تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 43

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:


بعد ثلاث سنوات من استقراري بتونس العاصمة كشابّ في بداية مسيرة حياته، لم تكن شؤون حياتي مستقرة ماديا بالمرّة ..اذ اثر انتهاء الدراسة بمنحة قدرها 30 د تماما كمنحة اي طالب انذاك وبعد تخرجي، جاء اول مرتّب في حياتي وهو الذي لم يتجاوز 40 د ليسدّ في اغلب الاوقات بعض حاجيات العيش هنالك ..

عبد الكريم قطاطة

هنا لا بد من الاشارة إلى امر هام جدا وله ابعاد كبيرة في رؤيتي للمال ..اوّل مرتب في حياتي ويوم قبضته اودعته ليلة كاملة في حاوية الزبلة .. نعم في حاوية القمامة …كانت ومازالت لي رؤية عدائية للمال …ربّما لأني عشت في عائلة معوزة ولم اجد حاجتي عند حاجتي له طيلة طفولتي وشبابي … ربّما لأن احببتها في مراهقتي او هكذا توهّمت باعتني من اجل حفنة مال ..ولكن ومع تقدّم العمر تيقنت انّ من يلهث وراءه انّما هو يلهث وراء سراب ..(“يا عابد المال قل لي هل وجدت به .. روحا تؤانسك او روحا تواسيها .. انظر الى النار انّ الفتك عادتها .. لكنّ عادتها الشنعاء تّرديها” / ايليا ابو ماضي) …

اشكال جل البشر انهم اعتبروا دائما المال غاية وليس وسيلة للعيش فاشقاهم اكثر مما اسعدهم …لأن صاحب الدينار قد لا يفيه الدينار لقضاء حاجته الا ان صاحب المليار اكثر تعاسة ..لأنه ببساطة لن يّحس بالراحة يوما ..فهو لن يكتفي اولا بالمليار لانه يريد اخا له واختا ويدعو الله ان يرزقه بتوائم من صنفه ..من جهة ..ولكن الاتعس انه يعيش طيلة حياته عسّاسا على ملياراته خوفا من منافس ينهبها …ومن ثمة تبدا الحرب اليومية بينه ومنافسيه لتتحول الى كوابيس في مرحلتها الاولى ثم لتنتهي بسرقات موصوفة وغير موصوفة وجرائم متعددة التوصيفات ..ويكفي لنتأكّد ان نُطلّ من كوّة صغيرة على ما حدث منذ قارون ويحدث الى يوم البعث من حروب وجرائم تُرتكب في حق البشرية والتي مصدرها وهدفها المال ..

انظروا الى الحروب ..انظروا الى مستنقعات الاقتصاد وحقوق العمّال المسروقة ..انظروا الى دول البترودولار كيف تتدخّل في شؤوننا ..انظروا الى تركيا واوردوغان والحلم العثماني تُصدّر لنا “الڨليبات البيضاء” وهي تُخفي قلوبها السوداء التي تُضمر لنا اياما اكثر سوادا من قلوبها ..ويتعامى العديد من ساستنا اللصوص على ابسط واتفه سؤال ..هل نحن في حاجة لاستيراد تلك الڨليبات التي لا تزيد قلوبنا الا تبلّدا وكسلا .؟؟؟.لو احد يمنحني الامان وها انا امنح لنفسي الامان… (من غير مزية حدّ) …لقلت لهم ..لساستنا الاعزاء… يا أللّه ما احوجنا الى نظام داعشي يقطع رؤوسكم (سياسيا لا بشريا) ويرمي بها في اسطمبول او انقرة وهنيئا لكم بالڨليبات بيضاء او زرقاء او بنفسجية ..المهم ان نستريح منكم ومن وجوهكم الكالحة المالحة … عودوا الى تاريخ الامبراطوريات الاستعمارية …وحتى تلك التي نتغنى بها نحن العرب والمسلمين من خلال مقولة هارون الرشيد وهو يخاطب مزهوّا بعرشه على الدنيا، سحابة تمرّ في السماء بقوله (امطري انّى شئت فخراجك آت اليّ) .. اليس كل ذلك من اجل تكديس المال ..؟؟

في حين ان ابسطنا علما بالقرآن لم يتفطّن الى آية من اعظم آيات الله في كتاب الحق (المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّه).. اي نحن في الاخير لا نملك شيئا .. الم يتفطّن لها اوناسيس اثرى اثرياء اليونانين وهو على فراش الموت عندما قال (خذوا كل ثروتي ودعوني اعش) ..؟؟ الم يتفطن لها قوم موسى وهم يتمنون لو كان لهم نصيب من ثروة قارون ….وعندما خسف الله بقارون وبثروته استفاقوا من غفوتهم واستغفروا ربّهم ..دعونا نتفق بأن المال قوام الاعمال وبأن نكران حاجتنا اليه ضرب من ضروب السريالية .. ودعونا نتفق ان للفقر مصائبه وتعاسته …وهو الذي قال عنه علي رضي الله عنه (لو كان الفقر رجلا لقتلته) رغم ان البعض ينسبها لعمر ابن الخطاب ..ولكن ان يتحوّل الى غاية فذلك عندي اكبر همّ من هموم الانسان …

الاربعون دينارا كجراية لم تكن كافية بتاتا لكي اعيش عيشة سوية ومتوازنة في العاصمة… فعلاوة على مصاريف الكراء والملبس والمأكل، كنت لا احسن التصرّف بتاتا في جرايتي ..وها انا وبعد كلّ هذا العمر على سليقتي …ويبدو اني ساغادر هذه الحياة وانا مدين للبعض بما اقترضته منهم …وليطمئنوا …وصيتي في هذا الامر جاهزة لأبنائي حتى يفعلوا ما لم اقدر على فعله ..وكلّي ثقة في برّهم بي وعدم خذلاني… لأني لم اخذلهم ولم ولن اخذل كل من وعدته بأن لا اخذله …بعبارة اخرى عشت في تونس باسلوب (كبّوس هذا على راس هذا) لكنّي وكلّي فخر اقول… لم اكذب على ايّ احد ولم اسرق حتى رغيف خبز ولم احنث في وعودي متى قدرت على تسديدها ….كنت ابيت احيانا على نصف باڨات و”طابعين شكلاطة” كعشاء ..وكنت كما تقول احدى الجارات رحمها الله وهي تعاتب ابنها الشرّيب: ° في النهار عروس وفي الليل قطّوس°…

لهذه الاسباب كنت كثير التنقل في المسكن ..اما لحاجة صاحب المسكن لمنزله … او للبحث عن سكنى اقل تكلفة في الكراء ..وربّما من المساكن التي عمّرت فيها بالعاصمة ..استوديو ابن خلدون طيلة الدراسة ..ومنزل بنهج الراس الاخضر وراء معهد بورقيبة للّغات الحية بشارع الحرية ..وآخرها واشهرها واكثر اعاجيبها منزل بنهج كندا والتي كانت تلقّبها عيادة رحمها الله بـ”دار العجايب” عندما تهلّ عليّ ضيفة انذاك وتكتشف يوميّا خُنّارها (اعني خُنّار كثرة زائراتها) .. ولكن لا بد من العودة الى مسكن نهج الراس الاخضر لما عشنا فيه من ايام وليال ..متسوّغه يعمل صانعا عند بائع قماش باحد اشهر انهج قلب المدينة ..بسيط او هكذا يبدو .بحبوح او هكذا يبدو .. كنا نقطن به اربعة وكلّنا من صفاقس كل واحد يجيب صاحبو… بعضنا من سلك التعليم …بعضنا الاخر طلبة في معهد الفنون الجميلة، احدهم ما قضّاه نائما في بيته اكثر مما قضّاه على مدارج المعهد ..موش هكة يا نوري ؟؟ رغم موهبته الكبيرة في دنيا الرسم ..وانا (زعمة زعمة) موظّف قد الدنيا في مؤسسة التلفزة واسمه يطلّ بشكل دائم على شاشة التليفزيون …(يا بمبك يا بمبك) …

عقد الكراء كان بيد ذلك الصانع في حانوت القماش …وهو الذي تحوّل بعد سنوات الى واحد من اثرياء تونس بعد زواجه بابنة ثريّ لست ادري كيف احبته (وللحب جنونه) ليبدأ مشروعه الصغير وليصبح كبيرا …طبعا بمفهوم الثراء لا غير ..وربّما ستفهمون ان امثاله من الممكن جدا ان يكونوا اثرياء عندما اقصّ عليكم هذه الحكاية.. صديقنا هذا كان المكلّف بقضاء كل ما يحتاجه المنزل من حاجياتنا اليومية (الاكل وملازم المنزل الضرورية) وكان اسبوعيا يقوم بقضاء تلك الشؤون ويسجّل ذلك في كنّش صغير ..وفي نهاية كل شهر يقوم بالجمع والقسمة ليدفع كل واحد منا نصيبه من المصاريف … في شهر ما، انتابني شك في حجم المصاريف ..لمّحت لبعض متساكني المنزل عن شكّي ..لقيت منه وعنده نفس الشكوك ..دخلنا غرفته وبحثنا عن كنّش المصاريف ..فتحناه ..عاينّا مصاريف الشهر المنقضي ..لم نجد اية زيادة في استحقاقتنا العادية لكل شهر …اسبوعيا حاجياتنا كانت مدوّنة دون زيادة ..اغلقنا الكنّش وهممنا بالخروج الا انّ شيئا ما اعادني الى الكنّش ..

لاحظت ان صديقنا يدوّن اسبوعيا تاريخ ذلك الاسبوع بالشهر والسنة ..لم افهم سرّ تأريخ ذلك في البداية ..اعدت النّظر هذه المرّة بكل تأمل وبدات مراحعة عملية جمع المصاريف ..ورغم ضُعفي المدقع في الرياضيات وجدت خللا في المجموع ..لكن الاغرب ان الخلل كان دائما بنفس القيمة … اعدت الجمع مرات وكان الخلل دائما بقيمة 1974…. هل فهمتم ماذا حدث ..؟؟ كان يضع قائمة المصاريف ويضيف لها اسبوعيا السنة والتي كانت 1974 ليصبح هذا العدد من جملة مصاريف ذلك الاسبوع … كان اوّل ردّ فعلي “مهفّ فريمون مهفّ!”.وانا هكذا اُعجب بالبصمة الخاصّة حتى ولو كانت سرقة … ولكن الى حين ..اطلّت بعدها عليّ نرجسيتي وقلت “موش وحدو مهفّ” او باسلوب ادبي خاطبت هذا المهف وعلى طريقة طرفة ..(ستُبدي لك الايام ما كنت جاهلا .. ويأتيك بالاخبار من لم تُزوّد) … اشعرت زملاء السكن بالمؤامرة الاسبوعية لصاحبنا اللص الظريف وعقدنا اتفاقا على ان يدفع الثمن “ثاني ومثلث”…

في منزلنا هاتف …والهاتف باسم صاحبنا ولا يستعمله احد سواه… كان يُقفله دائما بقفل حديدي (شرلّية صغيرة) وتحدّينا تلك الشرلّية واصبحنا نستعمل النقر (تماما كما فعلها خماخم مع الحكم) حيث نكوّن الرقم المطلوب بعدد النقرات فـ 2 تساوي نقرتين .. و5 خمس نقرات ..الخ …هل تذكرون عادل امام وهو يقول في احدى مسرحياته (حهرّيك) .؟؟….”هرّيناه” فعلا ..كل الارقام التي نعرفها وحتى التي لا نعرفها طلبناها …وهذه العملية الاخيرة بالذات تعرفنا من ورائها على عصابة فتيات هاي جدا ومتبرجزات جدا جدا من فئة “بونجورغ” في ذلك الزمن ..الا انّ عفرتتنا اخضعتهن لعرشنا و لصولجان الزيارات كمقررات …حيث نختلق كل سبت عيد ميلاد لواحد منّا وليس مهما ان لا يكون من مواليد ذلك اليوم ولا ذلك البرج …المهم ان يكون برجهن مقررات …يااااااااااااااااااااااه كنّا عالم صايع قوي … وكانت المؤامرة الهاتفية وبعد اطلاع صاحبنا على فاتورة الهاتف، آخر عهد لي بذلك المنزل ..حيث انتقلت بعدها الى نهج كندا وهو الذي لا يبتعد عن دار الاذاعة والتلفزة الا مائة متر ونيف …

عندما تسلمت مهامي في تلك السنة كمسؤول وكمنسق لقسم المونتاج عملت بكل مثابرة وجدّية ..حاولت ان اكون الزميل الصديق لهم جميعا لا اكثر ..واحمد الله اني لم اظلم احدا بل وهو الاهم كما احببتهم احبوني دون استثناء … في شهر اكتوبر من تلك السنة 74 ..حدث اشكال مهني خطير للغاية ..رئيس المؤسسة انذاك هو السيد صلاح الدين بن حميدة… وعلى عكس الذي سبقها ..(السيد ميمون الشطي الوديع جدا) …كان مُهابا بشكل خُرافي … اولا هو ذو كاريزما رهيبة جدا ..ثم هو في تلك الحقبة من المُقرّبين جدا للقصر الرئاسي ..وممن يحظى خاصة بدعم مزدوج من الزعيم بورقيبة وعقيلته وسيلة …بما معناه “يضرب يعور”… كان الجميع في المؤسسة يخافونه..يكفي ان يراه احدهم ينزل من سيارته في اتجاه مكتبه حتى تصبح الكولوارات خالية من روّادها ..

ذات يوم طلب منّي رئيس المصلحة مدّه بشريط وثائقي كنّا نقوم بمونتاجه حول حدث سياسي .. حتى تقوم التلفزة ببثّه ذلك اليوم ..اجبته بالقول: الشريط غير جاهز ولا يمكن بثّه اليوم بل يستحيل بثّه اليوم …هاتفني المدير التقني العام واشعرني بان السيد صلاح الدين بن حميدة مصر على بثّه اليوم ..اجبته: غير معقول بالمرة الشريط غير جاهز ..اتّصل بي رئيس ديوان السيد صلاح الدين وبلغة اكثر حدة قال لي: راهو سي صلاح يحبّو يتعدّى والبلاد ماهياش على ڨرنك يا سي قطاطة …كانت الساعة انذاك تشير الى منتصف النهار ..اجتمعت فوريا بزملائي واعلمتهم بتفاصيل ما حدث ..اشاروا عليّ بأنهم معي في كل ما اراه صالحا ..وانهم ودفاعا عن مهنتنا مستعدون لاي تصعيد ..

اعلمت رئيسي المباشر بموقفنا وانتظرت ردّه . قدم اليّ سي ابراهيم بوجه شاحب وطلب منّي الشريط لسي صلاح الذي امره بذلك ..قلت له ساحمله بعد حين لرئيس ديوانه ..قال لي تهنّيني..؟؟ اجبته كون متهنّي … اجتمعت بزملائي وقلت لهم ..انا ساقدم استقالتي ولست مستعدا لتسليم الشريط لأي كان …ولكم سديد النظر ..وكان الحدث الذي لم يحدث اطلاقا لا قبل ذلك اليوم ولا بعده ..الزملاء وبالاجماع قدموا استقالتهم معي … امضينا جميعا على الاستقالة وكلفوني باعطائها لرئيسي المباشر _ سي ابراهيم الغضاب اطال الله عمره… وغادرنا جميعا المؤسسة ..كنّا مدركين لأهمية قسم المونتاج في الاعمال اليومية للتلفزة… وخاصة شريط الانباء الذي لا يمر دون مونتاج نشاط الرئيس ..نحن لعبنا ورقة خطيرة نعم وكان حماسنا انذاك واندفاعنا من جهة، وتلك الافكار الثويرية التي احملها ويحملها امثالي من نوع (لا للاستبداد) و(لا للمسّ بنواميس المهنة) …هي التي جعلتنا نلعب ورقة استقالتنا …

و”دخلت بعضها”..الجميع يرتعش … فعلها ولد عيادة ..والاكيد لم يقولوا مثل هذا الكلام الجميل بل كانوا يشتمون ويلعنون (عملها الكلب بن الكلب ..؟؟ هذا اللي حسبناه موسى يطلعنا فرعون ….شوف يا سيدي اش يخرج منّو هاكة الفرخ ..؟؟) … هكذا اعاد عليّ بعضهم هذا الكلام في زمن متقدم …وماهي الا ثلاث ساعات حتى اصبحت سيارات المؤسسة تجوب شوارع العاصمة لتجلبنا من منازلنا لحضور اجتماع عاجل مع سي صلاح الدين الرئيس المدير العام للمؤسسة …

وصلت وكان جميع الزملاء في انتظاري.. كلّفوني بالتحدّث باسمهم وكلفت احدهم بالذهاب لخلية الاخبار التلفزية للقيام بعمله في شريط الانباء ..نظر اليّ باستغراب ..قلت له وللجميع سنثبت بهذه المبادرة اننا دعاة صلح لا حرب …دخلنا صالة الاجتماعات الخاصة برئاسة المؤسسة والتي لم ادخلها من قبل ولكنّها كم عانت من وجودي بين حيطانها منذ ذلك التاريخ حتى سنة 2013 ..جلسنا على مقاعدها الوثيرة في انتظار قدوم الكاريزما …يُفتح الباب… يدخل دون ان ينظر الى احدنا … غضب ساطع في عينيه ..شفتاه زرقاوان بمفعول التدخين وحوله الحاشية المتكونة من رئيس ديوانه سي الديماسي اطال الله عمره، رئيسي المباشر سي ابراهيم، المدير العام للتقنية سي منجي الشافعي وكاتب الجلسة المرحوم محمد قاسم المسدّي ..

جلس سي صلاح على مقعده الوثير جدا وألقى نظرة بانورامية علينا جميعا وسأل: وينو سي قطاطة ..؟؟ كنت على يساره ..اجبته.: انا سيد المدير …نظر اليّ باحتقار وقال: هو انت ؟؟؟ امّالا لو كان جيت اطول واسمن تعمل انقلاب في البلاد؟؟… صمتّ قليلا وقلت: سيدي المدير تسمحلي نفسرلك الموقف؟ …اجاب بغضب: اما موقف؟؟ تعرف اش معناها ما يتعداش شريط الانباء الليلة؟؟؟.. قلت له: نعرف سيدي المدير وانا كلفت واحدا من زملائي (محمد علي الرويدي) بالقيام بمهامو على احسن وجه … اووووووف تنفس موش الصعداء ..تنفس هيمالايا .. وعاد الى استعلائه وقال: معناها رجعلك شاهد العقل وماشي تعطيني الشريط ؟؟… اجبته: تسمح ببعض الدقائق لتفسير سوء التفاهم ؟..قال لي: تفضل هاني نسمع فيك ..اوضحت له بمنطق علمي لا جدال فيه ان مرور شريط على تلك الحالة في شاشة المؤسسة هو معرّة لنا… لك انت كأول مسؤول عنها …وللتلفزة التونسية ككل …

كان يستمع بانتباه كبير دون ان ينظر اليّ .. بعد ان اتممت توجّه الى المدير التقني العام وقال بلهجة جدّية: “سي المنجي انت ما قلتليش هالكلام …اهو عندو حق السيد” … ولانقاذ سي المنجي قلت له: تسمح سيد المدير بتعليق صغيّر؟ … استدار اليّ ورايت في عينيه شيئا من الرضى فأكملت: راهو موش انا اللي عندي الحق كل القسم هو اللي عندو الحق .. احنا صحيح ندافعو على مهنتنا اما زادة ندافعو على مؤسستنا واللي يمسّها يمسّنا سيّدي المدير …نظر سي صلاح الى المدير التقني العام والى رئيسي السيد ابراهيم وقال: عندكم الحق، توة فهمت علاش عندكم فيه ثيقة …ثم وبكل اعجاب واطمئنان قال: “ايّا سي عبدالكريم اشنية مشاكلكم في قسم المونتاج … وسجل عندك سي قاسم” ..وطفقت اعدّد له نقائص القسم وكذلك في الان نفسه تفهّمنا التام لتكون البدائل بمرحلية …قام السيد صلاح من مكانه… شدّ على يديّ وقال “نوعدكم ما تراو منّي كان الخير” ..كان ذلك في العشرية الاخيرة من شهر اكتوبر …

في الغد رن هاتف مكتبي فاذا به رئيس الديوان يطلبني الى مكتبه فوريا … ليستقبلني بكل حفاوة وبـ”اش تشرب ؟؟” (هذه عادة اما للكبار او “لهنّ”) … شكرت و اعتذرت ..وبابتسامة رقيقة قال لي: سي صلاح يُقدّر موقفك الذي ينمّ على تفانيك من اجل سمعة المؤسسة، ويعيّنك لتكون ضمن البعثة التلفزية الرسمية التي سترافق الزعيم بورقيبة للقمة العربية بالرباط …(26 اكتوبر 1974) .. نظرت لرئيس الديوان وقلت: “شوف سي عبدالسلام، اولا انا قمت بواجبي تجاه مؤسستي، ثم أشكر السيد المدير على منحي هذه الثقة، ولكني غير مستعد ليها لانّي ما عنديش تلفون (اقصد جواز سفر) … ابتسم سي عبدالسلام وقال: توة هذي مشكلة ..؟؟ برة جيبلي بطاقة تعريف واتصورزوز تصاور وجيبهم ..انت هو اللي اختارك السيد المدير وانت هو اللي ماشي تمشي ..

صدقا بفرح طفولي نفذت… كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا وها انا اتحصل على اول جواز سفر في حياتي على الساعة الواحدة ظهرا من نفس اليوم …قلت بفرح طفولي ولابد ان اعود اليها …في تلك اللحظة عبدالكريم خارج للمغرب مع بورقيبة ! …نسيت وقتها الثورية متاعي والمعارضة والشعارات (لا تفهموها من زاوية “اطعم افم تستحي العين” ابدا والله) … لكن في تلك اللحظة عشت فلاش باك كاملا … رجعتلي صورة عبدالكريم ..هو واحد من قلب الغابة متاع ساقية الداير …اللي كان يخرج للمدرسة بقبقاب … وصوابع ساقيه ويديه زرق بالسقع … وسورية المناسبات تشدّو خمس سنين … في عيد صغير والا كبير يلبسها والاصح هي تلبسو وترجع تطويها عيادة الله يرحمها في صندوق عرسها …

(.وصندوق عيادة اسمح صندوق في الدنيا… فيه اسرارها وفيه جمالها وفيه عينيها اللي قد ما نوصف ما نقدرش نعبّر .قدّاشهم اسمح عينين في الدنيا وقداشهي هي سلطانة فيهم … وحتى مرّة عيّادة الله يرحمها غلطت وانا في الثالثة ثانوي عطاتني فلوس باش نحضر بيها احد اعراس اهلنا… وانا زعمة زعمة شريتها على الموضة نصف يد وبيضاء وكيف شافتها كليت على راسي بالبخص والتڨرڨير والمرج وانا نكره التڨرڨير والمرج .. وهي تقول وتعاود: نصف يد؟؟؟ لاه فلوسنا برشة ؟؟؟ معناها ما تصلحش للشتاء . يلزم يديها طوال (معناها 2 اون 1) ….وزيد بيضاء على استحفاظك البيّ! …

وهاكة عبدالكريم اللي يقعد في الكور متاع الحي يمطّق في لسانو وهو يشوف في زميلو ولد الحشيشة ياقف قدام بياع الميلفيه ويضرب الاولى والثانية واذا ما كلاش ياكل حارة ..وانا كان لطف بيّ ربّي كعبة نتشارك فيها انا وواحد من امثالي مرّة في الشهر ….عبدالكريم المطعم الخيري… والقعدة في كيران باب الجبلي …ودورو قلوب اكحل (موش ابيض متاع الدولة العثمانية) …مع خويا الصادق شعبان وللي ما يعرفوش ويعتبرو من ازلام بن علي نقوللو …هاكة سيدكم لو كان جيتو تعرفوه وتعرفو قيمتو، توة تبلّعوا اذا موش تنقرضوا ..راجل وسيد الرحال … هذي نقوللها فقط للي موش رجال …

عبدالكريم متاع كل تلك الحقبة واللي البعض يتبرأ منها ويحكي عنها بمنطق الفقر و السخط والميزيريا ويزيد يدعي (الله لا ترجعّها) انا نقول اش خص لو كان ترجعلنا الايام … وحتى اذا ما رجعتش وهي عمرها ما ترجع، انا وكل الفخورين بسخطها وفقرها وميزيرتها وذلك كان حجر الاساس في بنائنا… سنواصل البناء الى ما فوق حدود السماء لزرع القرنفل هناك ولزرع الحب والامل والارادة حتى يصبح الانسان فينا سلطانا …

اذ لا سلطان على الانسان الا الانسان.الجميل الراقي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 67

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حياتنا عادة ما تكون اشبه بدرس من دروس الجغرافيا… الم نقرأ في ما قرأنا عن التضاريس والتلال …؟؟؟… الم نقرأ عن السهول والمروج ..؟؟؟ الم نقرأ عن الامطار الاستوائية وعن الجفاف ..؟؟؟ الم نقرأ عن الزلازل والفيضانات ؟؟؟ اليست هذه هي مواصفات حياتنا ؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ولعلّ السمة البارزة التي طبعت حياتي منذ خُلقت ـ والحمد للكريم في ذلك ـ انني عشت الجغرافيا بكلّ طقوسها واحوالها … اذ كانت تترواج بين المدّ والجزر فأنا عشت الفقر والجوع وعشت ايضا كسب التحدّيات …كلّ ما درسته سواء في المدرسة والمعهد او في مدرسة الحياة جعلني انتمي الى عشيرة نيتشة الذي يرى انّ الحياة ارادة …اُعيد القول انّ العنصر الايماني انذاك كان شبه مفقود …الاّ ان داخلي كان ممتلئا بعزيمة لا تُقهر وبالرضى بالاقدار المؤلمة تلك التي لا حول لي فيها ولاقوّة …

ففي عامي الاوّل بعد الزواج رزقني الله بتوأم (ايمن وايمان) في الشهر السابع من الحمل …الا انهما كانا غير مكتملي التكوين وزنا (كلغ واحد وبعض الغرامات) مما جعلهما غير قادرين على مقاومة الصراع مع الحياة … ايمان انتقلت الى جوار ربّها بعد 48 ساعة من ولادتها وايمن بعد نصف شهر … كان الطبيب انذاك يهمس لي لا تحزن …عند الله افضل …لانهما كانا مهددين بالاعاقة الحتمية اذا استمرّا في الحياة… وبقدر شوقي كي اكون ابا بقدر عجبي من نفسي وانا اقبل القدر بكل راحة بال ورضى …عندما التفت الان الى جويلية 1981 شهر انجابهما وارى التوائم الان اغبط والديهما على مثل تلك النعمة الكبرى …ياااااااااااه ما اعظم ان يكون للواحد منّا توائم وما اسعد من منّ الله عليه بهم … واذكّر فقط بأني وُلدت مع توأم (بنت) لم يُكتب لها النور اذ وُلدت ميتة …

ما اردت قوله وانا في الثلاثين من عمري ان تجاربي فيما عشته جعلت منّي ذلك الذي لا يسقط بسهولة امام نوائب وصروف الدهر … ولعلّ مازاد في صلابة مواقفي وعنادي وصحّة راسي النجاح المهني الذي حققته منذ اوّل يوم باشرت فيه العمل بالاذاعة والتلفزة التونسية (1972) كمركّب افلام، الى اخر يوم من خروجي من هذه المؤسسة بعد انسحابي النهائي سنة 2012 كمنشّط عندما ادركت انّي اصبحت عبئا على بعض المناوئين والذين عملوا وبكل الاساليب الرخيصة كي يعبثوا بكرامتي ويكون طردي على ايديهم كما خططوا لذلك … ولكن عزّة نفسي ابت الا ان تكون حاضرة لحرمانهم من هذه الامنية الغادرة فانسحبت وانسحبت معي ابتسام … وها انا اعيد القول: انا مسامحهم دنيا وآخرة، لسببين اوّلهما ومهما كان الذي حدث انا لن اسمح لنفسي بحمل ايّة ضغينة تجاه ايّ كان ..ثمّ لانّي ادركت ودون رجعة ان اذاعة صفاقس مُقبلة على مرحلة مؤلمة للغاية بعد 14 جانفي… مرحلة تعملق التافهين وعنتريتهم… مرحلة يصول فيها ويجول الفارغون والصراصير _ مع احترامي الشديد للعديد من الزملاء الصادقين الطيبين والذين يقولون سرّا ما اقوله الان جهرا …وحتما ستكون لي عودة لكلّ التفاصيل في ورقات قادمة حتّى يعلم الجميع ما حدث …

مضت السنة الاولى من الكوكتيل في وهج جماهيري غير متوقّع… صمتت الادارة العامة عنّي ولم تعد ولو مرّة واحدة لطلبها عودتي الى تونس العاصمة وكأنها قبلت بالامر بشكل نهائي … وبدأت الجرائد تتابع مسيرتي وتثمّن انجازات كوكتيل من البريد الى الاثير والذي استطاع ان يخلق مساحة اذاعية جديدة في المشهد الاذاعي التونسي… اذ تخلت الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير عن برامج الاهداءات وقلّدت اذاعة صفاقس في برمجة الضحى… نعم وبكل صدق كان للكوكتيل دور كبير في خلق مساحة اذاعية اسمها منوعة الضحى في الاذاعات الثلاث ..هذه الفترة التي كانت شبه ميّتة اصبح العديدون ولحد هذا اليوم يتكالبون عليها ويعتبرون أنفسهم مظلومين اذا لم ينالوا نصيبهم منها مرّة في الاسبوع ..

ومما يُحكى عن زميلي محمد عبد الكافي والذي كان يشغل وقتها مديرا لاذاعة المنستير انّه كان يجتمع اسبوعيّا مع المنشطين ويحثهم وبشدّة وبغضب احيانا على ان يقتدوا بما فعله عبدالكريم باذاعة صفاقس في فترة الضحى … بعبارة اخرى _ كان يقطّع شعرو ويقللهم اش عندو زايد عبدالكريم هذا متاع وذني باش ما تعملوش كيفو _ رغم انّ عبارة (يقطّع شعرو) لا تصحّ عليه نظرا لقلّة الانتاج في شعر رأسه …في الاذاعة الوطنية كان نجيب الخطاب وصالح جغام رحمة الله عليهما هما المتصدران للمشهد الاذاعي كنجمين من الطراز العالي … في اذاعة المنستير كان هنالك العديد من الاسماء علياء رحيم حبيب جغام رابح الفجاري فتحية جلاد السيدة العبيدي و نجاة الغرياني وشادية جعيدان رحمهما الله وغيرهم الذين يتداولون يوميا على مصدح منوعة الضحى… وكانت علياء اقربهم الى قلبي هي امرأة متمردة عصامية وتحمل نفسا مغايرا وهذا ما اعشقه في الفرد عموما … ولذلك هي ايضا عانت كثيرا ولكنها لم تنثن …لانّها شامخة واصيلة … كنت كذلك اتنبأ بمستقبل واعد لمنشطة مبتدئة انذاك (الفة العلاني) طالبة حقوق وقتها ومتعاونة … وكم كانت حسرتي شديدة عليها عندما غادرت هذا الميدان لاسباب اجهلها تماما …

في اذاعة صفاقس ونظرا إلى عملي اليومي في الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار كامل ايام الاسبوع انذاك، لم تُتح الفرصة لزملاء آخرين حتّى ينالوا حظّهم وتلك كانت من النقاط السلبية التي طبعت مسيرتي رغم انفي .. كان بامكان الادارة انذاك ان تفكّر في اخرين الا انّ منطق (لا نغيّر الفريق الرابح) وتشبّث ايّة ادارة بالربح الآني دون التفكير في المصلحة العليا للاذاعة، حال دونها ودون مجرّد التفكير في هذه النقطة… فالمسؤولون عموما وفي ايّ قطاع يفكرون في اليوم فقط .. اتذكّر جيدا احد المديرين في الاذاعة وانا اعرض عليه مقترح التفكير في غد اذاعة صفاقس كيف يجب ان نعتني به استشرافيا.. اجابني ربما دون وعي منه ولكن كانت الحقيقة (احييني اليوم واقتلني غدوة)… معنى ذلك وهو المعمول به لحد الان في جل القطاعات المهم تلميع صورة المسؤول وتلميع انجازاته في تلك المرحلة حتى ولو كانت من نوع الـ”ان بي كا”، سرطان الفوسفات في قلب مدينة صفاقس …او بورقيبة رئيسا مدى الحياة … وهذه لمعلوماتكم اوّل من صدح بها في احد مؤتمرات الحزب هو مدير من مديري اذاعة صفاقس…. فعلا شأنه هو ايضا مدى الحياة لحدود السابع من نوفمبر (بات ما صبح) اي دخل الثلاجة مدى الحياة …

في اذاعة صفاقس كانت هنالك اربعة اسماء تحتلّ مكانة جماهيرية… عبدالكريم ابتسام ابو سهيل وبدرجة اقل عبدالجبار العيادي ..الا انّ انتظام الكوكتيل يوميا في دورية البرمجة جعله الاكثر حضورا … ابتسام المكوّر كانت ومازالت من اقرب المنشطين اليّ … كنّا ومازلنا نحمل عديد الثوابت المشتركة وحتى العيوب المشتركة (ياما عملت فينا نرجسيتنا) وللحديث عودة … كلّ ذلك جعل بعض الزملاء غير مرتاحين لهذا الوافد الجديد على اذاعة صفاقس خاصة وهو لا يتردد لحظة واحدة في التعليق على اي حدث دون نفاق او قفافيز… كنت (فرشك نيو نيو من فرنسا) متشبعا بحرية التعبير دون خوف او وجل لذلك لم ار يوما ما اي حرج في ان ابدي رايي في كل ما يحدث داخل اذاعة صفاقس مهنيا او نقابيا او علاقاتيا ..

هذا قرّب اليّ العديد من الزملاء لكنّه في نفس الوقت جعل من القليل منهم في موقع احتراز اوّلا ثم في موضع قلق ثانيا واخيرا في حالة حرب ثالثا ..اذ كيف لهذا الوافد الجديد ان يلتفّ حوله من كانوا بالامس لا يثقون ولا ينصتون الا في زيد او عمرو …رغم انني كنت اؤكد دوما انّني في طموحاتي بعيد كل البعد عن منطق الزعامة لأي هيكل مسيّر في اذاعتنا …الا ان زيدا وعمروا وشلّتهم كانوا يرون في موقفي هذا (خطابا وقتيا) وهو للاستهلاك فقط … غير انّ التاريخ اثبت في ما بعد انّي كنت نزيها مع نفسي … وحتى اشرافي على اذاعة الشباب سنة 1988 واشرافي على مصلحة البرمجة باذاعة صفاقس ثم تكليفي بمصلحة الانتاج التلفزي بوحدة الانتاج التلفزي بعدها، انتفت فيه رغبتي تماما واقسم بكل المقدسات اني لم ارغب فيها ولم اعمل عليها بتاتا … وستاتيكم تفاصيل ما حدث في ورقات لاحقة … اذن انقسمت اذاعة صفاقس في علاقتي بالزملاء الى ثلاثة اصناف… صنف اوّل وهو متواجد في كل الازمنة حدّو حد روحو لا يهمّو لا خلات لا عمرت الخبز مخبوز والزيت في الكوز… صنف ثان رأى في عبدالكريم نفَسا جديدا بكلّ المقاييس واغلبهم من الفنيين والاداريين والموسيقيين… وصنف اخير يرون في عبدالكريم ذلك الذي يهددهم اما مهنيّا او في زعامتهم …

في اواخر السنة الثانية من وجودي باذاعة صفاقس حدثت اشياء كثيرة وهامة جدّا… في 21 جويلية 1982 رزقني الكريم باوّل مولودة لي (كرامة)… كانت سعادتي لا توصف … محيطات وسماوات سبع واراض سبع بحجم سعادتي جاءت ليلة عيد فطر فاحتفل العالم الاسلامي بقدومها وكأنه اراد ان يهمس لي بكل حب ما اسعدك بعيد الكرامة … ما اروع ذلك الاحساس .. كلّ ما اذكره والحال صيف اني اشتريت لكل العاملين ليلتها بالمصحة مثلجات … كنت كطائر السنونو الذي يحلّق وهو في مكانه من وجع السعادة اللذيذ… اسالكم بالله هل هناك سعادة في الدنيا تضاهي سعادة ان تكون ابا او امّا لأوّل مرّة ..؟؟؟ مع اعتذاري الذي لا حدود له للذي حُرم من هذه السعادة… كان عيدا ليس ككلّ الاعياد… عيد عاد بكل الوان قوس قزح الجميلة وبكل طعم السعادة السعيدة… ايه يا كرامة لو تدرين … ايه يا يوزرسيف لو تدري … ايه يا عالم لو تدري …

الحدث الثاني في بداية تلك السنة … 3 جانفي 82… وفاة الاخ العزيز جدا على قلبي الفنان الاول في تونس بالنسبة لي وبكلّ المقاييس، محمد الجموسي … مرضه في البداية لم نحسب له حساب الموت… كنت زرته وهو في مصحة التوفيق (السلامة حاليا) وكنت سجلت له حوارا تلفزيا قصيرا سائلا عن صحته… وما زلت اتذكّر وجهه الباسم وهو يردّ عليّ بخفّة روحه وانا اسأل عن حالته ليقول: {خويا عبدالكريم موش طلع عندي مقطع حجر في الكلاوي!}… كانت تلك اخر كلمات اسمعها منه… بعدها تدهورت حالته بشكل مفاجئ وتحوّل اثرها الى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة ليشرف على علاجه “الدكتور الجدّ” واحد من ابرز الاسماء الذي مرّت على قسم الانعاش كفاءة وحضورا دائما به …

