جور نار
ورقات يتيم … الورقة 43
نشرت
قبل 11 شهرفي

عبد الكريم قطاطة:
بعد ثلاث سنوات من استقراري بتونس العاصمة كشابّ في بداية مسيرة حياته، لم تكن شؤون حياتي مستقرة ماديا بالمرّة ..اذ اثر انتهاء الدراسة بمنحة قدرها 30 د تماما كمنحة اي طالب انذاك وبعد تخرجي، جاء اول مرتّب في حياتي وهو الذي لم يتجاوز 40 د ليسدّ في اغلب الاوقات بعض حاجيات العيش هنالك ..

هنا لا بد من الاشارة إلى امر هام جدا وله ابعاد كبيرة في رؤيتي للمال ..اوّل مرتب في حياتي ويوم قبضته اودعته ليلة كاملة في حاوية الزبلة .. نعم في حاوية القمامة …كانت ومازالت لي رؤية عدائية للمال …ربّما لأني عشت في عائلة معوزة ولم اجد حاجتي عند حاجتي له طيلة طفولتي وشبابي … ربّما لأن احببتها في مراهقتي او هكذا توهّمت باعتني من اجل حفنة مال ..ولكن ومع تقدّم العمر تيقنت انّ من يلهث وراءه انّما هو يلهث وراء سراب ..(“يا عابد المال قل لي هل وجدت به .. روحا تؤانسك او روحا تواسيها .. انظر الى النار انّ الفتك عادتها .. لكنّ عادتها الشنعاء تّرديها” / ايليا ابو ماضي) …
اشكال جل البشر انهم اعتبروا دائما المال غاية وليس وسيلة للعيش فاشقاهم اكثر مما اسعدهم …لأن صاحب الدينار قد لا يفيه الدينار لقضاء حاجته الا ان صاحب المليار اكثر تعاسة ..لأنه ببساطة لن يّحس بالراحة يوما ..فهو لن يكتفي اولا بالمليار لانه يريد اخا له واختا ويدعو الله ان يرزقه بتوائم من صنفه ..من جهة ..ولكن الاتعس انه يعيش طيلة حياته عسّاسا على ملياراته خوفا من منافس ينهبها …ومن ثمة تبدا الحرب اليومية بينه ومنافسيه لتتحول الى كوابيس في مرحلتها الاولى ثم لتنتهي بسرقات موصوفة وغير موصوفة وجرائم متعددة التوصيفات ..ويكفي لنتأكّد ان نُطلّ من كوّة صغيرة على ما حدث منذ قارون ويحدث الى يوم البعث من حروب وجرائم تُرتكب في حق البشرية والتي مصدرها وهدفها المال ..
انظروا الى الحروب ..انظروا الى مستنقعات الاقتصاد وحقوق العمّال المسروقة ..انظروا الى دول البترودولار كيف تتدخّل في شؤوننا ..انظروا الى تركيا واوردوغان والحلم العثماني تُصدّر لنا “الڨليبات البيضاء” وهي تُخفي قلوبها السوداء التي تُضمر لنا اياما اكثر سوادا من قلوبها ..ويتعامى العديد من ساستنا اللصوص على ابسط واتفه سؤال ..هل نحن في حاجة لاستيراد تلك الڨليبات التي لا تزيد قلوبنا الا تبلّدا وكسلا .؟؟؟.لو احد يمنحني الامان وها انا امنح لنفسي الامان… (من غير مزية حدّ) …لقلت لهم ..لساستنا الاعزاء… يا أللّه ما احوجنا الى نظام داعشي يقطع رؤوسكم (سياسيا لا بشريا) ويرمي بها في اسطمبول او انقرة وهنيئا لكم بالڨليبات بيضاء او زرقاء او بنفسجية ..المهم ان نستريح منكم ومن وجوهكم الكالحة المالحة … عودوا الى تاريخ الامبراطوريات الاستعمارية …وحتى تلك التي نتغنى بها نحن العرب والمسلمين من خلال مقولة هارون الرشيد وهو يخاطب مزهوّا بعرشه على الدنيا، سحابة تمرّ في السماء بقوله (امطري انّى شئت فخراجك آت اليّ) .. اليس كل ذلك من اجل تكديس المال ..؟؟
في حين ان ابسطنا علما بالقرآن لم يتفطّن الى آية من اعظم آيات الله في كتاب الحق (المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّه).. اي نحن في الاخير لا نملك شيئا .. الم يتفطّن لها اوناسيس اثرى اثرياء اليونانين وهو على فراش الموت عندما قال (خذوا كل ثروتي ودعوني اعش) ..؟؟ الم يتفطن لها قوم موسى وهم يتمنون لو كان لهم نصيب من ثروة قارون ….وعندما خسف الله بقارون وبثروته استفاقوا من غفوتهم واستغفروا ربّهم ..دعونا نتفق بأن المال قوام الاعمال وبأن نكران حاجتنا اليه ضرب من ضروب السريالية .. ودعونا نتفق ان للفقر مصائبه وتعاسته …وهو الذي قال عنه علي رضي الله عنه (لو كان الفقر رجلا لقتلته) رغم ان البعض ينسبها لعمر ابن الخطاب ..ولكن ان يتحوّل الى غاية فذلك عندي اكبر همّ من هموم الانسان …
الاربعون دينارا كجراية لم تكن كافية بتاتا لكي اعيش عيشة سوية ومتوازنة في العاصمة… فعلاوة على مصاريف الكراء والملبس والمأكل، كنت لا احسن التصرّف بتاتا في جرايتي ..وها انا وبعد كلّ هذا العمر على سليقتي …ويبدو اني ساغادر هذه الحياة وانا مدين للبعض بما اقترضته منهم …وليطمئنوا …وصيتي في هذا الامر جاهزة لأبنائي حتى يفعلوا ما لم اقدر على فعله ..وكلّي ثقة في برّهم بي وعدم خذلاني… لأني لم اخذلهم ولم ولن اخذل كل من وعدته بأن لا اخذله …بعبارة اخرى عشت في تونس باسلوب (كبّوس هذا على راس هذا) لكنّي وكلّي فخر اقول… لم اكذب على ايّ احد ولم اسرق حتى رغيف خبز ولم احنث في وعودي متى قدرت على تسديدها ….كنت ابيت احيانا على نصف باڨات و”طابعين شكلاطة” كعشاء ..وكنت كما تقول احدى الجارات رحمها الله وهي تعاتب ابنها الشرّيب: ° في النهار عروس وفي الليل قطّوس°…
لهذه الاسباب كنت كثير التنقل في المسكن ..اما لحاجة صاحب المسكن لمنزله … او للبحث عن سكنى اقل تكلفة في الكراء ..وربّما من المساكن التي عمّرت فيها بالعاصمة ..استوديو ابن خلدون طيلة الدراسة ..ومنزل بنهج الراس الاخضر وراء معهد بورقيبة للّغات الحية بشارع الحرية ..وآخرها واشهرها واكثر اعاجيبها منزل بنهج كندا والتي كانت تلقّبها عيادة رحمها الله بـ”دار العجايب” عندما تهلّ عليّ ضيفة انذاك وتكتشف يوميّا خُنّارها (اعني خُنّار كثرة زائراتها) .. ولكن لا بد من العودة الى مسكن نهج الراس الاخضر لما عشنا فيه من ايام وليال ..متسوّغه يعمل صانعا عند بائع قماش باحد اشهر انهج قلب المدينة ..بسيط او هكذا يبدو .بحبوح او هكذا يبدو .. كنا نقطن به اربعة وكلّنا من صفاقس كل واحد يجيب صاحبو… بعضنا من سلك التعليم …بعضنا الاخر طلبة في معهد الفنون الجميلة، احدهم ما قضّاه نائما في بيته اكثر مما قضّاه على مدارج المعهد ..موش هكة يا نوري ؟؟ رغم موهبته الكبيرة في دنيا الرسم ..وانا (زعمة زعمة) موظّف قد الدنيا في مؤسسة التلفزة واسمه يطلّ بشكل دائم على شاشة التليفزيون …(يا بمبك يا بمبك) …
عقد الكراء كان بيد ذلك الصانع في حانوت القماش …وهو الذي تحوّل بعد سنوات الى واحد من اثرياء تونس بعد زواجه بابنة ثريّ لست ادري كيف احبته (وللحب جنونه) ليبدأ مشروعه الصغير وليصبح كبيرا …طبعا بمفهوم الثراء لا غير ..وربّما ستفهمون ان امثاله من الممكن جدا ان يكونوا اثرياء عندما اقصّ عليكم هذه الحكاية.. صديقنا هذا كان المكلّف بقضاء كل ما يحتاجه المنزل من حاجياتنا اليومية (الاكل وملازم المنزل الضرورية) وكان اسبوعيا يقوم بقضاء تلك الشؤون ويسجّل ذلك في كنّش صغير ..وفي نهاية كل شهر يقوم بالجمع والقسمة ليدفع كل واحد منا نصيبه من المصاريف … في شهر ما، انتابني شك في حجم المصاريف ..لمّحت لبعض متساكني المنزل عن شكّي ..لقيت منه وعنده نفس الشكوك ..دخلنا غرفته وبحثنا عن كنّش المصاريف ..فتحناه ..عاينّا مصاريف الشهر المنقضي ..لم نجد اية زيادة في استحقاقتنا العادية لكل شهر …اسبوعيا حاجياتنا كانت مدوّنة دون زيادة ..اغلقنا الكنّش وهممنا بالخروج الا انّ شيئا ما اعادني الى الكنّش ..
لاحظت ان صديقنا يدوّن اسبوعيا تاريخ ذلك الاسبوع بالشهر والسنة ..لم افهم سرّ تأريخ ذلك في البداية ..اعدت النّظر هذه المرّة بكل تأمل وبدات مراحعة عملية جمع المصاريف ..ورغم ضُعفي المدقع في الرياضيات وجدت خللا في المجموع ..لكن الاغرب ان الخلل كان دائما بنفس القيمة … اعدت الجمع مرات وكان الخلل دائما بقيمة 1974…. هل فهمتم ماذا حدث ..؟؟ كان يضع قائمة المصاريف ويضيف لها اسبوعيا السنة والتي كانت 1974 ليصبح هذا العدد من جملة مصاريف ذلك الاسبوع … كان اوّل ردّ فعلي “مهفّ فريمون مهفّ!”.وانا هكذا اُعجب بالبصمة الخاصّة حتى ولو كانت سرقة … ولكن الى حين ..اطلّت بعدها عليّ نرجسيتي وقلت “موش وحدو مهفّ” او باسلوب ادبي خاطبت هذا المهف وعلى طريقة طرفة ..(ستُبدي لك الايام ما كنت جاهلا .. ويأتيك بالاخبار من لم تُزوّد) … اشعرت زملاء السكن بالمؤامرة الاسبوعية لصاحبنا اللص الظريف وعقدنا اتفاقا على ان يدفع الثمن “ثاني ومثلث”…
في منزلنا هاتف …والهاتف باسم صاحبنا ولا يستعمله احد سواه… كان يُقفله دائما بقفل حديدي (شرلّية صغيرة) وتحدّينا تلك الشرلّية واصبحنا نستعمل النقر (تماما كما فعلها خماخم مع الحكم) حيث نكوّن الرقم المطلوب بعدد النقرات فـ 2 تساوي نقرتين .. و5 خمس نقرات ..الخ …هل تذكرون عادل امام وهو يقول في احدى مسرحياته (حهرّيك) .؟؟….”هرّيناه” فعلا ..كل الارقام التي نعرفها وحتى التي لا نعرفها طلبناها …وهذه العملية الاخيرة بالذات تعرفنا من ورائها على عصابة فتيات هاي جدا ومتبرجزات جدا جدا من فئة “بونجورغ” في ذلك الزمن ..الا انّ عفرتتنا اخضعتهن لعرشنا و لصولجان الزيارات كمقررات …حيث نختلق كل سبت عيد ميلاد لواحد منّا وليس مهما ان لا يكون من مواليد ذلك اليوم ولا ذلك البرج …المهم ان يكون برجهن مقررات …يااااااااااااااااااااااه كنّا عالم صايع قوي … وكانت المؤامرة الهاتفية وبعد اطلاع صاحبنا على فاتورة الهاتف، آخر عهد لي بذلك المنزل ..حيث انتقلت بعدها الى نهج كندا وهو الذي لا يبتعد عن دار الاذاعة والتلفزة الا مائة متر ونيف …
عندما تسلمت مهامي في تلك السنة كمسؤول وكمنسق لقسم المونتاج عملت بكل مثابرة وجدّية ..حاولت ان اكون الزميل الصديق لهم جميعا لا اكثر ..واحمد الله اني لم اظلم احدا بل وهو الاهم كما احببتهم احبوني دون استثناء … في شهر اكتوبر من تلك السنة 74 ..حدث اشكال مهني خطير للغاية ..رئيس المؤسسة انذاك هو السيد صلاح الدين بن حميدة… وعلى عكس الذي سبقها ..(السيد ميمون الشطي الوديع جدا) …كان مُهابا بشكل خُرافي … اولا هو ذو كاريزما رهيبة جدا ..ثم هو في تلك الحقبة من المُقرّبين جدا للقصر الرئاسي ..وممن يحظى خاصة بدعم مزدوج من الزعيم بورقيبة وعقيلته وسيلة …بما معناه “يضرب يعور”… كان الجميع في المؤسسة يخافونه..يكفي ان يراه احدهم ينزل من سيارته في اتجاه مكتبه حتى تصبح الكولوارات خالية من روّادها ..
ذات يوم طلب منّي رئيس المصلحة مدّه بشريط وثائقي كنّا نقوم بمونتاجه حول حدث سياسي .. حتى تقوم التلفزة ببثّه ذلك اليوم ..اجبته بالقول: الشريط غير جاهز ولا يمكن بثّه اليوم بل يستحيل بثّه اليوم …هاتفني المدير التقني العام واشعرني بان السيد صلاح الدين بن حميدة مصر على بثّه اليوم ..اجبته: غير معقول بالمرة الشريط غير جاهز ..اتّصل بي رئيس ديوان السيد صلاح الدين وبلغة اكثر حدة قال لي: راهو سي صلاح يحبّو يتعدّى والبلاد ماهياش على ڨرنك يا سي قطاطة …كانت الساعة انذاك تشير الى منتصف النهار ..اجتمعت فوريا بزملائي واعلمتهم بتفاصيل ما حدث ..اشاروا عليّ بأنهم معي في كل ما اراه صالحا ..وانهم ودفاعا عن مهنتنا مستعدون لاي تصعيد ..
اعلمت رئيسي المباشر بموقفنا وانتظرت ردّه . قدم اليّ سي ابراهيم بوجه شاحب وطلب منّي الشريط لسي صلاح الذي امره بذلك ..قلت له ساحمله بعد حين لرئيس ديوانه ..قال لي تهنّيني..؟؟ اجبته كون متهنّي … اجتمعت بزملائي وقلت لهم ..انا ساقدم استقالتي ولست مستعدا لتسليم الشريط لأي كان …ولكم سديد النظر ..وكان الحدث الذي لم يحدث اطلاقا لا قبل ذلك اليوم ولا بعده ..الزملاء وبالاجماع قدموا استقالتهم معي … امضينا جميعا على الاستقالة وكلفوني باعطائها لرئيسي المباشر _ سي ابراهيم الغضاب اطال الله عمره… وغادرنا جميعا المؤسسة ..كنّا مدركين لأهمية قسم المونتاج في الاعمال اليومية للتلفزة… وخاصة شريط الانباء الذي لا يمر دون مونتاج نشاط الرئيس ..نحن لعبنا ورقة خطيرة نعم وكان حماسنا انذاك واندفاعنا من جهة، وتلك الافكار الثويرية التي احملها ويحملها امثالي من نوع (لا للاستبداد) و(لا للمسّ بنواميس المهنة) …هي التي جعلتنا نلعب ورقة استقالتنا …
و”دخلت بعضها”..الجميع يرتعش … فعلها ولد عيادة ..والاكيد لم يقولوا مثل هذا الكلام الجميل بل كانوا يشتمون ويلعنون (عملها الكلب بن الكلب ..؟؟ هذا اللي حسبناه موسى يطلعنا فرعون ….شوف يا سيدي اش يخرج منّو هاكة الفرخ ..؟؟) … هكذا اعاد عليّ بعضهم هذا الكلام في زمن متقدم …وماهي الا ثلاث ساعات حتى اصبحت سيارات المؤسسة تجوب شوارع العاصمة لتجلبنا من منازلنا لحضور اجتماع عاجل مع سي صلاح الدين الرئيس المدير العام للمؤسسة …
وصلت وكان جميع الزملاء في انتظاري.. كلّفوني بالتحدّث باسمهم وكلفت احدهم بالذهاب لخلية الاخبار التلفزية للقيام بعمله في شريط الانباء ..نظر اليّ باستغراب ..قلت له وللجميع سنثبت بهذه المبادرة اننا دعاة صلح لا حرب …دخلنا صالة الاجتماعات الخاصة برئاسة المؤسسة والتي لم ادخلها من قبل ولكنّها كم عانت من وجودي بين حيطانها منذ ذلك التاريخ حتى سنة 2013 ..جلسنا على مقاعدها الوثيرة في انتظار قدوم الكاريزما …يُفتح الباب… يدخل دون ان ينظر الى احدنا … غضب ساطع في عينيه ..شفتاه زرقاوان بمفعول التدخين وحوله الحاشية المتكونة من رئيس ديوانه سي الديماسي اطال الله عمره، رئيسي المباشر سي ابراهيم، المدير العام للتقنية سي منجي الشافعي وكاتب الجلسة المرحوم محمد قاسم المسدّي ..
جلس سي صلاح على مقعده الوثير جدا وألقى نظرة بانورامية علينا جميعا وسأل: وينو سي قطاطة ..؟؟ كنت على يساره ..اجبته.: انا سيد المدير …نظر اليّ باحتقار وقال: هو انت ؟؟؟ امّالا لو كان جيت اطول واسمن تعمل انقلاب في البلاد؟؟… صمتّ قليلا وقلت: سيدي المدير تسمحلي نفسرلك الموقف؟ …اجاب بغضب: اما موقف؟؟ تعرف اش معناها ما يتعداش شريط الانباء الليلة؟؟؟.. قلت له: نعرف سيدي المدير وانا كلفت واحدا من زملائي (محمد علي الرويدي) بالقيام بمهامو على احسن وجه … اووووووف تنفس موش الصعداء ..تنفس هيمالايا .. وعاد الى استعلائه وقال: معناها رجعلك شاهد العقل وماشي تعطيني الشريط ؟؟… اجبته: تسمح ببعض الدقائق لتفسير سوء التفاهم ؟..قال لي: تفضل هاني نسمع فيك ..اوضحت له بمنطق علمي لا جدال فيه ان مرور شريط على تلك الحالة في شاشة المؤسسة هو معرّة لنا… لك انت كأول مسؤول عنها …وللتلفزة التونسية ككل …
كان يستمع بانتباه كبير دون ان ينظر اليّ .. بعد ان اتممت توجّه الى المدير التقني العام وقال بلهجة جدّية: “سي المنجي انت ما قلتليش هالكلام …اهو عندو حق السيد” … ولانقاذ سي المنجي قلت له: تسمح سيد المدير بتعليق صغيّر؟ … استدار اليّ ورايت في عينيه شيئا من الرضى فأكملت: راهو موش انا اللي عندي الحق كل القسم هو اللي عندو الحق .. احنا صحيح ندافعو على مهنتنا اما زادة ندافعو على مؤسستنا واللي يمسّها يمسّنا سيّدي المدير …نظر سي صلاح الى المدير التقني العام والى رئيسي السيد ابراهيم وقال: عندكم الحق، توة فهمت علاش عندكم فيه ثيقة …ثم وبكل اعجاب واطمئنان قال: “ايّا سي عبدالكريم اشنية مشاكلكم في قسم المونتاج … وسجل عندك سي قاسم” ..وطفقت اعدّد له نقائص القسم وكذلك في الان نفسه تفهّمنا التام لتكون البدائل بمرحلية …قام السيد صلاح من مكانه… شدّ على يديّ وقال “نوعدكم ما تراو منّي كان الخير” ..كان ذلك في العشرية الاخيرة من شهر اكتوبر …
في الغد رن هاتف مكتبي فاذا به رئيس الديوان يطلبني الى مكتبه فوريا … ليستقبلني بكل حفاوة وبـ”اش تشرب ؟؟” (هذه عادة اما للكبار او “لهنّ”) … شكرت و اعتذرت ..وبابتسامة رقيقة قال لي: سي صلاح يُقدّر موقفك الذي ينمّ على تفانيك من اجل سمعة المؤسسة، ويعيّنك لتكون ضمن البعثة التلفزية الرسمية التي سترافق الزعيم بورقيبة للقمة العربية بالرباط …(26 اكتوبر 1974) .. نظرت لرئيس الديوان وقلت: “شوف سي عبدالسلام، اولا انا قمت بواجبي تجاه مؤسستي، ثم أشكر السيد المدير على منحي هذه الثقة، ولكني غير مستعد ليها لانّي ما عنديش تلفون (اقصد جواز سفر) … ابتسم سي عبدالسلام وقال: توة هذي مشكلة ..؟؟ برة جيبلي بطاقة تعريف واتصورزوز تصاور وجيبهم ..انت هو اللي اختارك السيد المدير وانت هو اللي ماشي تمشي ..
صدقا بفرح طفولي نفذت… كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا وها انا اتحصل على اول جواز سفر في حياتي على الساعة الواحدة ظهرا من نفس اليوم …قلت بفرح طفولي ولابد ان اعود اليها …في تلك اللحظة عبدالكريم خارج للمغرب مع بورقيبة ! …نسيت وقتها الثورية متاعي والمعارضة والشعارات (لا تفهموها من زاوية “اطعم افم تستحي العين” ابدا والله) … لكن في تلك اللحظة عشت فلاش باك كاملا … رجعتلي صورة عبدالكريم ..هو واحد من قلب الغابة متاع ساقية الداير …اللي كان يخرج للمدرسة بقبقاب … وصوابع ساقيه ويديه زرق بالسقع … وسورية المناسبات تشدّو خمس سنين … في عيد صغير والا كبير يلبسها والاصح هي تلبسو وترجع تطويها عيادة الله يرحمها في صندوق عرسها …
(.وصندوق عيادة اسمح صندوق في الدنيا… فيه اسرارها وفيه جمالها وفيه عينيها اللي قد ما نوصف ما نقدرش نعبّر .قدّاشهم اسمح عينين في الدنيا وقداشهي هي سلطانة فيهم … وحتى مرّة عيّادة الله يرحمها غلطت وانا في الثالثة ثانوي عطاتني فلوس باش نحضر بيها احد اعراس اهلنا… وانا زعمة زعمة شريتها على الموضة نصف يد وبيضاء وكيف شافتها كليت على راسي بالبخص والتڨرڨير والمرج وانا نكره التڨرڨير والمرج .. وهي تقول وتعاود: نصف يد؟؟؟ لاه فلوسنا برشة ؟؟؟ معناها ما تصلحش للشتاء . يلزم يديها طوال (معناها 2 اون 1) ….وزيد بيضاء على استحفاظك البيّ! …
وهاكة عبدالكريم اللي يقعد في الكور متاع الحي يمطّق في لسانو وهو يشوف في زميلو ولد الحشيشة ياقف قدام بياع الميلفيه ويضرب الاولى والثانية واذا ما كلاش ياكل حارة ..وانا كان لطف بيّ ربّي كعبة نتشارك فيها انا وواحد من امثالي مرّة في الشهر ….عبدالكريم المطعم الخيري… والقعدة في كيران باب الجبلي …ودورو قلوب اكحل (موش ابيض متاع الدولة العثمانية) …مع خويا الصادق شعبان وللي ما يعرفوش ويعتبرو من ازلام بن علي نقوللو …هاكة سيدكم لو كان جيتو تعرفوه وتعرفو قيمتو، توة تبلّعوا اذا موش تنقرضوا ..راجل وسيد الرحال … هذي نقوللها فقط للي موش رجال …
عبدالكريم متاع كل تلك الحقبة واللي البعض يتبرأ منها ويحكي عنها بمنطق الفقر و السخط والميزيريا ويزيد يدعي (الله لا ترجعّها) انا نقول اش خص لو كان ترجعلنا الايام … وحتى اذا ما رجعتش وهي عمرها ما ترجع، انا وكل الفخورين بسخطها وفقرها وميزيرتها وذلك كان حجر الاساس في بنائنا… سنواصل البناء الى ما فوق حدود السماء لزرع القرنفل هناك ولزرع الحب والامل والارادة حتى يصبح الانسان فينا سلطانا …
اذ لا سلطان على الانسان الا الانسان.الجميل الراقي …
ـ يتبع ـ

تصفح أيضا

عبد الكريم قطاطة:
في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟
في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…
مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…
تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…
اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…
إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…
قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…
الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟
موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…
قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …
ـ يتبع ـ

جور نار
لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!
نشرت
قبل شهر واحدفي
15 أبريل 2025من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش:
كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.
سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.
الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.
هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟
أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…
ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟
يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.


عبد الكريم قطاطة:
في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…
بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…
هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…
السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…
انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…
ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…
تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…
وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…
في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…
دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…
الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…
رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …
ـ يتبع ـ


غزة… قصف من السماء، وحرائق في الخيام، واستشهاد صحفية وعائلتها

بوتين: أول شروط التفاوض مع أوكرانيا… ضمان أمن روسيا القومي

لبنان: لاغتيال قيادات حزب الله… الاحتلال استفاد من خدمات “منشد ديني”!

الاتحاد العربي للذكاء الاصطناعي ومهرجان “سينما الجبل” بعين دراهم

لإخلاء غزة من سكانها، تهجيرا وإبادة… الاحتلال يطلق عملية “جدعون ساعر” العسكرية
استطلاع
صن نار
- صن نارقبل يومين
غزة… قصف من السماء، وحرائق في الخيام، واستشهاد صحفية وعائلتها
- صن نارقبل يومين
بوتين: أول شروط التفاوض مع أوكرانيا… ضمان أمن روسيا القومي
- صن نارقبل يومين
لبنان: لاغتيال قيادات حزب الله… الاحتلال استفاد من خدمات “منشد ديني”!
- ثقافياقبل 3 أيام
الاتحاد العربي للذكاء الاصطناعي ومهرجان “سينما الجبل” بعين دراهم
- صن نارقبل 3 أيام
لإخلاء غزة من سكانها، تهجيرا وإبادة… الاحتلال يطلق عملية “جدعون ساعر” العسكرية
- صن نارقبل 3 أيام
جدل في الكونغرس الأمريكي… حول صفقة أسلحة بـ 3 مليار دولار مع قطر والإمارات
- صن نارقبل 3 أيام
بغداد… قمة عربية تحت رماح أمريكية، إيرانية وإسرائيلية
- اجتماعياقبل 4 أيام
300 فرصة عمل جديدة في تونس خلال العام الحالي و800 وظيفة أخرى خلال العام القادم