جور نار

ورقات يتيم… الورقة 95

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

بعض المدن نزورها ونسكنها مرّة واحدة في العمر … ولكنّها تسكننا العمر كلّه … كما وعدتكم ساخصص هذه الورقة لدمشق لانها تستحق وعن جدارة …

زيارتي لدمشق الفيحاء او مدينة الياسمين كانت سنة 1996 … كان ذلك اثر اختياري من مؤسسة التلفزة التونسية لامثّل بلدي في دورة تكوينية حول اخراج البرامج والمباريات الرياضية، يشرف عليها الاتحاد العربي للاذاعة والتليفزيون بفرعه في دمشق… كنت سعيدا جدا بهذا التعيين ومشتاقا لدمشق بالذات كواحدة من اقدم العواصم في التاريخ وخاصة كحضن لتاريخ عربي يضجّ بالاحداث… لعلّ ابرزها حين كانت عاصمة للامويين …

عندما نزلت في مطار دمشق اوّل ما لفت انتباهي طريقة حوار السوريين بين بعضهم البعض … كنت مستغربا جدا من علوّ أصواتهم وكان يُخيّل لي انهم في خصام دائم… ثمّ اكتشفت فيما بعد انهم هكذا… ولتقريب الصورة لكم هل تذكرون مسلسل باب الحارة ؟؟ انهم تماما كما في باب الحارة… المشهد الثاني الذي اثار اهتمامي شكل البناءات في دمشق… دمشق حافظت على طابعها المعماري القديم… قليلة هي البناءات من طراز ناطحات السحاب بل لا اذكر انّي رايت واحدة منها… هي كتونس العاصمة او سوسة او صفاقس داخل الاسوار… لكن دمشق هي كما هي داخل الاسوار او خارجها … المنازل الدمشقية تشبه كثيرا منازلنا وابراجنا القديمة… هي غير مغطاة ومزدانة بغراسات الازهار المتسلقة للحيطان داخلها ومن بينها الياسمين …

في المطار استقبلتني السيارة التابعة للاتحاد العربي للاذاعة والتليفزيون واوصلتني الى نزل في قلب دمشق… وقال لي الاخ السوري هذا هو النزل الذي بتعامل معه الاتحاد العربي ولكنك لست مجبرا على السكنى فيه ..وغدا سآتيك صباحا لاخذك لمكان التدرب … النزل كان من نوع النزل القديمة عندنا في المدينة العتيقة ..متواضع للغاية ولكنّه مريح … دمشق تتوسطها ساحة اسمها ساحة المرجة… وفيها عديد المتاجر وعديد المطاعم… وما يكاد الواحد يخطو بعض الخطوات حتى تملأ انفه رائحة لم اعرفها في البداية… ولكن لاني متعود ان اسال عن كل ما اراه او اسمعه او ما اشمّه اكتشفت انّ السوريين لا يستعملون الا السمن في اطعمتهم عوضا عن الزيت… واكتشفت ايضا انّ الزبون في ايّ مطعم يطلب ما لذّ وطاب وباثمان زهيدة للغاية…

ثمّ اكتشفت فيما بعد بالنسبة لنا كزوار ان كل شيء زهيد الثمن بما في ذلك الذهب والجواهر، وكم هو الفستق السوري مثلا مدهش اولا من حيث الحجم، تقولشي كعبة فول… ومن حيث الثمن… وحتى اقرّب لكم الامر يثمن مائة غرام فستق في تونس يمكن لك شراء كيلوغرام … لكن بالنسبة للسوري عموما فانّه لا يقدر على التمتّع بعديد الاشياء في حياته نظرا لدخله الشهري المتواضع جدا… لكن مقابل ذلك كان النظام السوري يقوم بدعم كل المواطنين دون استثناء في ثلاثة مرافق… الكهرباء والهاتف والماء… هذه المرافق كانت مجانية بالنسبة للمواطن السوري (زيدو قولو آل بشّار مشومين)… خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار موقع سوريا كبلد مجاور لاسرائيل، والميزانية المخصصة لوزارة الدفاع السورية ..

لكن وللامانة العلمية نظام بشار كان نظام مخابرات بامتياز … حيث بين البوليس السرّي والبوليس السرّي نجد بوليسا سرّيا… هذا الواقع عشته عندما كان معنا في التدورة التدريبية احد السوريين… نشأت بيني وبينه علاقة ود حميمة وكان يجيب عن اسئلتي دون خوف او وجل… ولكن ومنذ الايام الاولى حذّرني من امر هام… اسرّ لي بانه يمكن ان اعيش بامن وامان اذا الجمت لساني عن الحديث في السياسة… هذا اولا وثانيا طلب منّي بكلّ ودّ ان لا اتجاذب معه في حضور سوري اخر اطراف الحديث عن السياسة … مما اثار دهشتي ايضا في دمشق ميزة ما وجدتها الا في المدينة المنورة… السوري تاجر جميل وذكي جدا… يستقبلك اينما كنت في سوق الحميدية مثلا (وهو اشهر اسواق دمشق) بالمرحبا وعالسلامة ويودعك بنفس الحرارة حتى ولو انزلت كلّ بضاعة دكانه ولم تشتر شيئا …

لم تتجاوز اقامتي بالنزل اكثر من يومين حيث اقترح عليّ بعض الاشقاء العرب مشاركتهم السكنى في المنزل الذي اكتروه للغرض … وقبلت وبكل ترحاب لانّ ثمن ليلة واحدة في النزل يساوي ثمن اسبوع كامل مع الاشقاء .. لكنّ الامر لم يدم طويلا ..لسببين… اولهما هو انني واثناء درس تطبيقي في الدورة عبرت عن اعجابي بما قدمه شقيق كويتي ..وهو ما اثار حفيظة وقلق بعض الاشقاء خاصة من الاردن واليمن… اي نعم كيف لي ان امدح عمل كويتي ؟؟ ارتأوا في الامر غرابة… الكويتي بالنسبة لهم “نذل من انذال العرب” اذن من العيب ان نمتدح ما يقدّم من اعمال .. نعم وانا كنت ومازلت ارفض مثل هذه المواقف ..وللامانة لي ولحدّ الان من الاصدقاء من يقلقون اذا تحدثت عن شخص لا يرون فيه الا الجانب الاسود … ربي يشفيهم ..

السبب الثاني الذي جعلني اغيّر موقع اقامتي، اتّصال احد مستمعيّ بي وهو مقيم كطالب في دمشق ليعرض عليّ السكنى بمنزله الذي يتسوغه مع تونسي اخر… هذا الصديق هو زميلي الان فيصل القاسمي… ورفض هذا الزميل وصديقه ان اقاسمهما ثمن إيجار المنزل… اي اتممت مشوار اقامتي ضيفا بينهما… شكرا فيصل وشكرا لصديقه الذي ابى الا ان يتحوّل معي الى المطار يوم عودتي من دمشق… يومها الديوانة السورية وكضريبة عن وزن المحمولات التي عندي، طالبتني بدفع مائة دولار… ولم يكن وقتها بمقدوري ذلك… تقدّم هذا الصديق وسدّد المبلغ وقبلت الامر شريطة ان اعيده الى احد افراد عائلته في تونس وكان ذلك…

دمشق هي مدينة تفوح بتاريخها وبمعالم تاريخها… ففيها ضريح صلاح الدين الايوبي بطل تحرير القدس وكيف لا ازوره والثم ضريحه… خاصة في زمننا هذا الذي قلّ فيها الرجال الابطال… وفيها الجامع الاموي الذي بناه عبد الملك بن مروان… هذا الجامع اكتشفته واكتشفت عظمته ليلا عندما دعاني صديقي السوري لقضاء سهرة باحد ملاهي دمشق … مكان ذلك الملهى كان بضاحية من ضواحي دمشق (هضبة قاسيون) والتي يقال عنها انها كانت مهبط ادم على الارض… طريقها جبلي تشبه لحد كبير الطريق الجبلية الرابطة بين اميلكار وسيدي بوسعيد… وهذه الطريق تُسمى شارع العشاق… وهو اسم على مسمّى… نعم هنالك “يتكوبل” السويرون لكي يهضموا ما اكلوه في عشائهم… او لكي ينعموا باطباق لذيذة من اطعمة العشق… وكل كوبل لاهي في نوّارو… وعلى عينك يا بنّاني… لو راتهم احدى جداتنا او امهاتنا لقلن عنهم (وفات الحشمة والجعرة اللطف)… الحشمة افهمها اما (الجعرة) فتبقى عندي كلمة مبهمة …

الملهى الدمشقي وكسائر الملاهي غربّية كانت ام عربيّة بما في ذلك الموجودة في مكة هذه الأيام… فيها ايضا ما لذّ وطاب من الاطعمة والمشروبات البريئة وغير البريئة وفيه ايضا العديد من المؤنسات… على شاكلة اخت سعيد صالح في العيال كبرت واللي تفتح للزبائن… لكن ما لفت انتباهي عند وصولي مع الصديق السوري ان حرّاس الملهى قاموا بالتحيّة العسكرية لهذا الصديق السوري ثمّ وبعد انقضاء السهرة لم ندفع لو ليرة واحدة سورية … وعندما نظرت اليه فهم انني عرفت من هو وابتسم كلانا لصاحبه دون كلمة واحدة… اي نعم هو كان احد اعوان المخابرات الذي رافقنا على امتداد الـ 21 يوما التي قضيتها في دمشق …

دمشق عشتها بكلّ عشق ..لانّها مدينة تتعلّق بك ربما اكثر مما تتعلّق بها… عانت الكثير عبر تاريخها ويبدو انّ قدرها المعاناة الدائمة… تذكّروا فقط ما فعله الدواعش فيها وبها ايّام كذبة الربيع العربي… قد نتفق مع آل الأسد او نختلف ولكن وتلك هي قناعتي… لو كان من يحكمها اثناء كذبة الربيع العربي عمر بن عبد العزيز لحدث لها ما حدث مع بشار…

23 اوت 2024

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version