وها انا بصفاقس في اكتوبر 79 …. كمّ الفرح الجماعي في عائلتي في حومتي لدى خطيبتي وعائلتها وخاصة امّها التي لم تكن تنتظر قدرا ابنتها الوحيدة تتزوّج يوما وتبتعد عنها لتستقرّ بعيدا عن صفاقس …
كانت تفضّل في قرارة نفسها ان يفوز بوحيدتها ابن اخيها الذي كان، واعتقد انّه مازال، يحبّها بشكل مهووس .. الله غالب، ليس كلّ من يحب ينال ما ومن يحبّ ورُبّ ضارة نافعة… لأن هذا الحرمان هو الذي اعطى وجعا جميلا للقلم عبر تاريخ القصة والرواية التي كُتبت والتي لم تُكتب في العشق والحب …فماذا عن معظم المبدعين في القصة والرواية والمسرحية والشعر والموسيقى لولا وجع العشق المجنون ؟؟؟؟ (توة عاد ولّى الممنوع والاسود ونستناو السيكلاما والفاروزي زادة) …هل كنّا نستمتع يوما وابن بني عبس يهيم حول ديار عبلة وينشد (يا دار عبلة بالجواء تكلمي)؟… ماذا عن شمشون ودليلة ..؟؟ ماذا عن ابي فراس واراك عصيّ الدمع ..ماذا عن احمد رامي و(ياما حليتلك اهاتي انت والايام عليّ) …ماذا عن (حتى في احضان الحبايب شوك يا قلبي)؟ …
وبجاه ربّي ما تقولوليش انت موش مريڨل وانا موش مريڨلة … ماذا عن القباني وهو يغمس ريشة قلبه في اوجاع الحب… ماذا عن بنت المستغانمي في ذاكرتها او فوضاها او في الاسود الذي لم يلق ببطلتها رغم انّ مجرّد عبارة (الاسود يليق بك) اوقعتها في شراك العشق الموجع …ماذا عن عاشقي التيتانيك لولا تلك النهاية الفاجعة… ماذا عن “ذهب مع الريح” (ذلك الفيلم الاسطوري الرهيب) لولا انّ الحبّ فيه ذهب مع الريح ..ماذا عن ميشال بيكولي ورومي شنايدر في فيلم (آخر اشياء في الحياة) والذي ينتهي بحادث مُميت لحظات قبل انتصار الحبّ … لكأن الحب في جُلّه يُولد توأما مع الالم .. بل ولكأن الحب في جلّه لا طعم له دون ألم … وهو ما اُُطلق عليه كثيرا توصيفة ثنائية العذوبة والعذاب …
في اليوم الاوّل الذي ولجت فيه باب الاذاعة وانا احمل معي مشروع اوّل نواة تلفزية للانتاج، كنت لا اعرف عميقا الا مجموعة اقلّ عددا من اصابع اليد الواحدة …المدير انذاك المرحوم قاسم المسدّي والزميل الهادي المزغنّي (ومعرفتي بهما من خلال فترة عملي بالمؤسسة الام حيث كان يشتغلان هما ايضا بالمركزية ثم انتقلا لاذاعة صفاقس) ..وايضا مختار اللواتي الذي كان زميل دراستي الثانوية بالحيّ (معهد 15 نوفمبر حاليا)… البقية اعرف منهم سماعا اذاعيا لا غير وحتى السماع كان عرضيا ايضا … المرجوم قاسم المسدّي كان سعيدا بدخولي لاذاعة صفاقس وهذا طبيعي جدا ..ليس فقط لان كلينا يعرف الآخر جيدا… بل لأن ولادة مشروع النواة التفزية في عهده كمسؤول اوّل عن اذاعة صفاقس سينضاف لتاريخه المهني … وللامانة ..الجلسة معه لم تطل كثيرا فقد خصًني بثقة عمياء وقال لي بالحرف الواحد: اعرفك قادرا على تحقيق كل ما نصبو اليه معا ..اخدم على روحك ومن جهتي ساوفّر لك كلّ الامكانيات …
ولو تدرون ماهي الامكانيات المُتحدّث عنها ..كاميرا فيلم من تونس جلبها معه واحد من افضل المصورين التلفزيين في المؤسسة وهو ابن حومتي وابن دفعتي واطيب خلق الله (الهادي ملّاك) و”ناغرا” آلة تسجيل الصوت كُلّف بها واحد من امهر تقنيي الصوت في صفاقس الزميل الهادي العكروت .. وطاولة مونتاج فيلم وهي طاولتي التي عملت عليها دائما في قسم المونتاج ..طبعا وسيارة ادارية متى احتجنا للتصوير ..وفقط … شفتو الامكانيات الهائلة …؟؟؟… كنت واعيا جدا بضحالة تلك الامكانيات ولكن اصراري على نحت العمل باظافري كان ايضا كبيرا …
ارتايت في اوّل حلقة من الانتاج بعد ان وقع الاتفاق على ان تكون شهرية (وهذا يعني عمل يومي لا يقل عن 12 ساعة حتىّ نفي بوعدنا الشهري) ..ارتأيت ان اجلس لبعض المثقفين المنتمين لاذاعة صفاقس لاستقراء اوّلي لافكارهم والتي يجب ان تخرج من التصوّر السمعي البحت الى السمعي بصري …واخترت من ضمنهم الزميل محمد الحبيب السلامي ليُعدّ لي تصوّرا نقديا لسلوكياتنا وهو المعروف بذلك الاسلوب …ثم تحادثت مع الزميل عبد الله الوافي حتى يُعدّ لي عملا تمثيليا قصيرا بالاشتراك مع الزميل منصف الوكيل ..في الجانب الغنائي ارتايت ان اصور اغنية من اغاني اذاعة صفاقس تحمل عنوان (يا نسمة جاري) وهي تعدد مزايا الجار .. لكن من جانبي اردتها سخرية سوداء حول سلوكيات بعضنا البعض في الجيرة …
في الحلقة الاولى من انتاج النواة كذلك لم احصر الانتاج في مدينة صفاقس… كنت افكّر في برمجة موضوع واحد على الاقلّ من احدى ولايات الجنوب …لذلك وقع اختياري على الطريقة التقليدية في عصر الزيتون بمطماطة حيث الحمار يدور ليلا نهارا يجرّ (الرحى وسط المدار)… ولمن لا يعرف الرحى هي عجلة حجرية تزن اطنانا… ولمن لا يعرف المدار هو حوض يوضع فيه الزيتون وتنهال عليه الرحى وهي تدور وقائد رحلتها حمارنا المسكين المُعذّب باشغال شاقة لمدة ساعات، وهو يدور حول الحوض في علاقة غرامية مدمّرة مع الرحى …. قمت باعداد المخطط التقني لتصوير هذه المواد حسب دليل برنامج واضح ودقيق المعالم من حيث الشكل والمحتوى، وكانت رحلة مطماطة آخر محطة في دليل العمل ذلك الاسبوع ..
قبل السفر بيوم جاءني احدهم بكل لطف الدنيا ورجاني ان يكون في الرحلة رغم انه لا ينتمي لفريق التصوير او الاعداد …اجبته دون ايّ تردّد وهل مثلك من يُردّ له طلب …دعوني اعود في فلاش باك اسبوعين الى الوراء منذ انتمائي لاذاعة صفاقس رسميا بمشروع نواة الانتاج التفزي … ثاني مكتب دخلت له في اوّل يوم لوجودي بصفاقس بعد مكتب المدير، كان مكتب الزميل الهادي المزغني … علاوة على انه زميل لي في مؤسسة التلفزة كمنتج ومنسق برامج، فقد كان اوّل من شجّعني … وقتها كنت قمت بمونتاج فيلم قصير حول حديقة الحيوانات بالبلفيدير على طريقتي ..دعوته للمشاهدة فاعجبه وبرمجه في برنامجه الاسبوعي التلفزي (من هنا وهناك)… اذن واعترافا بالجميل في زمن كنّا نعترف فيه بالجميل، كان ثاني مكتب ادخله هو مكتبه ..فتحت الباب وفوجيء بي اُطلّ عليه من نصف فتحته ..اهلا اش تعمل هوني يا طفل ..؟؟؟ ضحكت وسلّمت عليه ثم سلّمت على سيّدة كانت جالسة في مكتبه قائلا: اهلا ابتسام ..؟؟ وبابتسامتها المعهودة الملفوفة بشيء من التعجّب والسعادة ..قالت مرحبا ..تعرفني ..؟؟ اجبت اعرفك منذ كنت تلميذة تكتبين القصص والشعر وتقرئينها علينا نحن عشّاقك كتلاميذ مراهقين نتلهّف لا فقط اسماعك بل لرؤيتك …
ازاددت تعجبا وايضا سعادة وهي تسمع كلمة وقحة من نوع (عشّاقك)… ابتسام في آخر مراحل دراستنا الثانوية كانت شعلة من النشاط والحيوية وكنا اذا تناهى الى مسامعنا انه سيكون لها نشاط بالاتحاد الثقافي بصفاقس (مندوبية الثقافة الان) نتسارع صدقا للحضور ..كيف لا وفتاة من معهد الفتيات بباب البحر هي نوارة تلك العشوية …وهي فعلا انذاك كانت محط انظار المعجبين من تلاميذ الاقسام النهائية كلّ يطمع في ابتسامة من ابتسام ..بل ويلهث من اجل ذلك ..انا صدقا لم اتجرّأ يوما على ان اكون من ذلك الفيلق فحتّى ثيابي التي على قدّها (اشي ترقيع واشي تكميش واشي ازرق على اسود) لم تكن لتضعني في مرتبة القافزين والطامعين … يومها كان اوّل حوار مع زميلتي ابتسام المكوّر انذاك … و”الغطاسي” ايام التعليم الثانوي…
ولأن ذاكرتي البصرية على درجة قصوى من الحدّة تذكرتها وهي بمكتب الزميل الهادي المزغني ودون عناء ..وكان ردّ فعلها ايجابيا للغاية بعد ان قدّمني لها الزميل المزغنّي الى درجة انّها عرضت عليّ استضافتي في برنامجها (العاب وانغام مع ابتسام) في حلقته المقبلة …حذّرها سي الهادي بقوله اخطاك راهو “وحيّد” … فكان ان ردّت عليه: وانا اخترتو على خاطرو يظهر وحيّد … ابتسام و لي معها الف حكاية وحكاية في الاوراق القادمة كانت اوّل زميلة عرفتها وافضلهنّ …
قبل الخروج من مكتب سي الهادي سالته عن قريبة مازالت في خطواتها الاولى بالاذاعة… انّها زكيّة بن عياد وهي زوجة ابن خالي والذي بدوره يشتغل تقنيّ صوت ومنذ اليوم الاول من افتتاح الاذاعة قادما من الاذاعة الامّ … زكية وهذا يعرفه الجميع احبّها عشرات المرات اكثر من ابن خالي رحمه الله… هي الطيبة… دماثة الاخلاق… الروح المرحة… وخاصة بنت باب الله… ماذا تريدون عنها اكثر من هذا ؟؟… سالت عن مكتبها فعرفت انها تعمل بمكتب المنتجة الزميلة السيدة القايد… طرقت الباب فجاءني صوتها: (تفضّل) ..فتحت الباب فاذا بها كعادتها …ضحكة السعادة والفرح الغامر من اعماق الحُشاشة …ولكنّها فوجئت ببرودتي وانا انظر الى ذلك الكائن البشري المنغمس في كراسته والتائه في ملكوت الله… ولأنها زكيّة، انهالت عليّ كعادتها وباسلوبها الذي لا زيف فيه متوعدة ثائرة: “تي اشبيك يا عزاء متلّه يعطيك بلحاط (هذه دعوتها التي اصبحنا نتبادلها كلما غبنا عن بعضنا البعض، من جانبي او من جانبها) ..يعطيك بلحاط قداش توحشتك” …ولأنها تضرب في الاعماق بجمالها الفريد وبعمق صدقها لم ابحث يوما عن معنى (بلحاط) … قبلت بها كما هي لأن هناك تفسيرات لبعض الكلمات او التعابير تفسد رونقها …
افقت بعجالة من غيبوبتي وقلت لها هامسا: يا سخطة تي هذا موش ..؟؟؟ لم اكمل تساؤلي حتى قالت: ايه هاكة هو ..؟؟ نظرت اليه… النافع ربّي، ما عبرنيش اصلا، ما فاقش بيّ اللي انا دخلت… مددت له يدي وسلّمت عليه (عالسلامة سي محمد)… ردّ عليّ السلام بنغمة جدّ حنونة: يسلمّك ولدي… وعاد الى عالمه (كراسة وستيلو بيك)… ارادت زكية استدراجه للكلام فقالت له: تي هاكة ولد عمّة عبدالقادر (تعني زوجها)… لم يرفع راسه ولكنه همهم بصوت مسموع: نتشرفو، اما موش بهاكة الراجل المهباط اللي عندك… اقتربت منه وقالت: يا سي محمد الشيء بعيد على بعضو… هاذا قماش آخر وهابط من فرانسا… ولم تُكمل جملتها حتى نهض سي محمد من كرسيه ومدّ يده بحرارة لي وقال: مادام جاي من فرانسا الشيء يولّي شيء آخر …ايّا ايجا نشرّبك قهوة …كنت في قمّة السعادة ..رجل اسمع عنه الكثير، اقرأ عنه القليل في تونس (كيف العادة يحبّونا برشة) ولكن الاهمّ انّي احسّ به وبجماله…
انه الجمّوسي وما ادراك…
خلتني يومها طائرا يحلّق وهو في طريقه الى مقهى الاذاعة باب البحر انذاك، مع علم من اعلام تونس شعرا فنا ادبا وانسانا … كانت قهوة واحدة لتجعل منّا متلازمين كلّما سمحت لي اوقاتي المهنية بذلك… كنّا نشترك في حبّنا المهبول لفرنسا… وفرنسا ان لم تعلّمك اشياء تعلّمك فن الحبّ المهبول وماهي بعض التربّصات القليلة في ذلك الميدان حتى تصبح لديك قناعة بان العشق مهبول او لا يكون… تصوروا بالله معي: يأتي الواحد منّا ليُعبّر عن عشقه لشخص ما، لقصيدة ما، لشاعر ما، لاغنية ما، ويقول بكل برودة اعصاب: باهية يعطيه الصحّة مولاها …توة هذا عشق ..؟؟ انا اجزم انّ التعبير عن عشقك لأي شيء لأي شخص لأي شاعر لأي موسيقي ..لأي ..لأي ..لأي …عليه ان يكون من نوع (يلعن جد والدين بوك العاشر محلاك) وهذه في قاموسي لا تدخل ضمن خانة السبّ ولا تحت طائلة القانون ..وحتى ان دخلت يوما تحت طائلة القانون وحكم عليّ القاضي بالجزاء الذي يراه مناسبا لقوانيننا المعلّبة فاني ساقول له شكرا سيدي القاضي لانك اثبتّ ان الحمار يستحيل ان يلد انسانا ولكن بمقدور الانسان ان يلد حمارا مثلك ..
براف …تتذكّرون ذلك السيّد الذي رجاني بكل لطف ان يرافقني الى مطماطة في رحلتي المهنية لتصوير اسلوب عصر الزيتون التقليدي …؟؟؟ انه هو ..الفنان الانسان محمد الجموسي … وكان لنا ذلك، بعد اعلام المدير طبعا …كانت رحلة لا تُنسى لاّنه يومها اكتشفت جانبا آخر لا اعرفه في الجموسي: النكت “الخضراء” كما يقال عنها اي تلك التي (زايدة حبتين) وليتها كانت ثلاث في الجرأة وفي المسكوت عنه…ت صوّروا فقط ان سائق السيارة الاذاعية زميلي حبيب بيوض اطال الله عمره اوقف السيارة بجانب الطريق لانه اصبح عاجزا عن السياقة من فرط الضحك… صدقا والله هذا ما حدث…
اتممت عمليات التصوير… ارسلت الاشرطة الى المخبر المركزي بتونس العاصمة… قمت بعملية المونتاج وبمعدل 10 ساعات يوميا وشددت الرحال لتونس العاصمة لعملية الميكساج، ثم لعرض العمل على المسؤولين عن المتابعة… كان الموقف الجماعي يمكن تلخيصه في: برافو عبدالكريم …عدت الى صفاقس وانتظرنا ساعة بثّه في اليوم المقرّر لذلك… واسمع يللي ما تسمعش… البعض ينتظر بشوق وتوق ..آخرون وهم موجودون في كل زمان وكان: ايا توة نشوفو هاللي يقولولو سي عبدالكريم اش ماشي يعمل …وصنف حاقد خُلق ليكون حاقدا وبشكل مجاني…
اقول هذا لانّ الحكاية (حكاية وجودي الفعلي في اذاعة صفاقس من طقطق لسلامو عليكو) اخذت زمنيا شهرا واحدا فقط… وحتى اختلاطي بزملائي لم يكن كافيا بتاتا حتى لنتعرّف على بعضنا البعض كما ينبغي …فقط مع تقدّم العمر وبعد العديد من الهزّات، ايقنت انّ جينات قابيل ستوجد في البشر حتّى البعث … …