كنّا نزوره بشكل يومي وهو في غيبوبة تامة الى ان انتقل الى رحمة الكريم … كانت وفاته الما كبيرا لكل الناس لانّه كان حبيب كل الناس في اذاعة صفاقس… وهو من القلائل الذي كان حبيب الجميع لأنّه كان حبيب الفن من قمة راسه الى اخمص قدميه… ولانّه وكما غنّى (عمري للفن)…وحتى قصة تلك الفتاة التي تعرّف عليها في اواخر حياته ويبدو انه قرّر الاقتران بها، كان فيها الجموسي الفنان الانسان الرقيق الصادق الجميل … رحل الجموسي وكان حتما عليّ ان اُخلّد رحيله بحصّة خاصّة به… حصّة خلّفت مشاكل لي في ما بعد لأن البعض من ابناء الحلال لم استدعهم للادلاء بدلوهم في مسيرته… فاعتبروا ذلك جريمة في حقّهم وحين التآمر عليّ لابعادي من اذاعة صفاقس وجدوا الفرصة سانحة ليغرسوا انيابهم فيّ وبكل شراسة …ربّي يهديهم وانا مسامحهم …

لم تمض ايام على وفاة الكبير محمد الجموسي ودفنه بمقبرة الهادي شاكر بطريق تونس حتى دُفن بجانبه من قام بتأبينه …انّه محمد قاسم المسدّي مدير اذاعة صفاقس الذي تُوفّي في حادث مرور مع والي صفاقس ايضا في طريق عودتهما من تونس العاصمة بعد ان كانا في مهمّة … رحمهما العزيز الرحمان … اثر ذلك كان لابُدّ من مٌعوّض للمرحوم المسدّي في انتظار تعيين مدير جديد، فكلّفت الادارة العامة الزميل محمد الفراتي رحمة الله عليه رئيس مصلحة الاخبار انذاك باذاعة صفاقس بخطّة مدير بالنيابة على راس ادارتها لتسيير شؤونها اليومية اداريا …ومعه بدات اولى حلقات المعاناة …

واذا كان حليّم ونزار يقولان في “رسالة من تحت الماء” (لو أني اعرف خاتمتي ما كنت بدأت) فانا اقول: لو كنت اعرف خاتمتي لكنت بدأت وبدأت واعدت… الم اقل لكم ان الحياة علمتني فيما علمتني ان الواحد منّا دون معاناة والم هي حياة فاقدة للنكهة ؟ ما معنى ان لا نسير حفاة على الرمل حتى نقبّل ولو بارجلنا اصلنا ..؟؟؟ السنا من تراب ؟؟؟ ما معنى ان نتبرجز في كل طقوس حياتنا …؟؟؟ كيف نحسّ انذاك بالفقير ؟؟ باليتيم ؟؟ بالملهوف ..؟؟؟ دعوني هنا اذكر مثلا واحدا في حياتي المهنية … كان بامكاني وانا في تنقلاتي لتسجيل “مع احباء البرنامج على عين المكان” ان اتمتّع وظيفيا بالسيارة الادارية وبمنحة الإقامة في اقرب نزل للمكان الذي اعمل به… لكنّي كنت افضّل ودون ايّ تردد ان ابيت مع المستمعين وهم يفتحون بيوتهم البسيطة واحضانهم الكبيرة لينعموا حسب قولهم بحلمهم الاكبر والذي كان بالنسبة لي الواجب الاكبر… كنت اراني وانا على حصير وفوقه جلد كبش اسعد الناس …

اتذكّر جيّدا زيارة لن انساها لاحد مستمعيّ (محمد كمال بن سالم) بمنطقة الماي جربة… هو صديق مُعاق اليدين والرجلين وكانت رسائله لي رغم اعاقته من اجمل الرسائل شكلا ومضمونا… يوم زرته لم يكن مصدّقا بالمرّة بأن هذا الذي ذاع صيته موجود لا فقط ببيته بل جالس على الارض بجانب سريره… كانت سعادته يومها لا يمكن ان تمُرّ دون ترك اثر على لسانه … صدقا لقد خرس الرجل … عجز محمد كمال عن الكلام لكنّ عينيه كانتا تقولان اشياء واشياء …ولانّه كان ثملا دون النبس بأية كلمة، قلت له هامسا: وماذا ستقول لو اعلمتك بأني سأبيت الليلة بجانبك افترش ذلك الجلد الصوفي ونسهر معا ونتسامر؟؟؟… وقتها تكلُم محمد كمال وقال (بعدها مرحبا يا موت)… وبتّ بجانبه ليلتها واستجاب الرحمان لرغبته… اذ توفي فعلا بعد ايام …

الم اقل لكم انّ الحياة جغرافيا لكلّ المتناقضات بما في ذلك الحياة والموت ؟؟؟ هنيئا لكلّ واحد منّا يحبّ الانسان … يحب الحياة بسهولها وتضاريسها بحلوها ومرّها اذ هي بالحلو بتمرّ بالمرّ بتمرّ ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 66

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

السنة الاولى من الكوكتيل شهدت تغييرات جذرية في حياتي الشخصية منها والمهنية … منذ سفري الى فرنسا، نصحني الاصدقاء والمقربين بفتح حساب ادخار بنكي سكني .. من اجل ضمان محلّ للسكنى (قبر الحياة) كما يسمونه هنا في مدينتي …

عبد الكريم قطاطة

هو من الاولويات في فلسفة الحياة لدى العائلة الصفاقسية … لذلك وعندما يتقدّم اي شاب لخطبة فتاة يُطرح السؤال الاول: عندو دار ؟؟… ثمّ تاتي الاسئلة الاخرى (اشنية خدمتو ..؟؟ عندو اخوات بنات .؟؟؟) ..وهذا سؤال مفصلي لان اخواته البنات منظور اليهن كآفات (اخت الراجل عقرب في الطاجن)… ومن جهة مضادة تصبح (مرت الخو عقرب في الدلو)… من تلك الزاوية جاء التفكير في فتح حساب ادخار سكني ببنك الاسكان …الا انّ الثلاث سنوات التي قضيتها في دراستي بفرنسا، ومرتباتي التي كانت تدخل بشكل كامل في حسابي البنكي… لم تكن لتفي بالمبلغ المأمول لامتلاك منزل ولو متواضع…

المرتبات انذاك كانت لا تتجاوز الستين دينارا ..وما ادخرته من عملي بفرنسا اقتنيت به اثاثا وملابس فقط ..في الملابس لابد من الاشارة اني ( تحلّيت طول وعرض)… لم اكن ذلك “الصّفق” الذي يدّخر الملاليم ولا الدينارات ولا مئات الدينارات ..لم اكن يوما (قرنيطة) في جمع المال ..بل كنت بالعكس (اكبر فلاقة) في تبذيره ..كنت مغرما بشراء افضل الملابس لي وللعائلة ولخطيبتي ولخطيبة صديق عمري رضا … صديق عمري هذا يوم حمل الادباش الى منزله في عرسه، كان العديدون وبمزاح يقولون (يخخي فلانة واخذة رضا او صاحبه؟!) … وكنت انا المقصود، نظرا إلى الكمّ الهائل من الملابس التي اهديتها ايّاها… كيف لا وهي خطيبة اخي؟ …

ومن صدمات حياتي انّها وبعد الزواج اي بعد ان تمكّنت من صديقي، اصبحت حياتي معهما عبئا ثقيلا عليها… هي من صنف التي تريد التملّك الكلّي بزوجها دون ان يقاسمها احد فيه ولو كنت انا …كنت في منتهى التعاسة من هذا المآل ..وكان عليّ ان اتصرّف بحكمة ….دعوته يوما للقاء على انفراد ..ذهبنا معا على شاطئ بحر سيدي منصور واعلمته بقراري النهائي …لابد ان اخرج من حياتك… زوجتك حامل وأنت ستصبح ابا وهي لا تحتمل ايّا كان في علاقتها بك… لذلك ومن اجل سعادتك يجب ان انسحب …كان لقاء الدموع والصمت …ما ابشع لقاءات الخيبة، ما ابشع حوارات الخيبة ما ابشع الكلمات التي تخرج بمرارة …تختلج طويلا في الحلوق وكأنها تعلن ولادة مأساة … وخسرت صديقي الى الابد ..

لم ادّخر اذن في فرنسا الا ثمن السيارة التي عدت بها وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف دينار وبعض القروش … من جهة ثانية، وعند عودتي بديبلوم درجة ثالثة علوما سمعية بصرية من دراستي والذي وقعت معادلته حيفا وظلما باربع سنوات تعليما عاليا عوضا عن ستّ… والذي كذلك وقع تصنيفي بمقتضاه في المعادلة ضمن سلك مهندس اشغال دولة وهو ما لم اقبل به يوما… ونظرا إلى تمسّكي بحقّي ان اكون ضمن سلك المخرجين التلفزيين كما ينص الديبلوم… ونظرا ايضا إلى تمسّكي برفض العودة لتونس العاصمة اي للمؤسسة بعد تجميد مشروع النواة التلفزية للانتاج بصفاقس …كل هذه العوامل جمّدت وضعيتي المهنية ماديا وكأنني لم ادرس بفرنسا، وكأنني معاقب على اشياء لم اقترفها بتاتا ..

تصوروا فقط ان فكّ عقدة هذا الاشكال لم يتمّ إلاّ بعد 11 سنة… اي سنة 1990… والفضل في ذلك يعود لشخصين كانا من اصدقائي قبل ان يصبح اولهما رئيسا مديرا عاما للمؤسسة: الصديق صلاح الدين معاوية … شكرا وألف رحمة خويا صلاح… والصديق مختار الرصاع الذي اصبح مديرا للتلفزة التونسية انذاك… شكرا خويا مختار… هذان وبعد عشرات الرسائل التي وجهتها للادارة العامة لتسوية وضعيتي وتمكيني من حقوقي الضائعة، والتي لم اتلق عليها ولو ردّا بالنفي او الايجاب .. هذان هما اللذان اخذا الامور بكل جدّية وسرعة وقاما بتسوية وضعيتي (دون مفعول مادي رجعي) …وهذا يعني “ملاين” حُرمت منها …

نظرا إلى كل ما اوردته وجدت نفسي في نهاية سنة 1980 وبالتحديد في بداية اكتوبر، في مفترق طرق …السن 31 سنة ..فترة الخطوبة طالت (5 سنوات) والامل في الحصول على قبر الحياة ضئيل للغاية … بين عشية وضحاها وجدتني امام هبلة من هبلاتي ..فليذهب مشروع قبر الحياة للجحيم وليكن العرس بعد شهرين على اقصى تقدير …فوجئت العائلتان بقراري ولكنهما لانهما تدركان انّي قراقوش في مواقفي، قبلتاه على مضض …طبعا بعد تلك الاسطوانات من فصيلة (كيفاش ما حضرنا شيء ويصير هكة في شهرين ..؟؟ اش يقولو علينا الناس ..؟؟ علاش تغصر فينا اش عملنالك؟؟؟)… كنت استمع فقط واكرّر: (العرس سيكون نهاية نوفمبر)..

وكان لي ذلك وكان حفل زفافي يوم 30 نوفمبر 1980 … تسوغت منزلا فخما (فيلا) واثثته بالكامل واقمت كل مراسم العرس من سهرية للاصدقاء المقربين وكل واحد وشربو… الى حفل يقيمه العروس للاهل (عوّادة) الى نزول بكل تفاصيله ثم يُختم بالحفل الرسمي للجميع بافضل صالة افراح انذاك (صالة البلدية) كيف لا والحفل عروسه المنشط (اللي قدّ الدنيا) كما يقولون… عبدالكريم ..؟؟ مما اذكره في حفل زواجي انذاك اني كنت اوّل من رفض ان يسوق سيارة العروسين ايّ كان ..كنت ارفض ان اكون ذلك السلطان بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة… كنت اريد ان اكون سلطانا على طريقتي… لا ذلك الذي تجرّه العربة الكبيرة والسائق المسكين الذي يضرب بعصاه الجوادين وهو يهمس بين جنباته (بلعن بو هالخدمة نقولشي عبد عند سيادتو) …

كنت ارى في ذلك اهانة لذات الانسان ..سائق السلطان … سائق الوزير ..سائق الرؤساء والملوك …. لماذا وهبهم الله تلك الايدي ..؟؟؟ وحتّى لو كانوا مرهقين من شدة المشاغل …لماذا يلجؤون الى المقاعد الخلفية ..؟؟؟ اليس في ذلك احتقارا للذات البشرية ؟؟؟ تماما كذلك المواطن الذي ياخذ سيارة تاكسي ويسقط على ذاته صورة المتجبرين وياخذ مكانه في المقعد الخلفي ودون حتى اية نظرة احترام لسائق سيارة الاجرة… وما يخسر عليه كا ن يقوللو العويّات …او حيّ البحري …لا اشكال ان نكون من سكان الاحياء الفقيرة بل كل الاشكال ان تكون نفوسنا فقيرة ورخيصة …

وتمّت مراسم الزواج على احسن حال ..كيف لا وانا قد سحبت كل المبلغ الذي ادخرته لمدة ثلاث سنوات … وهنا لابد من التأكيد على امر مهمّ جدا في ما حدث …كما ذكرت لكم لست من اولئك الذين قال فيهم الشاعر (يا عابد المال قلي هل وجدت به… روحا تواسيك او روحا تواسيها )… ولست ايضا من عشاق المظاهر في كل شؤون حياتي حتى يُقال عنّي (ملاّ عرس عملو فلان شيء يفتّق)… بل كان كلّ همّي ان اُسعد عيادة بفرح وليدها كما حلمت به… وعيادة رحمها الله تحب كل شيء بالفرننو… وفي نفس الوقت اسعد عائلة خالي حيث ابنته الوحيدة لابد ان تعيش فرحتها كما تشتهي ..

لهذه الاسباب وقع انفاق كل المال المدّخر … وخرجت من “المولد” (لا عاد موش بلا حًمّص) بل بهناء وراحة بال وبسعادة وهّاجة لمن ذكرت ..لامعة براقة في اعينهم …

وبدأت مشوارا جديدا في حياتي …عبدالكريم المنشط الزوج …هي فرصة لأتقدّم بعبارات العرفان الى زوجتي التي ضحّت معي بالكثير وعلى حساب حياتها ..البرنامج كان يتطلب منّي يوميا 16 ساعة عملا، اعداد ومونتاجا وتنفيذا وخاصة قراءة رسائل ..ايّة زوجة منذ الشهر الاول من حياتها تعيش شبه طلاق مع زوج منغمس للعنكوش في عمله؟ … اية زوجة تحملت ومازالت (وبكل فخر واعتزاز ) العشق المجنون للمعجبات بزوجها …سألها مرة احد الصحفيين عن هذه المسألة فاجابت بكل ثقة وصدق (هات لي اي واحد منكم لا يعشق فنانا ما او فنانة ما … اذن اين الاشكال ..؟؟ عشق الاخرين والاخريات لزوجي يعني انه ناجح في عمله وذلك مصدر سعادتي)… وتضيف: .انا اسعد زوجة في الوجود لاني احب زوجي جدا ولانه لم يرفع صوته يوما عليّ ولم يتفوه طيلة زواجنا بأية كلمة نابية او سبّة معي ولا مع اطفالي ..والذي على الجميع ان يعرفه انه في الاخير يدخل الى بيتنا ويُغلق الباب دون الجميع …. ثم تضيف وبدموعها: يا رب اجعل يومي قبل يومه …

شكرا منية على صبرك شكرا على سعة بالك وعذرا ان قصّرت في حقك ولكن تلك هي مهنتنا وذلك هو قدري و قدرك …

في نهاية تلك السنة ايضا ونظرا إلى لنجاح الجماهيري الذي حظي به الكوكتيل بدات اشعر بتضايق البعض من الزملاء منّي ولكن بشكل خفيّ… لكنّ هذا لا ينفي وجود بعض ممن ربطتني بهم علاقات ممتازة جدا وعميقة جدا وناصعة البياض …لعلّ في مقدمتهم جل التقنيين الذين كانوا يقدّرون نوعية عملي وحرصي الشديد على الاتقان والجودة منا جميعا ..كذلك جل الاداريين والموسيقين الذين رأوا فيّ اسما يمكن ان ينافس وبجدية اسماء المنشطين بالاذاعة المركزية وفي ذلك فخر لابن مدينتهم واذاعتهم …

بعض المنشطين وفي مقدمتهم انذاك الصديقة والزميلة ابتسام المكوّر …كانت من المعجبات بحق وصدق بعبدالكريم المنشط والانسان… وكان نفس الموقف منّي تجاهها لانها بالنسبة لي تُعدّ انذاك وحتى خروجها من اذاعة صفاقس، واحدة من افضل المنشطات للبرامج الثقافية في المشهد الاذاعي التونسي دون ايّ جدال …علاوة على علاقة الصداقة العائلية التي ربطتني بزوجها ذلك الرجل المحترم جدا والنقي جدا (خويا التوفيق المكور) والذي كلما وقع سوء تفاهم بيني وبين ابتسام الا وكان دوما من جانبي …

مقابل ذلك كنت ارى وجوها لبعض الزملاء يصعب انذاك فك شفرتها …انا من الذين يؤمنون بأن بعض الظن اثم اذ انّي كلما رايت تجهما في وجه زميل ما اُرجعه الى مشاكل حياتية يومية خاصة به كسائر الناس …وابدا في البداية ان اقرأه كموقف مبطّن منّي … الا انّ ما وقع لي قي السنة الثانية من عمر الكوكتيل كان مغايرا تماما لقراءاتي وتوقعاتي …كانت هناك مقالب تُطبخ على نار هادئة وتنتظر الساعة الصفر لتنفيذها… للتخلّص من عبدالكريم اذاعيا وبشكل شيطاني… وكلّ لحسابه الخاصّ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“صعيدي” في الألعاب الأولمبية!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

في باريس، انطفأت أنوار لتضاء أخرى… ودعنا ألعابا أولمبية صيفية للأسوياء، وجاء الدور على ألعاب أجمل وأنبل: ألعاب بارالمبية… أولمبياد مواز… ألعاب أولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة.. التسميات متعددة والكائن واحد، رائد، صامد.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

هي بعدُ الألعاب الأولمبية “العادية” حزمة تحديات تحضر فيها الموهبة والعمل والذكاء والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والصراع الأزلي بين الإنسان والطبيعة… الطبيعة في حدود الجسد البشري التي لم تتوقف عن الاتساع ولو بالسنتيمتر، ولو بكسور الثانية، ولو بما لا يطاق من تحمل وتنفس ومغالبة للتعب والوجع وعناد الآخرين، منافسين وأعلاما وأناشيد وطنية… الطبيعة في قوانين الجاذبية وهبوب الرياح وهطول المطر وصلابة الأرض التي نجري فوقها…الطبيعة في تيارات الماء التي لها نزواتها ومطلوب من الحفناوي والملولي وغيرهما، مقاومتها مقاومة محرك ديزل بعشرة خيول حتى يفلتوا من سطوتها…

والطبيعة أخيرا في طبائع أفراد اللجان وسياسات الحكومات وتكييف الرياضة لخدمة الأقوى ولو كال بمكيالين… فإذا بمئات الأبطال الروس يُحرمون من الألعاب وتٌحرم منهم بدورها وهم الذين كانوا يكملون اللوحة برشاقتهم وعطائهم اللامحدود، ويعتلون جدول الميداليات ولا يبزّهم أحد في بعض التخصصات… وكم كان مؤسفا غياب الرائعة “إيزنباييفا” أو من يخلفها في القفز بالزانة مثلا… والسبب حرب لا ناقة (بل لا “دب”) لهم فيها ولا جمل… ولا نجد من يعامل بنفس المقياس “رياضيين” سيعودون فورا بعد الألعاب إلى ثكنات ودبابات وطائرات تقصف أهالينا في غزة أطفالا ونساء وكل من يتحرك هناك ولو كان رضيعا، ولو كان جنينا في بطن أم…

هذا عن أولمبياد الأسوياء… فما بالك بالدورة الأخرى التي تقام بنفس المكان ونفس الاحتفال ونفس الأمم ونفس البروتوكول… ولكن مع أبطال أعيق من أجسادهم بعض أو كلّ، ويسابقون ويقاتلون ضد ما ذكرناه أعلاه من تحد، يضاف إليه تحدي النقص الذي حُكم به عليهم، ومطلوب منهم مع ذلك أن يراهنوا وأن يتفوقوا وأن يحملوا على أكتافهم المظلومة رايات شعوب وأحلامها… وأن يصعدوا حيث منصة الميداليات أخيرا … وأن يفرحوا ويُفرحوا، ولكن بعد أي جهد وبعد أية تضحية!… ومطلوب منهم أن يحطموا أرقاما وقبلها أغلال وُلدت معهم … فإذا الصرخة آتية من أفئدتهم ومن جمهورهم ومن معلق منبهر بما يأتي به هذا الكائن المليء ضعفا وحتى تشوّهات مفروضة عليه: اخلع نظّارتيك ما أنت أعمى.. انهض وسر في سبيل الحياة… ستعيش نسرا رغم كل داء!

ثم وهذه مباراة أخرى بين الشعوب والدول والمنظومات… بين حال المعاق في بلد، وحاله في بلد ثان… بين مدللين مرفهين مرعيين رعاية كاملة تحرسهم مؤسسات وجمعيات وقوانين وتمييز أكثر من إيجابي… وبين آخرين لم يكفهم ظلم القدر الذي سلبهم بعضا من الحواس أو الأعضاء، فإذا به أيضا يُسقطهم في بلاد لا أهمية فيها لإنسان سويّ ولا معاق… حيث الحياة صعبة على الكل، وحيث الإهمال هو القاعدة، وحيث المعيشة أقرب ما تكون إلى ظروف الغابات…

إذن هو “تحد ثالث” ما يخوضه أبطالنا وبطلاتنا في ميادين باريس… نحن الذين رياضتنا بلا نسب ولا وليّ أمر… يطلع فيها الموهوبون كأزهار البرّ لا أحد يزرع ولا أحد يسقي ولا أحد يحمي… وكم يضحكني المتحدثون اليوم عن مراكز التكوين عندنا وكأنهم يخوضون في سيرة بلد آخر… عن أية مراكز تكوين يهذون؟ وما نُشر عن المركز “الوحيد” ببئر الباي ذات مرة، يصيبك بالهزيمة قبل أن تبدأ يومك… عن أية مراكز تكوين يخرّفون ونحن مركز تكويننا الوحيد هو حانوت الجربي الذي كان يبعد 20 كلم عن منزل أسرة محمد القمودي… وبفضل الركض المزمن والمفزوع بين النقطتين، وُلد عندنا واحد من أفضل عدّائي العالم والتاريخ… وما تزال تلك هي بنيتنا التحتية اليتيمة، ما تزال…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار