جور نار

ورقات يتيم … الورقة 94

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

اواسط التسعينات وحتى بداية الالفية الثانية شهدت زخما من الاحداث في حياتي المهنية… تجربة قناديل كمخرج تلفزي تحدثت عنها في ورقة سابقة وتجارب اذاعية اخرى بعناوين اخرى…

دعوني اعد بكم الى برنامج كوكتيل من البريد الى الاثير الذي كان اوّل برنامج انتجته في اذاعة صفاقس منذ اواخر السبعينات ولمدة تجاوزت الخمسة أعوام… البرنامج وهذا ما يعلمه الجميع لقي نجاحا هائلا… واصبح تعلّق المستمع به خرافيّا… و صدقا دافع عنه هذا المستمع كلّما حاول بعض الجزارين ذبحه ..ودفاعهم عنه سنة 85 كان وراء عودته للمصدح… ولكن يوما ما اكتشفت انّ تواصله سيكون ضدّ قناعاتي فاوقفته بل قتلته للأبد ودون ايّ ندم… اتذكّر جيّدا انّ زميلي صالح جغام رحمه الله هاتفني عندما سمع بقرار وأد الكوكتيل هائجا مائجا كما تعرفونه وبدأ حواره معي بالقولك (يخخي اشبيك هبلت توقّف برنامجك؟؟ تي انت بعقلك والا خرفت؟؟ برنامجك ضارب وقالب الدنيا تجي سيادتك وتوقفوا ؟؟ ايّا هات اقنعني بأسباب و مغزى قرارك يا ولد قطاطة)…

وهاكم اجابتي له ولكم حول قرار إنهاء الكوكتيل… لو تفطنتم للوصف الذي ذكرته حول تعلّق المستمع به لادركتم انّي استعملت عبارة خرافيّ… اي نعم هنالك يكمن سرّ قراري بايقافه… انا كنت احثّ مستمعيّ في ما احثّهم، على عدم تغييب العقل في ادارة شؤوننا في الحياة، وعلى الابتعاد عن كلّ ماهو خرافات واساطير… نعم تلك هي قناعاتي التي مازالت لحدّ يوم الناس هذا… وهنا وبعد اذنكم افتح قوسين في هذا المجال اي مجال تغليب الفكر على اعتناق الخرافات والاساطير…

انا ومنذ سنة 2002 اعدت النظر في العديد من امور كلّ ماهو ايمان ودين… وحرصت بدرجة اولى ان اقرأ القرآن ليكون نبراسي وانغمست في قراءات متأنية ولم اعلن ذلك يوما للاخرين… بل واسخر ممن يعلنون انجازهم للختمة رقم كذا… تي اشنوة تحسبوها مع ربي وزيد تتفاخرو ؟؟ يخخي ما قريتوش في ختمة من الختمات، الاية (انّ الله لا يحب كل مختال فخور)؟؟… لا والعديد منهم يزيد يبعثلك حديث او اية ويقلك اذا ما بتعثهمش لـ 11 صديق راهو يصيرلك كذا وكذا ..اوّلا علاش 11 وموش 15 وعلاش 15 وموش 5555 ,..؟؟ ثم نفس هالطائفة الكلبة ما قراتش في القرآن (قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا) ..؟؟….توة هذوما ما يصحش الواحد يقول عليهم (لكم دينكم ولي دين) ..؟؟…

في تلك الفترة قرأت القرآن كمتامّل وباحث عن الحقيقة والتي هي الايمان والامان… وامتلأت بما جاء فيه من درر وجواهر لم اجدها يوما في ايّ مؤلّف (بفتح اللام) آخر… وتاكدت انّه لا يمكن ان يكون كلاما لمخلوق بل هو تجسيد لعظمة الخالق… وانشرح صدري ووحدت نفسي في واحة من النور والسلام النفسي وذاك هو الايمان عندي… بعد ذلك وطمعا منّي في مزيد المعرفة معرفة ديني ودنياي واخرتي… ذهبت لما يقوله اهل الفقه وما يفتونه ويحلّون ويحرّمون معتمدين في ذلك على قال فلان عن فلان عن فلان، انّ رسول الله قال… واكتشفت انهم في جلهم ان لم يكونوا كلّهم، يكذبون على رسول الله… لانّ محمد ابن عبدالله ارقى من تاويلاتهم وخرافاتهم واساطيرهم …

لذلك اعملت عقلي ورفضت اولئك المفسرين والفقهاء واعتنقت القرآن كمصدر وحيد في حياتي ضاربا بعرض الحائط المصادر الاخرى، خاصة وهي كُتبت بعد وفاة الرسول بقرنين… وجاءت عديد الاحداث لتؤكد ان تلك الفئة تمثّل الفتنة… وانهم حتى في علاقاتهم ببعضهم البعض هم يكذّبون بعضهم البعض ويكفّرون بعضهم البعض ويقيمون الحدّ على بعضهم البعض ويقاتل ويقتل ويغتال بعضهم البعض… اذن اخرجتهم من دائرة اهتمامي وللابد… وانا سارضى بحسابي مع ربي سواء اثابني او عاقبني عن صنيعي هذا، لانه هو العدل…

هل فهمتم اني ومنذ نشاتي وحتى قبل ان هداني الله الى الحق والنور كنت ارفض كلّ ما هو خرافة واسطورة ؟؟ وعليّ ان ابدا بكنس بيتي الاذاعي من الخرافة والاسطورة ..والكوكتيل تحوّل الى اسطورة… اذن وتوافقا مع قناعاتي عليّ قتله …لتلك الاسباب وضعت حدّا نهائيا لحياة الكوكتيل وكان في داخلي شبه يقين انه لو كان الكوكتيل فقط هو مصدر نجاحي اذاعيا فسافشل حتما عند انتاجي لعناوين اخرى… فكان برنامج مساء السبت، وكان برنامج مواعيد مع زميلي عبدالجليل، وكان برنامج اصدقاء الليل، وكان مطلع حتى مطلع الفجر، وكانت البرامج الخاصة باعياد ميلاد اذاعة صفاقس وبالاعياد الدينية… نعم الدينية دون سواها… ثم وفي اخر محطة اذاعية باذاعة صفاقس كان برنامج اذاعة بالالوان … والحمد لله اني اثبتّ اوّلا انّ المنشط هو من يصنع الفترة وليست فترة الضحى او المساء او الليل من تصنع المنشط… وانّ المنشط الناجح هو الذي يخرج من جلباب برنامج ما الى برنامج اخر فيحافظ على نفس التوهج وعلى نفس الالتفاف الجماهيري… .والسبب بسيط قد يتغيّر الشكل ولكن تبقى الثوابت والقناعات هي نفسها..

في اواخر سنة 95… اقدمت اذاعة صفاقس على تجربة اعتبرها متميّزة جدا بل وفريدة انذاك في الفضاء الاذاعي تونسيا… تجربة هدفها تعويد الفرد على النقد البناء وبكلّ حرّية مسؤولة… هنا احكي عن المستمع وهي ايضا متميزة من زاوية علاقة المنتج الاذاعي بنقد المستمع… انها تجربة برنامج الراي الاخر …كنت المكلّف بهذا البرنامج وهو من اقتراحي… وبقدر ما تفهّم البعض جدوى ان نضع انفسنا امام المرآة لنكتشف نقاط قوتنا وخاصة نقاط ضعفنا…(وهنا لابدّ من تحية الزميل الحبيب الهدار رئيس مصلحة الاخبار انذاك الذي طلب منّي ان يضع البرامج الاخبارية ونشراتها ومواجيزها في عدد خاص من الراي الاخر وكان له ذلك)… بقدر ما اعتبر بعض صغار العقول الراي الاخر برنامج تصفية حسابات مع الزملاء… والله وحده شاهد اني كنت صادقا مع كل ما ياتيني في بريد المستمعين وناقلا امينا لنقدهم…

في نهاية سنة 95 عشت كذلك تجربة من اجمل تجارب عمري مهنيا امام دهشة البعض من صانعي القرار في ادارة اذاعة صفاقس وكان يديرها انذاك المرحوم النوري العفاس وممن اسميهم دوما (الملأ)… اي الشلّة التي تحيط بالمسؤول الاول في كل قطاع… هؤلاء همزا او لمزا ما يطيقوش يسمعوا اسمي.. اي نعم ..سامحهم الله ورحم العديد منهم وغفر له … اذن و امام دهشتهم جميعا، مؤسسة الاذاعة والتلفزة عينتني الوحيد من مخرجي التلفزة التونسية للسفر الى سوريا للقيام بتدرّب تكويني في البرامج الرياضية وبمركز دمشق لاتحاد الاذاعات والتلفزيون العربي…

كان صوتهم الداخلي (اعني الملأ) يقول: تي يخّي هذا قطّوس بسبع ارواح ؟؟ وين ما ياكل الضرب ونقولوا امورو وفات يخرجلنا كيف الجان الارقط ؟؟ واقسم لكم بالله الواحد الاحد اني لم اسمع بتلك الدورة بتاتا ولم استعمل صداقاتي حتى اؤثّر على اصحاب القرار في المؤسسة المركزية … ومرة اخرى وفي كلّ محطات حياتي المهنية لم اقم يوما بمثل تلك الوساطات ابدا… عزة نفسي وقناعاتي تأبى ذلك وبشكل قطعي… والقرار كان مفاجئا وسريعا… الطائرة ستقلع يوم الاحد صباحا من ذلك الاسبوع الى دمشق من مطار تونس قرطاج وانا يقع اعلامي يومين قبل المغادرة… اي يوم الجمعة…ويا للهول! اعددت كل شيء وتفطنت يوم الجمعة ليلا الى ان جواز سفري لم يعد صالحا للسفر… وكانت صبيحة السبت صبيحة الجري ومحاولة الانقاذ …وبارك الله في صديقي وجاري يوسف البهلول الذي كان يشتغل باقليم صفاقس للامن، وفي مدير الاقليم اللذين تدخّلا وفي اطار القانون وساهما باحضار جواز سفري عاجلا حيث تسلمته يوم السبت على الساعة الواحدة ظهرا…

وكان الامر كذلك وامتطيت الطائرة يوم الاحد ووصلت الى دمشق لاجد سيارة المركز التابع للاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون في انتظاري لايصالي حتى الفندق الذي يتعاملون معه… دعوني اقل لكم اوّلا انّ لي عشقا كبيرا ومنذ شبابي الاوّل لسوريا والسوريين… ربما تاريخهم العظيم ومنذ الدولة الاموية ورغم اني كنت وما زلت اعتبره تاريخا افسد الاسلام والمسلمين… ويكفي هنا ان اذكر عبد الملك بن مروان وتابعه الحجاج… لكن وفي المقابل كنت ومازلت اعتبر انّ افضل فترة عاشها الاسلام والمسلمون بعد وفاة الرسول هي فترة عمر ابن عبدالعزيز… فترة الرخاء والعدل… واذا اجتمع الرخاء والعدل فتلك هي اسمى معاني الحرية والديموقراطية والعيش الكريم… اه يا عمر قم وانظر ما يفعله دعاة الاسلام من جهة ودعاة الثقفوت من جهة اخرى الذين لم يهمهم يوما رخاء الجماهير ..المهم والاهم والاوحد حقوق الانسان والحرية والديموقراطية …البقية تفاصيل ..هككة ؟؟؟ وقت رب عائلة ما يلقاش عشاء صغارو “تفاصيل” …؟؟.. انتوما وقتها تعشيووه حرية تعبير وديموقراطية …؟؟

ووجدتموني في دمشق الفيحاء… ولانّ دمشق وسوريا ضاربان في عمق التاريخ ارى لزما عليّ ان تكون لهما ورقة خاصة بهما … يااااااه ساحدثكم عنهما ماضيا وحاضرا وعن الواحد وعشرين يوما التي قضيتها هنالك… مهبول اللي يحكي على سوريا وما مشالهاش… تقولشي واحد يحكي على خبز ومرقة وموبيلات زرقة وهو عمرو لا نهار جاء لصفاقس واكتشفها على حقيقتها… ويل للمنظّرين في كلّ شيء… تي على الاقلّ تواضعوا شوية وافهموا ولو للحظة في حياتكم انو لا احد منا يملك الحقيقة…

اكاهو… دمشق وما عشته فيها، سيكون محتوى الورقة 95 ..التقيكم…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version