جور نار

ورقات يتيم … الورقة 53

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

لم يطُل مُقامي في تونس … ثلاثة اشهر ووجدتني اُجهّز حقائبي للعودة الى باريس … للمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية وهذه المرّة للحصول على ديبلوم درجة ثالثة في العلوم السمعيّة البصريّة، اختصاص مونتاج، وهو المعادل بفرنسا لستّ سنوات تعليم عال…

سفرة هذه المرّة لم تكن كسابقاتها … فباريس لم تعد هاجسا بالنسبة لي لأني اصبحت اعرفها (شكلة شكلة) باحيائها الراقية فرساي والشانزيليزيه ..وباحيائها المُريبة … بيغال وسان دينيس … الا انّ ما اختلف كان وجود خطيبتي معي يوم التوديع في المطار… انّها منية ابنة خالي وزوجتي حاليا والتي لها أفضال عديدة عليّ في حياتنا المشتركة وحتما ساعود اليها في قادم الورقات …اذ بعد ان خرجت من دائرة حب مراهق تيقّنت فيما بعد انّ الله حباني واحبّني عندما لم يُكتب له الدوام فخطبت ابنة خالي .. تمّت الخطوبة في 30 جويلية 75 .. وعمرها 15 سنة ….لم تكن انذاك تعي كثيرا ماهية الحب وعمقه بل كانت فقط تتباهى بخطوبتها بعبدالكريم الذي يظهر اسمه احيانا على شاشة التلفزة كمركّب للافلام او كريبورتار في بعض البرامج (الحياة الثقافية لخليفة شاطر او ساعة مع …لخالد التلاتلي او همزة وصل لعبدالقادر الجربي)…

تتساءلون حتما …. عمرها 15 سنة ..؟؟؟… نعم 15 سنة .. الدافع انذاك كان الخوف عليها من ان يختطفها آخر منّي لذلك عجّلت بالخطوبة… هكذا هو تفكير جُلّ ابناء جيلي (قرطس عليها خير مللّي يقفزولك بيها)… الاّ انه وبمرور الايّام كبرت البنيّة وتحرّكت بداخلها المشاعر متدفقة منهمرة واصبحت “مدغرقة” في عبدالكريم …لذلك كانت يوم السفر من مشيّعيّ إلى المطار… هي ليست من المثرثرات… بالكاد يُسمع صوتها … الاّ ان ثقتها فيّ لا حدود لها ..ربّما صدقي في احاسيسي .. واقعيّتي معها …وشفافيّتي تجاهها في كلّ شيء حتى في علاقاتي بالعالم النسائي انذاك، غرست فيها تلك الثقة العميقة … ان تكون واضحا شفّافا مع ذاتك اوّلا ومع الآخر ثانيا فذلك يعني انّك متناغم مع نفسك … ليس مهما جدا ان اختلفت مع الآخر … ليس مهما جدا ان غضب منك الاخر لانّه حتما سيتفهّمك يوما وان طال الزمن او على الاقلّ سيحترم قناعاتك ..الاهمّ ان لا تخسر ذاتك …

بالمعهد بباريس وجدتُني مع مجموعة جديدة من الافارقة… كنت العربيّ الوحيد فيها … ووجدتُني مع مجموعة جديدة ايضا من الاساتذة وعلى رأسهم واحد من اكبر رجال التليفزيون الفرنسي انذاك (كلود اوتزن برجيه) قامة علميّة رهيبة وكاريزما تشبه الى حد كبير الجنرال ديغول كمّا وكيفا …الاّ ان تواضع الاساتذة الفرنسيين رفع كل حاجز بيننا وبينهم… كان الواحد منهم يدعونا لقهوة معه، لعشاء معه، لدردشة معه، دون حواجز … وعلى ذكر القهوة في فرنسا تعلّمت ان شرب القهوة لا يعني قضاء ساعات بالمقهى بل يعني قضاء دقيقة لا اكثر اذ لا معنى عندهم للترشّف .. احتساؤها يعني تقسيمها على “جغمتين” او ثلاث… لذلك بُهتُّ في البداية من هذا السلوك ثمّ اُُجبرتُ على مجاراتهم في اخذ الكابيسان على طريقتهم… جغمتان او ثلاث ونعود الى مقاعد دراستنا سالمين … وهكذا انا لحد اليوم اتّبع نفس الاسلوب .. فهمت ان القهوة لا تعني (ترحريحة) على المقاعد و”خوذ فيّ ناخذ فيك” وحديث في السياسة والكورة والاقتصاد وعلوم الجيولوجيا والبيولوجيا والسوسيولوجيا والانتروبولوجيا والدينولوجيا ..حيث يتحوّل كل واحد من المتدخلين ليصبح السيد غوغل عرّيف زمانه… وتنفضّ الجلسة ولا يخرج الواحد منّا الاّ بالكلامولوجيا … والعنترولوجيا .. ولا حول ولا قوة الا بكلّ مشتقات الّلوجيا …. بما في ذلك التُخُلُوفولوجيا …

في الثلاثة اشهر الاولى بعد عودتي الى الدراسة لاحظت اهتماما متزايدا بي من مدير الدورة السيد اوتزن بيرجيه ..كان كثيرا ما يدعوني لشرب قهوة معه بعد الغداء ويستدرجني للحديث في امور عديدة … احسست باستدراجه نظرا إلى انه كان كل مرّةيطرح موضوعا مختلفا عن سابقه ثم (شلّقت) انه يريد الاستماع اكثر من الحديث ..وكان يحسن جدّا الاستماع ..كانت نظراته لي ثاقبة جدا وكأنه يريد الولوج الى مُخيّخي ليكشف اغواره ..ومعه تحدثنا عن تونس… بكل مفاصلها عن صفاقس مدينتي الحبيبة ..عن فرنسا ..عن تاريخها .. وعن حاضرها … عن افريقيا والافارقة …عن امريكا المتسلطة الصلفة ..عن الصين هذا التنّين المجهول ..عن العرب وعن الاسلام ..عن الكرة ..عن الحرية ..عن العلم ..عن العمل.. عن الفن شعرا وموسيقى ومسرحا وسينما ….عن آفاقي … وعن آفاقي كان يضاعف التركيز ..

وكان يصطحبنا احيانا استاذ اخر شاب عمريّا من مواليد الجزائر ايام الاستعمار الفرنسي يدرّسنا تقنيات الكتابة السينمائية… غاية في البشاشة والروح المرحة… وثالث وهو عجوز رائع يدرّسنا تقنيات الاتصال في السمعي البصري .. كنت احس بافتخار وانا المحظوظ بالجلوس الى هذه القامات الكبيرة علميا وهم يخُصونني بهذا الاهتمام ….وحتى زملائي في الدراسة كانوا يغبطونني على هذه الجلسات الانفرادية ..الا ان علاقتي الجميلة بهم لم تصل يوما الى حد الحسد او التنبير كما هو سائد في جل علاقاتنا هنا …

انتهيت بعد ستة اشهر من الفترة المقررة للتكوين العام في كل تفاصيل العلوم السمعية البصرية وبمعدل سبع ساعات يوميا، خمسة ايام في الاسبوع، وجاء وقت المرور الى التخصص ..اي دراسة المادة المختص فيها كل طالب منّا… بالنسبة إليّ المونتاج… في آخر يوم من تلك الفترة دعاني مدير المعهد الى مكتبه (السيد فرومنتان) وها أنا ادقّ على بابه … فتحت الباب فوجدت معه السيد اوتزن بيرجيه ..دعاني للجلوس والبشر يعلو وجهه.. لم يعترني اي شعور بالخوف او القلق فانا كنت ومازلت لا اخاف من اي شيء ..حتى الله احبه ولا يراودني ابدا الشعور بالخوف منه ..كيف نخاف ممن نحب ..؟؟؟ انا لا افهم معنى ذلك ..فخالقي احبّه اوّلا وأثق في عدله دون ادنى شكّ… اذن هو لن يظلمني يوم الحساب وسأنال ما استحقه فممّ الخوف اذن ..؟؟

ان أكون خائفا معنى ذلك انّي لم اتحمّل مسؤوليّتي في ما افعل ..معنى ذلك انّني جبان ..وما احقر الانسان وهو جبان ..حتما اخطئ كسائر البشر ولكن اتحمّل مسؤوليتي في اخطائي واعتذر دون تردد ..هذا مع سائر عباد الله فكيف لي ان اخاف من رب عادل احبّه واومن به ؟؟؟ كيف ان اخاف ذلك الخوف المرضي من ربّ كريم اختار ان يبدأ كل سور القرآن باستثناء التوبة بـ”بسم الله الرحمان الرحيم”؟… الم يكن ممكنا ان يختار باسم الله المنتقم الجبار … هل يمكن ان يتصوّر الواحد منّا اختيار لفظتي (الرحمن الرحيم) اعتباطيا .. او مجانيا ..؟؟ انا مؤمن بأن الله هو الرحمان الرحيم ..هلاّ عدتم الى سورة النساء والله يُعيد على عباده ثلاث مرّات (ان الله لا يغفر ان يُشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء ) .. هذه ليست خاصة بايّة فصيلة من البشر، هي للبشرية قاطبة دون استثناء ..نهضاوي جبهاوي ندائي تجمّعي دستوري مستقلّ (مثلي) يساري يميني مسلم يهودي مسيحي..

الاساس ان يكون مُوحّدا… الله يغفر دون ذلك لمن يشاء لا اسثناء في (لمن يشاء)… قد يقول البعض: هل نسيت انّ الله شديد العقاب ..؟؟ لم انس يا من تنظرون الى وجهه الكريم من كوّة السواد والتجهّم والتكشير ..ولكن اقرؤوا القرآن بتمعّن وستكتشفون ان رحمته سبقت غضبه وان كل عبارات العقاب والشدة تأتي في القرآن بمعدل 10 بالمائة مقارنة بعبارات الرحمة والمغفرة (قُل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم ـ الزمر آية 53)… وصدقا لست من الذين يعودون الى تأويل وتفسير بعض الآيات فهي واضحة وضوح الشمس ولا احتاج الى المفسرين الذين هم في حد ذاتهم مختلفون… جوجمة زايدة لا اكثر ولا اقلّ …

جلست بكل وثوق واحترام لمدير المعهد ومدير الدورة ..طلب لي قهوة وبادرني بالسؤال ..اه كيف وجدت الدراسة بالدرجة الثالثة ؟؟ اجبته: بخير من جانبي والتقييم هو من مشمولات اساتذتي ومدير الدورة طبعا ..اعجبه منطقي وقال: هذا من لطفك ..المهم بالنسبة لنا في المعهد ان يحسّ الطالب بنجاعة واهميّة ما يدرس حتى يعود لبلده محققا الاضافة …رددت بتهيّب: انا سعيد بكل ما تعلمّت وبكل من عرفت ..نظر بابتسامة خفيفة الى مدير الدورة وقال: وهم سعداء بكريم ايضا ولذلك وبعد تشاوري في امرك مع السيد كلود بيرجيه، رأينا انه عليك ان تحوّل اهتمامك من اختصاص المونتاج الى اختصاص الاخراج لأنك جدير به …اندهشت جدا من المقترح ولم تطُل دهشتي حينما اسعفني السيد كلود بالقول: كريم انا من موقعي وبعد التشاور مع جميع مدرّسيك اجمعنا على انّك ستضيع وقتك في دراسة المونتاج… انت ممتاز جدا في ذلك الاختصاص ولن تكون لك اضافة كبرى فيما تبقى من فترة دراستك… لذلك ارتأينا ان تحوّل اهتمامك الى عالم الاخراج ..انا تحدثت معك طويلا وكثيرا في مواضيع شتّى ومخزونك الفكري والثقافي يؤهلك لتنتقل الى الاخراج ما رأيك ..؟؟

شكرت له ومن خلاله جميع اساتذتي هذه الثقة الموضوعة فيّ وفي امكانياتي وقلت: الامر ليس متعلّقا بي وحدي يجب ان احظى بموافقة ادراتي في تونس ..تدخّل مدير المعهد وقال: “نحن من سيتكفّل بذلك وعبر قنواتنا الرسمية… ننتظر فقط موافقتك حتى نرسل للتو الفاكس لادارتك”… كنت سعيدا جدا بالمقترح بل كانت الارض لا تسعني ..تذكّرت في تلك اللحظة ما دوّنته يوما على صورة من صوري (انا اطمح الى هيمالايا لانّ الشعانبي لا يقنعني( … وتذكّرت طبعا عائلتي خطيبتي اصدقائي في العمل وفي الساقية وحتما عيّادة ..ساعود اليهم بديبلوم عال اختصاص اخراج …

ياااااااااااااه… ما اضيق الاماكن التي لا يمكنها ابدا ان تحتوينا في لحظات سعادة قصوى غامرة ..ما اتعسنا بانفسنا ونحن لا نستطيع حتى تخيّل ماذا علينا ان نصنع او كيف نتصرّف او ماذا نقول عندما تتدفّق شلالات السعادة … خرجت وقتها من مكتب المدير بعد ان تركته يرسل الفاكس لادارتي (مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية) مقترحا عليها الامر… ولم يدم ذلك غير ساعة واحدة حتى جاء الرد ومدير الدورة يزف لي الخبر…بالموافقة ! … اندهشت جدا لا فقط لسرعة الرد بل للموافقة … اذ كيف لادارة مؤسسة أن توافق بهذه السرعة على تحويل وجهة موظّف من قطاع الى قطاع دون اعمال رأي ..؟؟ دون دراسة وتمحيص واشراك الستاف الاداري بحاجيات المؤسسة (ناقصين مخرجين يخخي ؟؟)… اعتقدت يومها ومازلت لحد الان ان الموافقة جاءت بشكل متخلّف جدا ينمّ اساسا على مركّب نقص تجاه الاوروبي ..اذ انه بالنسبة للعديد ما يراه الاوروبي صوابا لا حاجة لنا في نقاشه او التروّي في امره ..استفدت قطعا من قرار الموافقة ولكن حتما لو كنت مكان صاحب القرار في المؤسسة لما كنت اتصرّف مثله ..حتما سابحث في الامر بكل ايجابياته وسلبياته وساتحرّى كثيرا في اخذ القرار … انذاك فقط اُجبر الاوروبي على احترامي لأني بذلك الاسلوب ابرهن له ولنفسي انّي انا ايضا صاحب قرار صاحب موقف ومسؤول بما في كلمة مسؤولية من ثقل …

وبدأت مرحلة دراسية جديدة في حياتي …كنا خمسة طلاب في اختصاص الاخراج: ايفواريان وكونغوليان وتونسي، العبد لله … وكعادتي واصلت اسلوبي في التعامل مع الدراسة لم استطع يوما ان اكون محراث قراية… الله وهبني نعمة التركيز والذاكرة التي هرمت الان …وفقط .. أما خارج المعهد فواصلت حياتي و”عملت بعمايلي” ولكن وفي نفس الوقت لم اكن منافقا في علاقاتي.. لم اكذب .. لم اغشّ .. احترمت قناعاتي وعشت بها …كنت مثلا من الرافضين قطعا لأن احوّل فتاة الى امراة .. ورغم كل الاغراءات والتوسلات …لم افعلها.. رغم انّه امر عادي في المجتمعات الاوروبية …كنت من الرافضين ايضا ان تُنجب منّي ايّة امرأة باستثناء زوجتي ورغم كل الاغراءات والتوسلات ..لم افعلها … هل فهمتم ما معنى ان يكون الانسان متناغما مع ذاته …سعادة قصوى ان تعيش هذا التناغم …واعيد القول قد يغضب منك البعض بل قد يكفر بك ..ليس هاما في نظري ..المهم ان اعيش وانا محلّق الى ما بعد حدود السماء راحة وامانا في كل ما افعل … ما اسعدني بي وانا هكذا مجنّح الى ابعد من حدود السماء …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version