تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 45

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

من الاشياء التي حفظناها عن ظهر قلب منذ نعومة اظافرنا (العلم نور)… وحتى الفنان الفكاهي المورالي في جيلنا انذاك تغنى بها على طريقته واستمعنا اليها عديد المرات في الاذاعة الوطنية، حيث كانت تخصّص ساعة اسبوعية كل يوم احد بداية من الثامنة يتداول عليها انذاك اشهر المونولوجيست… صالح الخميسي، حمادي الجزيري، الهادي السملالي والمورالي والجراري الى اخر القائمة… رحمهم الله جميعا ..

عبد الكريم قطاطة

والاغنية الفكاهية انذاك كانت تلقى رواجا كبيرا لدى المستمعين… وحتى اذاعة صفاقس في بدايتها لم تشذّ على القاعدة وتألّق فيها منذ افتتاحها بو الشنب (مبروك الغرايري) عم لاعب النادي الصفاقسي “غازي” .. العلم نور نعم ولكن هو نار ايضا …شباب تلك الحقبة من امثالي الذين تعلّموا وتصوروا انهم تثقّفوا، وجدنا انفسنا في مرجل… تراكم المعرفة جعلنا تائهين بين المُثل والواقع، فبقدر ما تعلّمنا اشياء بقدر ما زاد ضياعنا يوم القرار ..نحن جيل نهل من الايديولوجيات السياسية الكثيرة باستثناء الاسلامية منها… وحتى بروز النفَس الاسلامي انذاك والذي شجّع على ظهوره نظام بورقيبة لكسر شوكة اليسار فاذا به في الثمانينات ينقلب فيه السحر على الساحر …ذلك النفس لم يكن مُخيفا بالمرّة لانّ حجمه لم يكن في السبعينات ليُؤثر على موازين القوى اذ انّ الساحة كانت تعيش صراعا دائما بين اليساريين بمختلف تشكيلاتهم وبين الدساترة… وكان اليساريون الطرف الابرز في النضال لانّ الانتماء الى الشق الدستوري الحاكم في الجامعة مثلا كان بشكل خجول ومتخفّ (ويا ويح اللي يطّرفوا بيه دستوري في اجتماع طلاّبي)… هو بمثابة البوليس الذي يستعمله النظام لالتقاط اخبار الفصائل المعارضة الاخرى…

وفي هذا الباب اتذكّر حادثة وقعت لاحدهم عندما تفطّن الرّفاق لوجوده …نال عقابا شرسا جدا ..لم يمسّه احد بسوء بل وقع جلبه الى ساحة الكامبوس وقام احدهم وعلى الطريقة الداعشية بوضع عصابة على عينيه وتم حلق جزء من راسه حيث رسم عليه بالفرنسية حرف ٌأف” (اي “فليك” اي بوليس الحزب الحاكم)… واضحكوا معي قليلا ..هذا الشخص واصل عمله برتبة (قوّاد 5 نجوم) ليُصبح يوما زميلا اعلاميا ومسؤولا ومنظّرا لنظام بن علي بعد ان كان “فليك” لنظام بورقيبة …والاكيد انّه قلب الفيستة ليصبح نهضاويا في انتخابات 2011 ثم ندائيا سنة 2014 ثم هو مع النظام القادم حتى لو صعد “حمّة” لسدّة النظام… رغم انّ هذا من باب الاحلام المراهقة له ولاتباعه، لانّ هؤلاء الجماعة ما ادركوا يوما ان اسلافهم من منابع اليسار العالمي اصبحوا يتبرؤون من يسارهم بينما جماعتنا هم ملوكيون اكثر من الملك ماركس والامير لينين …واللذين لو عاشا لهذا الزمن لهمسا (باطل يا حمّة باطل)…

اذن وعلى طريقة تخريجات جيل اليوم الماسطة في اغلبها (فيق يا شفيق!)… ذلك الكمّ الهائل من التعاطي مع الايديولوجيات جعل عددا منّا يقرّر اتجاهه… بعضهم عن قناعة والبعض الاخر كموضة وجل البقية كالقطيع ..كنت من جماعة الموضة ولكن المتامّلة في كلّ ما يحدث ..كنت غير راض عن ايّ فصيل لانّي كنت شاهدا على الممارسات التي تختلف جذريا عن المبادئ …كان اغلبنا يعيش انفصاما في الشخصيّة فالخطابات شيء والسلوكات شيء مختلف تماما ..كنا في جلنا نؤمن بحرية المرأة في كل شيء حتى في جسدها بل كنّا نشجّعها على ممارسة تلك الحرّية دون حدود ..وعندما تحين الساعة الصفر للاقتران بشريكة عمر، تظهر فجأة فينا صورة سي السيد بوعي او دون وعي… ونبحث عن بنت العيلة التي لم تخرج يوما من كهفها ولم تر النور… وعندما احيانا نستشير بعضنا البعض في بعضهن، كثيرا ما نُلفت الانتباه الى (رد بالك هاكي عينها محلولة)… او (اشبيك هبلت تاخذ فاضل العباد ؟؟) …او (هاكي تعدّى عليها مائة ريح)… في حين وبكل انانية الرجل الشرقي المريض، لم يلتفت لحظة واحدة الى ماضيه الاسود وهو يعاشر وبكل تفاخر ثويري نفس تلك اللي عينها محلولة وتلك اللي تعداو عليها الف ريح ..هل هو نور العلم والمعرفة ام ناره ..؟؟؟

والامر يصبح اكثر تعقيدا في اختيار نوعية جمال المرأة ..جيلنا انذاك كان ومن خلال نور المعرفة يبحث عن امرأة تجتمع فيها عديد النساء ..فهي في البداية عبلة في وفائها لذلك الزنجي عنترة ..وهي بثينة جميل او ولادة ابن زيدون ..وهي كل قصائد نزار قباني في المرأة …وهي سامية جمال في رشاقة جسدها عندما ترقص ..وهي شادية في دلعها ..وهي بريجيت باردو في انوثتها الصارخة.. وهي جين فوندا كيسارية مناضلة ..وهي اورنيلا موتي في سحر نظرتها ..وهي امّه في عفّتها وشرفها … اي انّ الواحد منّا يبحث دون وعي عن امرأة مستحيلة لانها مركّبة من كل ما شاهده في الافلام ومن كل ما قرأه في ثلاثية نجيب محفوظ وغيره من القصص … ثم ينتهي بجلّنا المطاف للعودة الى المربّع الاول (بنت دار واللي تعرفوا خير مللي ما تعرفوش) .. السنا نحن جيل المعرفة النور والنار ..؟؟؟..

من ثمة وبعد تلك المحادثة الموجزة مع خالتي حول موضوع الزواج … وهذه الاخيرة لم يسعفها الموت لترى ابن اختها يوثّق لها حلمها اذا انها ماتت في تلك السنة بمرض عضال … بعد تلك المحادثة، بدأت جدّيا اضع الامر في اطار (علاش لا؟)… خاصة انّ عيادة ستكون اسعد مخلوقات الله لا فقط باختيارها لابنة اخيها بل وخاصة لطفلها الذي بدا يعود الى رشده …قلت في اطار علاش لا، لانّ هدفي الاهم ومنذ سنة 74 كان هل وصلت فعلا يا عبدالكريم الى هيمالايا ..؟؟ وكنت كلما ذهبت الى شاطئ اميلكار صيفا مع الشلّة انظر من هنالك الى جبل بوقرنين في الافق ..انظر باستهزاء وانا اقول له في صمت (ما تلعبنيش)… هيمالايا او لا شيء… انا بالنسبة لعائلتي ولاصدقائي في صفاقس عموما وفي ساقية الدائر خاصة اصبحت رقما ممتازا في تقديرهم لي والذي يصل الى حد الافتخار بعبد الكريم ..كان كلما اعترضنا احد اقرباء صديق يقدمني كنجم من نجوم التليفزيون … (هذا عبدالكريم اللي يخدم في التلفزة يخخي ما تشوفوش ساعات ؟؟؟ ما تقراش اسمو ؟؟؟)… والتلفزة في بداية السبعينات كانت الصندوق السحري العجيب لاغلب التونسيين والذي يعمل بها هو لا ينتمي لكوكب الارض ..الا انّي وفي قرارة نفسي ورغم تفانيّ في عملي وتالّقي وبشهادة كبار نقاد التليفزيون في ذلك العصر وعلى راسهم عبدالكريم قابوس وهو اكثر الاقلام دراية بالميدان واقذعهم هجاء للاعمال التافهة (اينك يا قابوس اليوم لتُدرك ان الاعمال التافهة في ذلك الزمن هي روائع امام ما يُبثّ اليوم من زبالة الزبالات؟) …

رغم كل ذلك… حلمي لهيمالايا لم ينقطع بل كان يؤذيني بجلده لي وبشكل دائم ..لكن كيف العمل ..؟؟؟ الى اين وانا الذي يريد محصولا اخر من المعرفة في العلوم السمعية البصرية ..؟؟؟ تونس ليست بها معاهد مختصة في الدراسات العليا في هذا الباب ..وحتى المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس لا يمكنني ان اتعلّق بوهمه ..فهو اولا يفتح ابوابه كل سنتين لعديد طلاب المنح من كافة الدول الافريقية اي ان المترشحين لثلاثين منحة فرنسية عليهم ان يكونوا الاوائل من ضمن تلك الآلاف ..وكيف لي ان اشارك في مناظرة باللغة الفرنسية وانا الذي انقطعت علاقته بموليير منذ السادسة ابتدائي بعد”الشلبوط” الشهير لمدرّسي الفرنسي “دوميناتي” ؟؟؟… وهيمالايا يا عبدالكريم ..؟؟ هل انتحر حلمك لانك عاجز حتى عن تكوين فقرة موجزة باللغة الفرنسية دون ارتكاب عشرة اخطاء (راني نكذب عليكم ..العدد اكبر) ..

ذات يوم وفي نفس شاطئ اميلكار بعد ان قضّينا يوما مُمتعا في السباحة، كان الجميع يتاهب وكعادتنا للذهاب الى سيدي بوسعيد عبر الطريق الجبلية الوعرة ولكنّ ميزتها انّها تكاد تكون خالية من الاعين الرقيبة الا من يشاركنا نفس مرامينا (وقتها عاد اتشلّق نشلّق)… يومها لم انهض من على رمال الشاطئ ..اندهش الجميع عندما قلت لهم: “اسبقوا توة نلحق نحب نقعد وحدي شوية”… ودون نقاش ولكن باستغراب اذعنوا للامر ..باستثناء رضا الذي اقترب منّي وقال: “اشبيك يا سخطة لاباس ؟؟” … نظرت اليه وقلت: “توة نحكيو” …

انتظرت دخولهم الى منعرج تستحيل منه رؤيتي ولبست ادباشي وامتطيت قطار الـ”تي جي ام” وعدت مسرعا الى مقرّ سكنانا بنهج كندا ..دخلت ودون حتى ان استحم اخذت دفتر مذكّراتي وكتبت: “يا عبدالكريم يا بهيم هيمالايا امامك وانت تلوّج اشبيك سكّارة”… بعدها قمت بفرح طفولي لاستحم ولانتظر رضا والشلة ..وما ان سمعت نغم المفتاح وهو يبسبس للكوبة ..الستم معي في انّ لموسيقى المفاتيح الوان؟؟ عندما نكون في انتظار يعلوه البشر والفرح ومهما طال الانتظار، ياتي على نغمة اسبقني يا قلبي اسبقني ع الجنة الحلوة اسبقني ..وعندما يكون الموقف النفسي ضياعا وتوهانا ياتي من صنف “لوكان بخاطري انا”… المفتاح يبسبس بالكوبة لانه قرأ حالى المنتظر الجذلان.. وما ان هلّ الجمع حتى صحت (اوريكا) وجدتها …اندهش الجميع وقال رضا بنبرة متهكمة: “اشنية ها الطلعة الجديدة زادة واشبيك مرڨت فينا ما خلطتش ..محسوب انت الخاسر يا من حضّرك على اش عملنا” ..

ضربته بقبضة يدي وبقوة على كتفه وهي في قوتها لا تؤذي نملة فكيف تؤذي كتف ابن آدم .. وصحت: ..”هيمالايا يا مدكّ” ..نظر بجدّ هذه المرة وقال: “ايّا هات يا انشتاين زمانك” …جلسنا معا وقلت له قررت ان اشارك في مناظرة المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس … رضا كان يعرف ضعفي الفادح في تلك اللغة .ضحك مني وقال: “ترى قول هذي الجملة اللي مازلت كيف قلتهالي باللغة الفرنسية” …لكزته بمنكبي واجبت: “كي نقللك مدكّ راك مدكّ … وما المانع من ان اتعلّم اللغة الفرنسية؟؟؟”… طأطأ رأسه وقال: “علاش لا ؟؟؟ اما تحبلها مصيرفة” …ضحكت منه واردفت: “اينعم بمعدل 200 مليم اسبوعيا” ..”كيفاش هذي زادة ؟؟ يخخي انت شارب حاجة ؟؟”.. هكذا رد عليّ فاشرت له باصبعي له وقلت: “انت وامثالك من اصدقائي هم من سيكونون اساتذتي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية وبما اني محب جدا لعالم الكرة ساقتني كل اسبوع جريدة الرياضة المُحررة باللغة الفرنسية لاقرأ الاخبار الرياضية وفي نفس الوقت اتعلم بمعيّتكم اللغة الفرنسيّة” …ضحك رضا وقال: “جو، ياما ماشي تاكل طرايح”…نظرت اليه بعين ثاقبة وحازمة وقلت: “فعلا وهذا ما اطلبه منكم …لا ترحموني ولا بد ان انجح” …

ورسمت لنفسي سنة ونصفا تقريبا لتعلّم اللغة الفرنسية حتى اتمكّن من المشاركة بحظوظ قد لا تكون وافرة ولكن ابدا ان استقيل.. وتوكلت على الله… كليت من عندهم ما كتب من ربّي وعبّرت لعيادة عن رغبتي في مواصلة الدراسة بفرنسا اذا نجحت ..كانت مُبعثرة بين شعورين اولهما الرغبة في ان يكون ولدها سيد الرجال، وثانيهما الخوف من فرنسا ومقرراتها وكانت كلما سمعت الاغنية الجزائرية “يا ربّي سيدي” وفي رواية اخرى “ياااااا رببببببببببببببببي(بكل وجعها) اش عملت انا ووليدي ..ربيتو بيدي ..وخذاتو بنت الرومية”… كانت تتنهد الى حد البكاء وتنظر إلى طفلها وتسرد عليه معجما من مفردات الالم والوجيعة والشك والموت البطيء …وقتها فكرت في ان اهديها اجمل رسالة طمأنة لها …وضعت يدي على كتفها والاصح اني وضعت قلبي على كتفها وقلت: “ايّا اش قولك يا عيادة تمشي تتكلملي على منية بنت خوك وكيف ما تقول انت نقرطسو عليها باش اذا نجحت وخرجت لفرنسا تطمان على ولدك؟” …وبعين الحكيمة ردّت: “باهي… اما اشكون قال انك بعد ما تحشمنيش على روحي مع خويا ..؟؟ نقرطسو عليها باهي اما راهو ما هواش لعب صغار ..انا دڨني في عيني وما تدڨنيش في سيدي الطيب ..والله لا عاد انجم نغزرلو في عينيه لو كان هكو والا بوهكة”… ادرتها بكلتا يديّ الى وجهي حتى اصبحنا متقابلين وقبلتها في جبينها وقلت: “شوف يا عيادة انا حتى مع اللي عرفتهم الكل ما كنتش واطي، كيفاش نكون مع بنت خوك العزيز ؟؟..وانهمرت امطار عيادة دعاء ..

كان ذلك في بداية سنة 75 وكانت ابنة خالي لا تفقه في كل هذه الامور شيئا ويوم قيل لها جايك عروس يخطبك واللي هو سيادتي، هربت الى غرفتها تبكي وترفض سماع اي شيء … كنت كامل السنة اشتغل كعادتي مركب افلام وريبورتير في بعض الحصص الثقافية كما اسلفت، ولكن كان كل همي ان التهم التهاما قواعد اللغة الفرنسية ومفرداتها …وكنت في المناسبات الكبرى الدينية خاصة اعود الى العائلة واذهب الى دار خالي متلصّصا عن تلك البنيّة …وبدأت الاحظ ان البنيّة في عالم الهوى بدات تُحضر احيانا صديقة لها كلما علمت بزيارتي لمنزلهم ..وهذا يعني انّها بدأّت تحتمي بعنصر امان في وجودها معي … وانّها تحكي لها عنّي كسائر الفتيات ..وبدأ فارس الاحلام يتشكل في مخيلتها …حتى جاءت امها يوما رحمها الله وعبّرت عن موافقتها للاقتران بسيادتي…

كان جميع اصدقائي يشجعونني على الامر وباعجاب ولسان حالهم يقول (ربي يرشنا منين بلّك)… ليس الجمال هو المفصود بدرجة اولى بل العقالة والرزانة، خاصة ان منية في ذلك الزمن وما بعده ولسنوات كانت علاقتها بالحديث عدائية جدا جدا جدا ….وتقرر ان يكون يوم الخطوبة 30 جويلية 75 وكان …اطمأن كل محيطي لهذا الامر وعاج الشقي على رسم يسائله وعاجت الشلة تبحث عن خمّارة البلد ..لم يكن الرسم طللا من اطلال ابي نواس بل كان الرسم عندي الدرس ..لابد من حفظ الدرس باللغة الفرنسية فجانفي يقترب وهو الموعد المقرر لاجراء الامتحان ..كانت الايام والاسابيع تتلاحق وانا اقول وهذه المرة في نفسي فقط دون اشعار اقرب الناس لي ..سانجح ..يا ربي سانجح …

عندما دخلنا قاعة الامتحان في المؤسسة كنا قرابة الخمسين وجاء المهندس الطاهر النجار وهو يحمل ظرفا من المعهد الفرنسي مختوما بالشمع الاحمر ووزع علينا اوراق الامتحان ..صدقا لم يكن الامر عسيرا بالنسبة لي في فهم اسئلته وصدقا ايضا لم افهم سؤالا واحدا حول زوايا التصوير… وكان بجانبي زميلي الهادي ملاك وهو من افضل المصورين التلفزيين كفاءة وسلوكا ..فاسترقت النظر الى ورقته ووجدت الاجابة التي ابحث عنها باعتبارها من اختصاصه …واقسم لكم باقدس المقدسات انها المرة الوحيدة طيلة دراستي (من الزاوية الى فرنسا) التي حدث فيها ذلك …لم احاول ابدا ان اسرق في اي امتحان …

خرجت من قاعة الامتحان يملؤني شعور بامل كبير للغاية ..وصدقا ثالثة لا ادري مأتاه ..كنت اعرف وكالجميع ان المترشحين لتلك الدفعة في كامل افريقيا بالآلاف وكنت اعرف وكسائر البقية ان فرنسا تُخصّص 30 منحة فقط ..وكنت اعرف ان حظوظ بعض الافارقة السود افضل منّا (السينيغاليين خصوصا) في اجادتهم للغة جان جاك روسو … ولكن كان صوت وديع يقول هم لهم اللغة وانت لك التميّز في عملك .. ثم ما يطمئنك ان الاصلاح ما فيهش اكتاف ..نعم مواد الامتحان تاتي من المعهد الفرنسي وتعود اليه ليصلحها الاساتذة هناك ..ولم يمر شهر واحد حتى وقعت دعوتنا انا وثلاثة اخرين الى الادارة العامة التقنية ..

يااااااااااااااااااااااااااااااااه ويا رببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببي ما احلى ان تتحدى تتمرد على ذاتك وتنتصر .نعممممممممممممممممم انتصرت على اعاقتي اللغوية ..تلك التجربة وما سيليها هي التي عندما وجدت نفسي امام المصدح او على مدارج الجامعة جعلتني اردد للمتلقّي (الارادة تقهر المستحيل) وكنت ومازلت اردد لهم دوما … هيمالايا هي الهدف ويوم تصلون لا تكتفوا بذلك بل ارسموا حلما آخر لما بعد حدود السماء …لولا الحلم ما كان في الدنيا ولا انسان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار