من البارحة و حتى أيام مقبلة و أسابيع، ستكون بطلتنا أنس جابر سيدة تونس الأولى، و سيدة ساداتنا كذلك … و لن نتوقف عن شكر هذه المرأة التي رفعت رؤوسنا و معنوياتنا و أسعار علَمنا بمختلف أحجامه و أقمشته و أشكاله التي يتقن تفصيلها عمال نهج الباشا المهَرة …
مبعث الفرحة هو طبعا الانتصار … و قبل الانتصار الإصرار عليه و الحزن في غيابه و الموت دون الوصول إليه … لا شيء يعادل الفوز و لا معنى لخرافة الهزيمة المشرّفة التي يطنب المتحذلقون في شرحها و تبريرها كلما وقعت … و يشهد المولى أنني ما كنت قطّ أحد ممجّدي خسارة و لو كانت في لعبة بيس … و كم كنت دائم العجب ممن خرجوا للشوارع فرحين رغم هزيمتنا في نهائي جنوب إفريقيا، أو ممن رقصوا غبطة حين جاءت تونس الرابعة في مونديال اليد 2005، أو ممن هنّؤوا كمال بوعلي بـ “انتصاره” ذات سنة على لوكريدج … و أذكر وقتها أنني خرجت بسذاجة الأطفال قائلا: و لكن من رأينا الحكم يرفع يده في نهاية المباراة هو الملاكم الأمريكي الذي”هرّس” ولدنا تهريسا … فكاد الزملاء و بعض القرّاء يدفنونني حيّا …
و مع ذلك ما زلت على سذاجتي و براءتي … في هذه النقطة خاصة … فالمجد للمنتصرين، و العار للمهزومين و للراضين بالهزيمة و لمن يبرر لهم و لها، و لا يجد في ذلك خجلا … و كم قلنا أكثر من مرة بأن الأمم الكبرى يصنعها كسب المعارك الكبرى و حتى الصغرى … و أن مفهوم الشهادة و الشهداء و الاستشهاد مفهوم دعائي يُستعمل للتحريض على الخصم بقصد الفتك به … أما ما زاغ عن ذلك أو اكتفى بالعويل اللانهائي فتلك قصة عربية سنفردها بموضوع ذات مرة … و هناك فرق بين شعوب تعتبر قتلاها خسائر حرب لا بدّ من تفاديها أو الثأر لها أضعافا مضاعفة … و بين شعوب تستعمل قتلاها مناشف دمع و أدوات تسول على أبواب المنظمات الأممية …
الهزيمة ـ كالانتصار ـ تأتي من الداخل، من العمق، من الذات … الغازي الإسباني “كورتيس” أجهز على مملكة المكسيك المترامية (حوالي 7 مليون كم2 و عشرات الملايين من السكان) ببضعة بنادق و خيول و أقل من 600 رجل … و بعد مائتي سنة فعل البريطانيون نفس الشيء في شبه القارة الهندية ، قليل من الجند، قليل من العتاد، و كثرة كاثرة من خونة الداخل و الانهزاميين و المهزومين … علما بأن الدولتين الغازيتين المنتصرتين كانتا في البداية أصغر من أصغر “معتمديات” مستعمراتهما … إسبانيا بدأت كقرية نائية في ذرى جبال “البيرينيه” التي احتقر خطرها الحضور العربي بالأندلس فالتهمته برمّته في ما بعد … أما “بريطانيا العظمى” فلم تكن مساحتها الأصلية تزيد عن نصف مساحة تونس اليوم !
دعنا من هذه القصص التي تكمد الفؤاد، و لنعد إلى بطلتنا… ما أعجبني في شخصيتها أنها وضعت أمامها دائما التاج الأول هدفا دون سواه … و لم يكن يرضيها أن تصل إلى ربع نهائي أو نصف نهائي أو حتى نهائي وتقف هناك … كانت تحزن شديد الحزن و تبكي بحرقة كلما صادفتها عثرة قبل الوصول الأخير … فيما كان انبطاحيونا هنا يهللون لتلك الأدوار المتقدمة، و لمرتبة بين العشر الأوائل عالميا، و لتلك العلكة التي كم صرت أمجّها “أول عربية و إفريقية” … ماذا؟ و هل الفخر في أن تتفوق على البؤساء من بني قومك، أم في مصارعة الآخرين الذين هربوا بالجميع؟؟؟
برافو إذن، ألف برافو يا أنس … ليس للنتيجة فحسب لأن النتائج تأتي و لا تأتي، و لكن لهذا التصميم الذي قد يحرّك جبالا من موضعها … و هذا ما ينقصنا …