بيد على القلب و ساق على الجمر، ينتظر التونسي خروج قانون المالية الجديد إلى النور … خروج القانون؟ بل هو خرج فعلا في شكل تسريبات، إشاعات، هلوَسات، شنشنات، دندنات قل ما شئت … و لكن الأحداث علّمتنا أن التسريب لا يأتي من عدم، و أن الإشاعة أمّ الحقيقة …
قانون الميزانية الجديد لا يبشّر بأي خير … و كيف له أن يبشّرنا و غربان السوء ما انفكّوا يتوعّدوننا منذ أسابيع و أشهر بأننا مقدمون على سنوات حُلك … كلّهم بخبرائهم و منظّريهم و جامعييهم و أخصّائييهم و طائفة من الألقاب تجعلك تتساءل و لماذا ترك الأجانب لنا هؤلاء الأفذاذ و هجرة الأدمغة في عنفوانها؟ … حتى إذا ابتلع بعضنا ريقه و تشجّع و سألهم بعد هذه الغارة: إذن ما الحلّ؟ تسمع منهم أجوبة و حلولا كوجوههم … إلى درجة يحضرك فيه بيت شوقي: و أخفّ من بعض الدواء الداء …
لا تسمع إلا كلاما من فئة: لا بدّ من مصارحة الشعب، و لا بدّ من إصلاحات ضرورية، و لا بدّ من إجراءات موجعة … صحيح لسنا من خرّيجي “هارفارد” مثلهم، و لا من الحاصلين على “نوبل” في الاقتصاد كما حصلوا عليها، و لكننا نملك فقط القدرة على الحيرة و التساؤل و الذهاب في السؤال إلى آخره … مثلا: مصارحة الشعب بماذا؟ بأن الدولة أفلست؟ بأن البلاد تهردت؟ بأن حكّامنا بين سارق و جاهل؟ … هذا نعرفه و قد صارحَنا به واقعنا المشؤوم قبل أن تصارحونا … الإصلاحات؟ و هل تسمي بيع القطاع العام لخواص الخارج و الداخل إصلاحات؟ و هل تلك الحثالة الباقية المهلهلة من قطاعنا العام ما زالت تساوي شيئا و لو عرضناها في سوق الخردة؟ و آلاف البشر الذين “يشتغلون” بها أين سترمي بهم؟ إلى البطالة المنتفخة بطبعها؟ إلى الصناديق الاجتماعية المكسورة الظهر؟ إلى الدول المجاورة و الأمم المناورة و البحر الملاصق؟
نأتي إلى الإجراءات الموجعة … لم يحدد الناصحون أوّلا موجعة لمن؟ … ألا يكفي ما عانيناه منذ عشر سنوات تلت سنة أو سنتين قبل 2011 و أوصلتنا إلى انفجار 2011 … الآن كل الانفجارات جرّبناها و لم تعد قادرة على تحريك شيء و لو بالفقاع النووي … البلاد خربت و لم تعد فيها دولة نحتجّ عليها و نفشّ فيها غُلّنا … جماعة العشرية السوداء حوّلوا السلطة إلى مشاعة بدائية و تناولوها بالظفر و الناب فلم يبق سوى العظم الأبيض من غير سوء … و لكن هذا ليس ذريعة لمن يحكمون اليوم لكي يقولوا ما باليد حيلة …
لا تصارحونا بشيء، و لا تصلحوا أي شيء إذا كانت إصلاحاتكم من تلك الشاكلة … و إذا كان فيكم بعض من سادية التلذذ بأوجاع الآخرين، فليس هناك خير من جواركم الوثير … اغرفوا من عصابات الريع و مدللي قوانين الحماية الاقتصادية و العائلات المحظوظة أبد الدهر … و هاتوا لنا … قولوا للقطاع الخاص (إن كان لنا فعلا قطاع خاص) أن يكفّ عن الطمع في وراثة الدولة و شركاتها، و ليُغامر بأفكار جديدة فيها جهد و قيام مبكر … عودوا إلى محاضن المؤسسات، تلك المحاضن التي أغلقت بعد 2011 بعد أن درّبت في السابق آلاف الشباب على بعث المشاريع و ها هم الآن معلقون في الهواء … ارموا إلى المحرقة بأطنان القوانين و المناشير و الفصول المعقّدة التي تعيق الشباب على أن يستثمر و ينجح …
و هنا بالتحديد نخدم هذا الجسم الهلامي المسمى بـ “الشباب” و الذي يستعمله رئيسنا حتى البشم … افتحوا أمامه طريق العمل، لا منصات إلكترونية مضعضعة الركائز، ستفضي حتما إلى وعود و برامج لن تتحقق و لو بعد نصف قرن … فهل ستعيش يا رئيسنا خمسين سنة أخرى؟ و إن عشتها (طال عمرك) فهل ستبقى خلالها رئيسا لتونس؟