادته والدموع تنهمر من عينيه وقبّلني اخوتي وطفقت عيّادة صاحبة المُسدلتين تتمتم: حمدا وشكرا …نظرت الى العينين المُسدلتين وسألتها ..اشبيك يا عيّادة ماكش فرحانة؟ ..اجابت دون ان ترفعهما: “آه يا وليدي، قللو يا كلب اشبيك تلهّف، قللو خايف من قايلة غدوة” …كنت اعرف ما تعنيه ولكن وبكل استعباط (وكم احبّ الاستعباط) سالتها: اش ثمة زادة ..؟؟ نظرت إليّ بكل عمق وريبة و اردفت: راك ماشي لبلاد الغربة …وماشي تبعد عليّ ..وتونس صعيبة (تقصد العاصمة) صعيبة برشة …وكان ما ربّي يبعّد عليك اولاد الحرام وبنات الحرام” …

هي ربّما ملتاعة من تجربة احد اخوتها (احمد رحمه الله ) الذي كسّر قيود القبيلة وغادر صفاقس ليعمل ويعيش بالعاصمة، وليتعلّم هناك معاشرة بنت العنبة ويعمل خلاه فيما ولاه حسب تعبير القبيلة …ثم هي تعني اساسا في عبارة “اولاد الحرام وبنات الحرام” عجُز العبارة “بنات الحرام” …لانها تعرف جيّدا ولدها وتعرف انّ “عينو محلولة وقافز” مقارنة باقرانه …وهي في جانب من طروحاتها على حق ..لأنني كنت قريبا جدا من الفتيات في افراحنا ولمّاتنا ..وكانت تكرّر دوما وبضجر: اش عاملهم ..؟؟؟ طلاسم ..؟؟ اشبيهم في جرتك تقولشي ذبّان مڨجّجين عليك …؟؟؟ واذا كان هذا هو انا وهنّ في ذلك الزمن وحتى بعده فهي وانتم ليتكم تعرفون الحقيقة …جلّنا انذاك كانت علاقاتنا بالفتيات من نوع (قطاطس باردو القفز وقلّة الصيادة) ..اي لا شيء .. لا شيء ..لا شيء ..في علاقتنا .. والله حتى بوسة لا ثمة ولا كانت ولا صارت ! ….

ولكن قلب الام لا يستكين حتى للاّشيء ..وعندما تتحدث مع اختها الصغرى نفيسة رحمها الله وهي التي تلعب معي دائما دور المحامية الجيدة في محاورة عيّادة، كانت تردّ بكل ثقة: “بالله يزّي يا للتي محسونة توة تاخذ عليهم ..مازالو صغار” ..الا ان عيادة ترد وبكل جدّية: “اشكون يعرف تلصقشي فيه نحاسة مسوّدة” … وهذه العبارة تُطلق على فتاة غرّر بها احدهم وافقدها عذريّتها …

نظرت مجدّدا الى تلك العينين المسدلتين ومسكت يد عيّادة وقلت لها: اغزرلي اغزرلي … مليييييييييح …انت جبت راجل والا طلطول؟ ..ودون انتظار ردّت: “جبت راجل وسيد الرجال …اما خايفة عليك” ..قبّلت يدها ..واخذت نفسا عميقا كما افعل كلّما اقبّل يدا احبّها وقلت: “ما تخافش على كرمة العسل متاعك” ..هي تلك العبارة التي كانت تردّدها دوما وانا طفل … بعدها سالتني: “توة اش ماشي تولّي تخدم …؟؟ ماشي يولّيو يشوفوك في التلفزة” ..هل لاحظتم انها لم تستعمل ضمير المتكلم ..؟؟ هي تريد ان تفتخر بابنها …قبل حتى ارتوائها من رؤيتي على الشاشة …اجبتها: “لا، انا ساُصبح تقنيا من تقنيي التلفزة” …فاستفسرت: “اش معناها ..؟؟” …حاولت ان افسّر لها نوعيّة الاختصاصات في العمل التلفزي واشهد اني لم اُفلح ..ربّما لعجزي عن الشرح او لعدم رغبتها في الفهم … وتدخّل الوالد بسؤاله: “والخلاص باهي ؟؟” .. كل فول يهمّو فلوس نوّارو…. موش لاهي بيه برك .. واجبت ببرود: ان شاء الله … وتمتم: ربي يجيبك في الصواب وما تنساناش عاد ..انت تعرف البير وغطاه …

في الغد كان اللقاء مع الشلة …كان سي المبروك الحمّاص اوّل من حظي ببشارة الخبر …نظر إليّ وقال ..والله نعرفك ماشي تنڨزها …. كان فرحه طفوليا بطفله الذي “سلّكها”… وهاهو رضا يصل ..لم ينتظر اجابة منّي لانه احسّ بالنتيجة بادية على وجهي ووجه سي المبروك ..وقال: “قلتلك … ماشي نعيثو فيها فسادا غاديكة … نعيثو يعني نعيثو” .. عانقني وانا ارد: “خاربينها خاربينها” …وتسللت الشلّة من حانوت بو احمد حلاقنا وراعي حوار العصابة، وعلى طريقته دوما، علّق: ايّا سيّب سي المبروك وحضّر روحك للمبروك (يعني الزردة الخمرية) …وكانت لهم زردتهم وكان لي ولرضا الاستعداد للرحيل … فنهاية سبتمبر على الابواب وبداية دراسته الجامعية وبداية دراستي بمركز بيكلار التابع لدار التلفزة التونسية لتكوين اطاراتها، تنطلق في غرّة اكتوبر …

سجّل رضا بالمدرسة العليا لتكوين الاساتذة قسم تاريخ وسجّل ايضا بالمبيت الجامعي راس الطابية ..اما انا فاصطحبت مجموعة من زملائي الذين نجحوا في الباك، لاقطن معهم بنهج قلاتيني بلافايات وتحديدا وراء معهد بورقيبة سكول ..ورغم تميّز المكان جغرافية ومعين كراء، فانه لم يكن مناسبا لي ..اولا لبعده عن مركز دراستي وثانيا وهو الاهم انه لم يكن ليتسع لي ومعي رضا نتقاسم وجودنا يوميا …لذلك قضيت معظم اوقاتي معه في البيت اف 16 بمبيت راس الطابية ..اف 16 وكما تعرفون عنوان لطائرة حربية ..واف 16 براس الطابية هو عنوان لقاعدة حربية يجتمع فيها كل الطلبة المنحدرين من ساقية الدائر ..هي تتسع في تركيبتها لـ4 طلبة ..ونحن نُخضع مساحتها لعشرة على الاقل ..وياما حروب جميلة ان لم تكن خمرية فهي بولاتية ..ويا ويلو اللي نركّحو عليه، مشى بازڨة …

يوم السبت عشيّة كنّا نقصد نهج اين خلدون ..وهنالك وبمقهى صغير جدا يجتمع الرفاق … مقهى علي بابا …انه مقهى الطلبة اليساريين… وتبدا الطروحات التي لا تنفك ..فهذا زعيم اللينينيين وهذا التروتسكي المتطرف وهذا من جماعة ماو .وهذا وطد وهذا دستوري “فليك” (يتبهنس ثمّشي ما يسمع حويجة على تحركات الطلبة ويهزّها لسيادو) … واغلبنا من القطيع …نتلمس طريقنا وسط الزحام الطلابي …

يوم الاحد هو يوم عيد بمبيت راس الطابية ..يوم الكسكسي بالعلوش حيث يتوافد من دبّ وهبّ من الطلبة لوجبة الغداء والتي عادة ما تكون على ڨازون المبيت ..كنا انا ورضا نقف احيانا في بداية طابور الطلبة المتوجه لاخذ وجبته وكانت تذكرة الوجبة الجامعية بـ100 مليم… وكان الواحد منّا يحمل بيده 5 ملّيمات ويتعاطى مهنة طالبي الصدقة امام المساجد وهم يتكاثرون يوما بعد يوم، بقولنا: (يا رفيق تكمّلّي على تيكيه) …

لم تدّم سكناي بنهج قلاتيني اكثر من اسبوعين ..فذات يوم وانا بمقهى ابن خلدون التقيت صدفة باحد متساكني الساقية وهو طالب في سنته الاولى بتونس اختصاص علوم (محسن المنجّة) وهو قريب لقائدي في الكشافة محمد المنجة ..وككل لقاء يتم بين افراد المنطقة الواحدة تجاذبنا اطراف الحديث العادية ..اشنية حوالك ..اش عامل ..وين تسكن …؟؟ وهنا عبرت له عن قلقي من موضوع السكنى ..وها هو يعرض عليّ الإقامة بنهج ابن خلدون …. (كلب وطاحت عليه جردڨة)… مكان لا يبعد عن مركز دراستي اكثر من 100 متر ..وهو استوديو يتسع لشخصين … وصديقنا هذا لا يّقضّي نهاية الاسبوع فيه، حيث ينتقل الى اطراف عائلية له بتونس … و6 الاف معلوم الكراء شهريا …(موش قلتلكم كلب وطاحت عليه …لا موش جردڨة مبسوطة اصلا!) …اتفقنا واسرعت الى رضا ..”فُرجت” ..ذكرتها وانا اغني وارقص، على وزن “بُعثت” التي تجدونها في اغنية كيلوباترة (بُعثت في زورق مستلهم من كل فنّ … مرح المجداف يختال بحوراء تُغنّي … يا حبيبي هذه ليلة حُبّي .. اه لو شاركتني افراح قلبي) …

هل فهمتم ماذا اعني بـ”بُعثت” وبمعارضتها “فُرجت” ؟؟؟… ان غدا لناظره لقريب …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار