تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 85

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:
حتّى اختتم الحديث عن دورتنا التكوينية في الراي اونو والتي كانت على امتداد شهرين، عليّ ان ادوّن هذه الملاحظات التي بقيت عالقة في خانة الذكريات ..

عبد الكريم قطاطة

كلنا نعرف ان السفر مع فرد او مجموعة عنصر هام لمعرفة ذلك الشخص او تلك المجموعة معرفة عميقة .. وسفرة ايطاليا لم تخرج عن هذا الاطار ..اكتشفنا مثلا (القرناط) الذي يستخسر في نفسه شراء قهوة، في بلد اشتهر بمتعة قهوته… اكتشفنا اناسا غاية في الضمار الجميل، وكنا نحسبهم غاية في المساطة… اكتشفنا ميولاتنا الى السهرات بكلّ الالوان من حيث مشروباتنا، ومن حيث ميولاتنا لمشاهدة نوعية اخرى من البرامج الايطالية في القنوات الخاصة والتي لا يصلنا بثها الى تونس… وانا ما نقلّكم وانتوما ما يخفاكم (كولبو غروسّو ـ الضربة الكبيرة) مثال من تلك البرامج التي هي في شكل مسابقات والعاب حيث يتنافس فيها رجل وامراة للاجابة عن بعض المسابقات وبعد كلّ سؤال يقوم الخاسر بنزع قطعة من ثيابه… ستريبتيز، ما تمشيوش لبعيد .. ينتهي خلع الملابس وقت نوصلو لهاكي الاشياء …

روما ايضا هي عاصمة الاناقة في اللباس .. تقف امام واجهة متجر لبيع الملابس للرجال وللنساء ..تقف ساعات مشدوها بجمالها وفيانتها ومصدوما باسعارها … وتكتفي بالعشق ..نعم وقفت مرة امام متجر واعجبت بكوستيم (بدلة) ايّما اعجاب ..وغادرت ..وأعدت زيارة نفس المتجر مرات ومرات ولم اشتر البدلة ..الذي يعرفني يعرف اني من النوع الترتاق الفلاق في الفلوس ..ولكن كان كلّ همّي ان اخصص مدخراتي المالية لعائلتي ..وفي الاخير اشتريت ما شاء الله من ادباش وهدايا لعائلتي واكتفيت بقميص لي .. فقط فقط فقط …

وعدنا الى تونس بعد انقضاء فترة التدرب التكويني .. وان انسى فانني لن انسى ما حدث لي عند وصولي الى مقرّ سكناي بصفاقس ..ولدي انذاك كان عمره سنة ونصف ..نظر اليّ نظرة باهتة لا روح فيها ..ثمّ وبعد ثوان ارتمى بين احضاني دون ايّة اشارة من ايّ طرف من العائلة ..سعادة مثل هذه المواقف تدّخر منها فرحا طفوليا من الابن ومن والده ما يكفي لسنوات من الازمنة العجاف …نعم من مثل هذه الاحداث يستمد الواحد منّا طاقة لا تفنى في مواجهته لمصاعب ومصائب الزمن .. يكفي ان يتذكّر طفلا له يرتمي في احضان ابيه بتلك السعادة والفرح حتى يقول (وان تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها)…

سنة 1988 عشت فيها اذاعيا محطات لا يمكن ان انساها ..اوّلها التفكير ثم الانجاز لمشروع اسميته انذاك في احد برامجي (من اجل عيون الطفولة) ..والذي اردته تفكيرا منّي وانجازا من المستمعين في شكل بعث مكتبات خاصة بالاطفال المقيمين بالمستشفيات الجامعية… لنخفّف من احزانهم ووحشتهم ولنعوّدهم على مقولة (الكتاب خير جليس وخير انيس) ..قمت بدعوة المستعمين للقيام بحملة تجميع الف كتاب او مجلة لكلّ مكتبة وكان التآلف عجيبا مع هؤلاء المستمعين… ولم تمض 3 اشهر حتى ارسينا اوّل مكتبة بقسم الاطفال بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس ..وتواصل المشروع مع مستشفيات اخرى ..

كنت وما زلت مؤمنا بانّ التونسي عندما تكلّم فيه لغة العقل والقلب يستجيب ..وهذا عامل من عوامل تفاؤلي الدائم بتونس والتونسيين ..اعرف انّ تونس دخلت مرحلة سوداء في العلاقات المجتمعية والعائلية منذ 2011 ..ولكن ثقتي لا حدود لها في انّ معدن الانسان الاصيل مهما مرّغوا انفه في مخططاتهم (ونجحوا ايما نجاح في ذلك ) لا بدّ ان يعود الدرّ الى صدفته .. فالذهب قد يعلوه الغبار ولكن ابدا ان يصدأ …في نفس السنة فكّرت ادارة اذاعة صفاقس في تخصيص مساحة اسبوعية للشباب حيث ينتقل فريق اذاعي الى مناطق عديدة من الجنوب التونسي لربط مباشر مع الاستوديو الذي كنت اشرف عليها تنشيطا… هدف البرنامج اعطاء الفرص وعلى امتداد 3 ساعات للشباب ليعبروا عن مشاغلهم بكلّ حرية وبعيدا عن ايّة رقابة ..ايّة رقابة … وهذه التجربة كانت منطلقا لبعث اذاعة الشباب في اذاعة صفاقس سنة 88 وساعود للحديث عنها ..

في اكتوبر سنة 88 قامت الاذاعة التونسية بتجربة جديدة في البث الاذاعي اسمتها (فجر حتى مطلع الفجر)… وكما يدلّ العنوان هو برنامج مباشر ينطلق في منتصف الليل ويتواصل حتى الخامسة صباحا… وهو برنامج يومي ويُبث بشكل مشترك بين الاذاعة الوطنية واذاعة صفاقس واذاعة المنستير ..ينشطّه من الاذاعة الوطنية مجموعة من الزملاء ونصيبهم في ذلك 5 ايام في الاسبوع… بينما بقيّة فتات الاسبوع تتقاسمه اذاعة صفاقس واذاعة المنستير حصّة واحدة في الاسبوع …وشكرا على هذه الصدقة ..والله لا يضيع اجر المحسنين ..

كنت انا من عُينت لتنشيط تلك الحصة اسبوعيا ممثلا لاذاعة صفاقس … وللامانة كانت مناسبة متميّزة لمستمعي الاذاعة الوطنية ونظرا إلى انّ بثّ اذاعتنا لا يصل لبعض مناطق البلاد حتى يكتشفوا اصواتا اخرى والوانا اخرى واجواء اخرى… وهنا اتقدّم بالرحمة على روح الزميل الحبيب اللمسي الذي كان رابطنا الهاتفي مع المستمعين المتدخلين في ذلك البرنامج من غرفة الهاتف للاذاعة الوطنية… وسي الحبيب كان ممن يسمونه حاليا (فان) لعبدالكريم…

في اكتوبر 88 حدثان هامان عشتهما في مسيرتي الاذاعية… اولها الاعتراف بديبلومي الذي نلته من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس سنة 1979 .. اي نعم بعد 9 سنوات من الاهمال والظلم… والفضل في هذا يعود للمرحوم صلاح معاوية الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة ….علم بالاشكال الحاصل بيني وبين الادارات والمسؤولين الذين سبقوه، فدعاني لمكتبه ودعا مدير التلفزة انذاك الزميل مختار الرصاع والكاتب العام للمؤسسة، وطلب منهما وفي اقرب وقت رفع المظلمة التي تعرضت لها ..وفعلا وفي ظرف اسبوع قام بانهاء تلك الوضعية التي طالت وبكلّ جور ..

الحدث الثاني وقع بعد زيارة المرحوم معاوية لاذاعة صفاقس للاطلاع على حاضرها وآفاق تطويرها … يومها التقيته في كواليس الاذاعة وكان صحبة زميلي رشيد الفازع الذي انتمى في بداية السبعينات الى نفس دفعتي عندما قامت بتكويننا لتدعيم التلفزة التونسية باطارات جديدة كلّ في اختصاصه ..رحّب بي المرحوم صلاح الدين معاويو وهمس لي: ايّا اش قولك تشدلي انتي اذاعة الشباب ؟؟ ..واذاعة الشباب هذه انطلقت في اذاعة صفاقس منذ 1988 وهي عبارة عن فترة زمنية بساعتين من السابعة الى التاسعة مساء… فوجئت صدقا بالمقترح ..وعرفت في ما بعد انّ المرحوم صلاح الدين معاوي كان ومنذ بداية الثمانينات متابعا لاخباري بحلوها ومرّها في اذاعة صفاقس ..

اعيد القول اني فوجئت بالمقترح ..بل لم يستهوني ..وهاكم الاسباب ..انا منذ دخولي لمصدح اذاعة صفاقس كان لي مخطط لمستقبلي المهني ..هذا كان مخطّطي: 10 سنوات اذاعة …10 سنوات تلفزة … وبقية العمر ان طال العمر للسينما …. و(اللي يحسب وحدو يفضلّو) لان الانسان في كلّ حالاته ..في طفولته .. في شبابه .. في كهولته .. في شيخوخته ..وفي كلّ قرارات حياته منذ الولادة الى المغادرة لا تخطيط له ..نعم هنالك “اجندا الهية” نخضع اليها جميعا .. قد تاخذنا نرجسيتنا وثويريتنا لنقول: سافعل .. سافعل .. سافعل ..ولكن وعند الوصول الى سنّ الحكمة سنكتشف اننا جميعا خاضعون للاجندا الالهية … انا كنت وسابقى دائما من المؤمنين بالارادة والطموح والفعل …وهذا لا يتنافى مع ما قلته بل هو متناسق مع (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ..

اعود للعرض المقترح من السيد صلاح الدين معاوي وكان ردّي الفوري: تي انا نخمم نوقّف العمل متاعي في الاذاعة لانتقل للعمل كمخرج في التلفزة وانت تقللي اذاعة الشباب ؟؟ وفعلا انا منذ سنة 88 قررت التحضير لمغادرة المصدح ولكن على مراحل اوّلها ردم كوكتيل من البريد الى الاثير واعلان وفاته .. بالمناسبة، عندما سمع المرحوم صالح جغام بنيّتي في ايقاف الكوكتيل (قطّع شعرو) كما تعرفونه رحمه الله عندما يغضب ..طلبني هاتفيا وقال لي: يا خويا عبدالكريم يخخي هبلت توقف الكوكتيل ؟؟ برنامجك ضارب ودائما الاول في الاستفتاءات السنوية .. اش قام عليك ؟؟ ضحكت وقلت له يا صالح ستعرف يوما الاسباب وبعدها نحكيو…

انذاك فكرت في ايقاف الكوكتيل وفعلت ..الكوكتيل اصبح في اذهان المستمعين اسطورة ..وانا من موقعي الفكري كنت دوما ضدّ الاساطير … اذن عليّ ان اكون متناسقا مع نفسي واوقف الاسطورة ..نعم ربما بقساوة على نفسي وعلى المستمعين اوقفت الكوكتيل ..وتلك هي المرحلة الاولى ..وفي المرحلة الثانية التجات للتعويض .. عوضته في مرحلة اولى ببرنامج مساء السبت ثم باصدقاء الليل …واختيار هذه المواقيت كان مقصودا ايضا ..كنت محسودا على فترة الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار وكان بعض الحساد ينسبون نجاحي الى تلك الفترة الزمنية من اليوم ..لذلك ومع كوكتيل الاصيل ومع البرامج التي ذكرتها كنت اريد ان ابرهن انّ نجاح ايّ برنامج ليس مأتاه فترته الزمنية… بل اقول اكثر من ذلك، المنشط هو الذي يخلق الفترة الزمنية وليست الفترة الزمنية هي التي تخلق نجاح المنشط ..وحتى عندما اوقفت الكوكتيل وعوضته بمساء السبت كان في نيتي وبكل حزم ان انهي علاقتي بالمصدح سنة 1990 لانتقل الى مخططي وادخل في الحقبة الثانية وبدءا من 1990 في عشرية العمل التلفزي …

سمعني السيد صلاح الدين معاوي بانتباه وبتركيز شديدين وانا اعلمه بنية مغادرتي العمل الاذاعي سنة 90… وقال لي (ما اختلفناش… شدّلي اذاعة الشباب توة، وعام 90 يعمل ربّي .. هذا طلب اعتبرو من صديق موش من رئيس مدير عام) ..ابتسمت وقلت له طلبك عزيز وعلى العين والراس لكن بشرط ….في بالي فيه البركة مع الورقة 85 .. وطبعا ندّلل عليكم لاترك ماهيّة شرطي الذي وضعته، للورقة المقبلة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 87

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

قبل ان اودّع فترة نهاية الثمانينات واشرع في تدوين ما عشته وعايشته في التسعينات، لابدّ من العودة الى مهمتين كُلفت بهما في الصحافة المكتوبة، ومع جريدة الاعلان بالتحديد، وتتمثلان في تغطية حدثين في بلدين شقيقين (ليبيا ومصر) كان ذلك سنة 1988 …

عبد الكريم قطاطة

في ليبيا كان الحدث سياسيا بامتياز… العقيد معمّر القذافي رحمه الله قرّر في تلك السنة القيام بلقاء فكري مع الصحفيين غير المنتمين للصحافة الحكومية في الوطن العربي… والنظام الليبي هو المتكفّل بمصاريف تنقلهم وايوائهم في طرابلس ..وكنت انا موفد جريدة الاعلان صحبة زميل من جريدة البيان رغم انها شبه حكومية، واخر من جريدة الشروق … هنالك قضينا اسبوعا كاملا حيث حضرنا عديد الندوات الفكرية الخاصة بالحدث كل صباح… بينما خصصنا بقية النهار لمحاولة معرفة طبائع وسلوكيات الشعب الليبي الشقيق واختتمت الايام بلقاء صحفي مع العقيد …

انطباعات عديدة ارتسمت في ذهني بعد قضاء ذلك الاسبوع لعلّ اوّلها طيبة الشعب الليبي وحسن ضيافته وكرمه ..كنت انهض كلّ صباح لاجد عشرات باقات الورود والهدايا مهداة من مستمعيّ الاعزاء الذين علموا بوجودي في طرابلس …بل إن بعضهم انتقل الى الفندق لملاقاتي واخرين اصرّوا على دعوتي لمنزلهم (شكرا عائلة حشاد) ولكم ان تتصوروا الولائم والخرفان التي ذبحت ..الليبي الشقيق فيه كثير من خصال البداوة الأصيلة … وحتى عندما عدت الى تونس وتقدمت الى مصالح الديوانة لمعاينة ما لي وما عليّ حمدت الله ان جاءني صوت من بعيد مهلّلا “اهلا بكريّم” ..انه صديق عرفته في مبيت ميتوالفيل عندما كان طالبا وهاهو اطار عال في الديوانة ..وصل وكان العناق وحديث الذكريات ثم نظر الى الاعوان وقال لهم يخخي ما تعرفوش واحد اسمو عبدالكريم قطاطة في اذاعة صفاقس ؟؟ نظر الاعوان اليّ وكان سلاما من نوع اخر ..ولم يفتح ايّ واحد منهم حقائبي وحسنا فعلوا ..لم اكن مهرّبا لايّ شيء خارج عن منطق القانون ولكن عندما وصلت الى منزلي وفتحت الهدايا وجدت وفي العديد منها سلاسل واقراط وخواتم ذهبية ..يا فضيحتك يا عبدالكريم لو لم يات ولد بوشناق …اعني الاطار العالي في الجمارك ..وهنا اقسم لكم بشرفي اني لم افتح ايّ صندوق من الهدايا قبل الوصول الى منزلي …

الملاحظة الثانية التي سجلتها وصدقا بكلّ سعادة وفخر انّ الاذاعة المسموعة والمحبوبة رقم واحد من اخوتنا في طرابلس هي اذاعة صفاقس… بل هم يعتبرونها اذاعتهم ويسردون عليك وانت تحادثهم تفاصيل عنها ربما انت لا تعرفها … الملاحظة الثالثة وهي التي ادهشتني وارعبتني ايضا .. التقيت صدفة ذات يوم مع مجموعة من الشباب بعضهم لم يتجاوز عمره السابعة عشر ..المكان كان مقفرا الا من بعض المارة كانوا يحملون اسلحة خفيفة تحت ملابسهم… امرنا احدهم بالتوقف فامتثلنا… طلب منا هويتنا فامتثلنا وفجاة تهللت اساريره وهو يقول: الاخوة من تونس… (اي نعم) اجبنا ونحن لم نتوصل بعد الى اكتشاف هويتهم .. سألنا رئيسهم ..تحبوا ويسكي تحبوا زطلة ؟؟ شكرناه وعبرنا عن عدم رغبتنا في ايّ شيء ..ودون ايّ ازعاج تركونا في سبيل حالنا .. عندما سالت احد الاصدقاء التونسيين عمن هؤلاء ..اجابني (تسمع باللجان الشعبية ؟ هذوكا هوما) ..

لكن آتي الان الى اهم حدث واخطر حدث وقع لي في تلك الزيارة الى ليبيا… جاءنا احد المسؤولين في دائرة النظام الليبي لمقرّ اقامتنا وهو واحد من افخم النزل في طرابلس ان لم يكن افخمها… جاءنا ليذكرنا بموعد الندوة الصحفية في الغد يوم الاختتام مع العقيد، وبوجوب مدّه بثلاثة اسئلة مخوّل لنا طرحها غدا على العقيد حتى يراجعها الليلة ويدرسها قبل الاجابة عنها… لم نندهش من هذا الامر لانّه معمول به وفي عديد الدول .. سلمه كل واحد منا اسئلته الثلاثة وفي الغد كنا في الموعد للقاء القذافي… عندما ذكر اسمي اعاد طرح سؤالي على الجميع والذي كان: (حضرة العقيد وانت المعروف بحسك القومي والذي يتوق لوحدة عربية شاملة… الا ترون انّ الخطوة الاولى لتحقيق هذا الحلم يمكن ان تكون بوحدة اقتصادية بين مختلف الدول العربية، تليها خطوات اخرى تصبّ في الوحدة العربية الشاملة ؟؟)

نظر اليّ مليّا الاخ العقيد وقالي لي شوف يا اخ قطاطة انت تحدثت عن الدول العربية مافيش دول عربية فيه فقط ليبيا وشوية فلسطين والبقية (بقر)!!… اي نعم… هذا يعني انّي الان اصبحت كتونسي في نظر القذافي ثورا من قطيع البقر …لم ادعه يواصل قراءة السؤالين اللذين تبقّيا فقلت له شكرا يا سيادة العقيد اجابتك ضافية وشافية ولا ارى داعيا للاجابة عن السؤالين الآخرين .. نظر اليّ وطفّشني وراح الى صحفيين آخرين واسئلة اخرى .. للامانة لم استطع قراءة نظرته ولم يتملكني ايّ شعور بالخوف وقتها لكن كنت احسّ بمغص شديد وباهانة لي وخاصة لشعبي … وليلتها لم استطع النوم ..لاني وفي تلك الاجواء ومع ما نعرفه عن العقيد وعن ردود فعله لم استطع فعل ايّ شيء… انه الصمت القاهر وكم هو موجع ذلك الصمت القاهر ..

في الغد اعددت حقائبي استعدادا للتنقل الى المطار والعودة الى تونس ..وقفت امام مصالح النزل الادارية لاسلّم مفاتيح غرفتي ولاتسلّم جواز سفري …وماهي هنيهة حتى تقدّم مني موظف الاستقبال ليقدم لي (فاتورة) … فاتورة ؟ اي نعم فاتورة ..اخذتها منه متفحصا وبكل استغراب خاصة وانا الذي لم يتناول اي شيء باستثناء غذائي . وبعبارة أوضح: في النزل ما فماش اكسترا … وجدت فاتورة لكانّي من النازلين في الفندق على حسابي الخاص بينما انا كنت ضيفا اقامة وتنقلا على النظام الليبي … مالذي حدث ؟؟ اتصلت بصديق تونسي مقيم في طرابلس واعلمته بالامر قال كم المبلغ ؟ قلت له بضعة ملايين ..قال لي لا تناقش وسآتيك بالمبلغ .. شكرا حبيب … صديقي هذا يعرفني جيدا وهو في الاصل احد مستمعيّ ويعرفني عنيدا في حقوقي فخاف عليّ منهم ومما قد اتجرّأ على قوله تجاههم او تجاه النظام ..

قلت لصديقي انا في انتظارك فاعاد القول (خويا عبدالكريم نعاود نقلك بجاه ربي لا تقوللهم حتى كلمة)… طمانته ثمّ ذهبت الى الموظف في الاستقبال وقلت لهم اوكي سادفع المبلغ… ولكن وباعتباري اتعامل مع جريدة عليّ انا ايضا ان امدّها بفاتورة فيها كلّ مصاريفي في النزل اثناء اقامتي بليبيا حتى استرجع ما سادفعه لكم ..وبُهت الذي كفر ..تعرفوها (داخلة خارجة داخلة خارجة متاع عادل امام ؟) هاكي هي… أهم دخلو آهم خرجو ..قول عشرات المرات ..وفي الاخير جاءني موظّف كبير في النزل واعاد لي جواز سفري معتذرا عما حدث.. وهات من هاكي العبارات متاع وقع سوء تفاهم .. وانت قدرك عزيز .. واللي قاموا بالعملية متاع الفاتورة ما يعرفوكش ..بينما كنت اتحادث معهم يوميا و العديد منهم من مستمعيّ ايضا … قالك ما يعرفونيش !…

تحولت بعدها الى المطار ووجدت فريقا تلفزيا (ليبيّا) في انتظارنا لاخذ بعض الانطباعات حول ايامنا في ليبيا وحول اللقاء الفكري مع العقيد ..وطبعا راس الهم دادة عيشة .. ايّا نبداو بيك يا اخ عبدالكريم ..انت عندك مستمعين يحبوك هلبة ويسعدهم يسمعوك .. وضعت يدي امام الكاميرا وقلت لهم هذه المرة وبكلّ حزم ..انا اعتذر جدا ..ليس لي الحقّ بادلاء ايّ تصريح لايّة وسيلة اعلامية الا بموافقة جريدتي .. شكرا لكم وتحياتي الى كلّ مستمعيّ الاعزاء .. ويكسّر ساقين اللي ما يجريش ..حملت حقيبتي اليدوية واتجهت الى طائرتي التي ستقلّني الى تونس .. للامانة ومنذ ان اقلعت الطائرة عشت قلقا يتزايد كلّ مرة تمرّ فيها الطائرة بمنخفض جويّ ..نعم كنت اتوقع كلّ شيء بعد كلّ الذي حدث ..واوّل ما قمت به عند نزولي في مدرج مطار قرطاج سجدت حمدا لله وقبلت الارض التونسية ..

هنا لابدّ من الاشارة الى انّ كلّ ما حدث وحتى اكون شفافا ونزيها وصادقا لم يمسّ ولو شعرة من اهاليّ في ليبيا .. بل وهم يعرفون لحدّ الان مدى الروابط المتينة التي ربطتني بمستمعيّ في ايّ شبر من التراب الليبي ..

المهمة الصحفية الثانية التي كُلفت بها ومن جريدة الاعلان ايضا كانت هذه المرة ببلد الفراعنة .. بلد نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد .. بلد الستّ والعندليب … بلد يوسف شاهين وصلاح ابو سيف . بلد سيدة الشاشة فاتن حمامة والكبير عمر الشريف… بلد ليالي الحلمية ورافت الهجان… بلد الفوازير وخاصة نيللي ..تتذكروها نيللي اكيد ..؟… تتذكروا كلمتها (شطّبنا) في نهاية الحلقة … استعيرها منها لانهاء هذه الورقة اذن شطّبنا …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار