يا ساكن قرطاج لا تقل قول أبي العباس: “استعدّوا فأنا السفاح الهائج، والثائر المبيد” !
نشرت
قبل 3 سنوات
في
“فوق الأرض…في البحر…تحت الأرض…في السماء…والله سأتعقبهم حيثما كانوا” هذا ما قاله صانع التغيير الثاني في أحد تدخلاته متوجها للفاسدين، وكأني استمع إلى كولن بأول قبل غزو الماما أمريكا للعراق…حين أستمع إلى خطاب مثل هذا، وهذا ما نستمع إليه يوميا في كل لقاءات ساكن قرطاج وحديثه مع ضيوفه…
أقول حين أستمع إلى مثل هذا الخطاب العنيف، والمحرّض، والمهيّج لجمهور قيس سعيد، أقول كأن بساكن قرطاج أحرق كل ما كتبه ميكافلي، فكل قواعد وقوانين حكم البشر وقيادتهم أصبحت لاغية وغير صالحة بما يأتيه “مولانا” اليوم…والغريب أن الآلاف من متابعي ومساندي قيس سعيد سعداء بهذا الخطاب، ويشعرون وهم يستمعون إليه بالنخوة والاعتزاز، وكأنهم في احدى حروب العرب مع مدللة الماما إسرائيل، فتراهم يصرخون في سرّهم وعلنهم “يطوّل عمرك يا قيسون التحفون”…وهنا أسأل مولانا هل أنت جاد في ما قلته وفي تهديدك ووعيدك؟ ألا تعتبر هذا الخطاب استعداء لفئة معيّنة من هذا البلد الطيب رغم بعض من فيه؟ فهل ستستعدي كل الفئات وكل القطاعات بما تفعل؟ ألا يحاول بعضهم جرّك إلى حرب مع الجميع؟ ألا يذكرك هذا الخطاب في من ذكرهم التاريخ في خانة الاستبداد والطغيان، فأغلبهم أو لنقل جميعهم كانوا يخاطبون شعوبهم أو جزءا من شعوبهم بهذه العبارات، وبتلك النبرة والحركة التي لم يقم بها سابقا أي رئيس عربي، ألا يحاول بعضهم إلصاق بعض الصفات بك بتحريضك على إتيان ذلك الخطاب؟
أقاسمك، بل لنقل جميعنا يقاسمك رغبتك الجامحة في مقاومة الفساد وجميعنا يدعم حربك على الفاسدين…لكن هل بهذه الطريقة نقاوم الفساد؟ هل بهذا الخطاب نكشف عن الفاسدين؟ سيقول بعض أتباعك إنه الخطاب الذي يليق بالفاسدين…وأقول إنه رئيس جمهورية تونس في القرن الحادي والعشرين…فلا تخدعوه…ولا تحوّلوا وجهته نحو أحقادكم وما تضمرون…مولاي…مقاومة الفساد تبدأ بسنّ القوانين….وبخلق الآليات المصاحبة…وبفرض العقوبات على من يتراخى في تطبيق القانون…مقاومة الفساد لا تكون بان يتحوّل رئيس البلاد كل يوم إلى مؤسسة بلغَهُ من مجهول أن صاحبها من زمرة الفاسدين، هكذا دون أدلة ودون بحث معمّق…فقط حسب بعض الأقوال، أتدري مولاي أنهم جعلوا منّي مليونيرا بعد 14 جانفي وإلى يومنا هذا وأنا ابحث عن ملاييني التي نُسبتْ إلي…ألهذه الدرجة رئيسنا لا عمل له غير الجري يمنة ويسرة ومطاردة الفاسدين بعصاه …أهكذا تقاوم الدول التي سبقتنا في هذا الأمر الفساد والفاسدين؟
أظنّ أن بعض من هم حولك تنقصهم الخبرة والتجربة في تسيير شؤون الدولة…أتدري أن من يوجهك إلى وجهة خاطئة يعتبر فاسدا…فقد يكون أخفى عنك الوجهة الصحيحة التي وجب أن تذهب إليها، وأنه مكلف بتحويل وجهتك إلى هناك …وهنا أسأل أكان يجب أن تتحوّل أنت إلى كل مؤسسة يشتبه في فسادها، ما الغاية من تحولك شخصيا إلى هناك؟ إن كان للتحريض الضمني لشعبك الذي تتحدث عنه في كل خطبك، فإن الشعوب غير مؤهلة لمحاكمة عقلانية وعادلة ومنطقية فبعض من يساندون ما تأتيه هم من الفئة “اللاواعية” والعنيفة تلك التي تدّعي أنها تبحث عن البناء والإصلاح، والحال أنها تريد الانتقام والهدم والتدمير…ألا تعلم أن ذلك هو ما أفسد علينا ما بعد 14 جانفي؟
مولاي أنت تطارد الفاسدين…والفساد حولك…وعلى مقربة منك…في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة…ألا يعتبر الواشي الذي يوجهك وجهة غير صحيحة فاسدا…ألا يعتبر من ينصحك نصيحة في غير محلها فاسدا…ألا يمكن اعتبار من يشجعك على الخطأ فاسدا…ألا يمكن اعتبار من يصفّق لك وأنت في طريق الخطإ فاسدا…
مولاي الفساد متجذّر فينا…ففي كل مؤسسة يعترضنا ضحاياه…هل بلغ إلى علمك أن أغلب مؤسسات الدولة أصبحت تنتدب بالوراثة…ألا تعلم أن الأب، والابنة، والابن، والأخ، وابن العم قد تجدهم جميعا في مؤسسة واحدة…والمئات من الشباب العاطل يموت غرقا في المتوسط… أتدري يا مولاي أن الخطط الوظيفية تباع بالمزاد في جلسات البيعة والولاء يكون لصوت النقابة فيها القرار الأخير…أتدري أن المناظرات أصبحت ملكا لساكن ساحة محمد علي، فهو من يختار توقيتها وهو من يختار من يجتازها، وهو في الأخير من يختار قائمة الناجحين فيها…وهذا منذ عشر سنوات، فسابقا كان لقيادات الاتحاد وطنيا وجهويا نصيبهم “تحت الطاولة” ويروج بعضهم أن بعضهم يفرطون في نصيبهم في الانتداب بالبيع…أو حتى الكراء…ولمن يدفع أكثر…
أتدري يا مولاي أن النقل الصيفية هي ملفات فساد متحركة…فللنقابات النصيب الأوفر من ملفات النقل…ولها القرار الأعلى والأكبر، لمن…أحيانا…ودائما…وكثيرا…يدفع أكثر…أتدري أن التوجيه الجامعي يباع ويشترى…ولمن يدفع أكثر…أتدري أن رخص السياقة تباع في الأزقة الخلفية…
مولاي، تبحث عن الفاسدين…أنصحك بالنبش في ملفات الصفقات الكبرى…صفقات التجهيز…وصفقات التموين…في كل الوزارات…ستجد ملفات بحجم الجبال…أتساءلت لماذا ترهلت أغلب طرقاتنا قبل بلوغها سنّ الرشد…اسأل صاحب الصفقة ومن هم حوله…أتساءلت لماذا تعيش كل مدارسنا حالة من الدمار والخراب…عليك بصاحب الصفقة…أتساءلت عن حال بعض سياراتنا الإدارية…اسأل المعنيين بورشات السيارات بكل الوزارات…
أتعلم مولاي أن المرور من درجة إلى أخرى ومن رتبة إدارية إلى أخرى، يمر عبر عشاء فاخر بأحد المطاعم السياحية أو حتى “باكو محشي تطاوين”…أتدري أن خلاص المقاولين قد يتأخر أحيانا إلى يوم موت صاحبه…أتدري أنه يمرّ أحيانا ببناء بيت صغير في مزرعة ريفية…أو إضافة غرفة لمسكن لم يعد يكفي كل العائلة…أو تذكرة طائرة إلى باريس أو جولة على الحساب إلى جزر القمر …أو في أتعس الحالات عشاء بأحد مطاعم حلق الوادي صحبة العائلة والأحباب والاصحاب، وفي غيابهم نأتي بكلمة أخرى تنتهي بالـــ”آب”…
تريد أن أحدثك عن الفساد…أتدري مولاي أن اليوم وأعي ما أقول، اليوم تتأخر مراسلات مصيرية لبعض أعوان الإدارة إلى أكثر من ستة أشهر…أتدري سيدي أن كل الرخص في كل القطاعات تمر عبر “شد مدّ يا حمد”…تريد أن تعرف أين يكمن الفساد…أتدري أن بعض مدراء المؤسسات وبعض الوزراء وبعض القائمين على العديد من الإدارات يطلبون من كفاءات صنعت ربيع الإدارة التونسية بالمكوث في بيوتهم مع تمتعهم بمرتباتهم وشعارهم “اخطاني وابعدني منك”…أتدري لماذا…لأنهم كفاءات عليا قد تكشف تلاعبهم…وقد تكشف الخراب الذي تعرفه الإدارة التونسية حاليا…فيخيرون تركهم بعيدا عنهم مع ضمان صرف أجورهم…أتدري أن هذا الأمر يخصّ عشرات الآلاف… وهذا ما يسمونه في لغة الإدارة “فلان حطوه في الفريجيدير”…أتدرى أن حجم ثلاجة الإدارة التونسية بعدد موظفي احدى الدول الإسكندينافية…فهل تنجح في الإفراج عنهم وإعادتهم إلى حلقة الإنتاج والإصلاح…
أعرفت الآن مولاي لماذا استغربت عنف خطابك…فبعضهم يريدك كذلك لينتقم لنفسه من البعض الآخر بيدك…أتدري أنك لن تنجح ولن تتقدّم خطوة واحدة، دون أن تجمع الجميع حولك…فالحروب والعداوات لن تصنع ربيعك ولا ربيع هذا الوطن…إنهم يورطونك في حروب واهية…وفي صراعات لا موجب لها…اجمع الجميع حولك…وناقش أمر إصلاح حال البلاد دون تشنّج ولا تسلك طريق الاستعداء فإننا نجهل تبعاته ونخشاها…فالرئيس ليس في حاجة إلى كل هذا الكمّ من الانفعالات التحريضية، فقد تنتقل في مراحل متقدّمة من مرحلة التفاخر والبطولة إلى مرحلة أشد فتكا واشد عنفا، فالشعب وهو المتلقّي للخطاب التحريضي يمكن أن ينقلب إلى جلاد يدفعك الى الانتقام والثأر له…والواضح أن من تسميهم “الشعب يريد” ومن خلال تفاعلهم على منصات التواصل الاجتماعي، يعيشون كل أنواع التشنّج العاطفي والتأثيرات المزاجية، التي قد تنتقل من مجرّد تعليق افتراضي إلى عنف لفظي قد يتطوّر إلى ما لا تحمد عقباه…فالشعب المزاجي والمسكون بالعواطف والانفعالات شبيه بأوراق الشجر التي يتلاعب بها الاعصار ثم يقذفها هنا وهناك ثم تسقط أرضا بعد مرور الإعصار لتمرّ فوقها الأحذية والنعال…ونحن اليوم في قلب الإعصار…فمن يستمع إليك في ما تقوله يخرج بخلاصة واحدة وهي أنك تشعر داخلك بالحقد والكراهية ولا نعرف بالضبط لمن؟…ولا أظنّ أن هذه البلاد التي عانت طويلا من الأحقاد في حاجة إلى رئيس يحمل ذرّة واحدة من الكراهية بل في حاجة إلى رئيس يحبه كل الناس …ويحبّ كل الناس…فليس عليك أن تكره الفاسدين ولا أن تصرخ أمام الشعب كل الشعب بمثل ما صرخت ولا أن تأتي بتلك الحركة فالقضاء هو من يتكفل بأمر الفاسدين ومن معهم…
عندما بايع العباسيون أبا العباس السفاح معلنين أنهم الأحق بالخلافة، سار السفاح إلى المسجد يوم الجمعة وصعد المنبر وخطب بالناس، ذاكراً أحقيتهم – أي العباسيين- بالخلافة، و في نهاية خطبته قال: “وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج، والثائر المبيد”. فلا تقل قول أبي العباس…وعليك بحبّ الناس حتى يحبّك الناس…كل الناس…