جور نار

يوم دُفن الزعيم

نشرت

في

الذين عاشوا مثلي قسما كبيرا من حياتهم تحت حكم المرحوم الحبيب بورقيبة، مؤسس تونس الجمهورية، لا يمكن أن يكون حكمهم على الرجل موضوعيا في المطلق… فهناك منا من يحبه حب عبادة لا تفسير له، و هناك آخرون يكنّون له حقدا أسود غريبا لا تفسير له أيضا …

شهادة ذلك الجيل الذي عاش بين خمسينات و ثمانينات القرن الماضي، لا يمكن إلا أن تكون شهادة مجروحة في لغة القضاء !

<strong>عبد القادر المقري<strong>

ففينا من وُلد في المستشفيات التي بنى معظمها بورقيبة … و الذي وُلد في الدار مثل حالي، فإنه تلقّى تلاقيحه الأولى في مراكز رعاية الأم و الطفل التي بُنيت هي أيضا في زمن بورقيبة … و بعد ذلك درسنا مجتمعين في مدارس بورقيبة، و على أيدي معلمين عظام تكوّنوا في معاهد الترشيح الرائعة التي أنشأها نظام بورقيبة التعليمي … و بعد ذلك انتقلنا إلى معاهد ثانوية و مبيتات كانت دولة بورقيبة تدفع لها بدلا منّا … و نفس الكلام يقال عن الجامعة و منحتها و سكناها و مطاعمها و نشاطها الثقافي الغزير، فضلا عن نوعية التعليم و ديمقراطيته التي نتحسّر الآن على رحيلها …

كان الزعيم حاضرا في واقعنا و وجداننا و أخبار نشرتنا و غناء مغنينا و لافتات شوارعنا و براويز محلاتنا و مضارب أمثالنا و الكثير الكثير من حكاياتنا و حتى نوادرنا … و منها مثلا ما قاله في أذني تلميذ و كنا في الرابعة أو الخامسة ابتدائي: “لو يموت بورقيبة فإننا سنحصل على عطلة بشهر كامل” … و طبعا هذا الكلام كان همسا، فحتى الأطفال لهم حيطة فطرية في هذه الأمور …

وفاة الزعيم بقدر ما كانت تجذب غرائزنا الصغيرة، كانت تشعرنا بخوف أرقط من مصير مجهول … و الأبوّة و فقدانها ليسا على سهولة، هذا إذا انحصر اليتم في عائلة فما بالك بشعب … كنا نشعر برهبة و نستبعد تماما أن يفجعنا رب السماوات في والدنا الذي في المنزل، و أبينا الذي في عرش قرطاج …

و مع ذلك فقد كرّ الزمن عنيدا، و رحل تباعا كل من الأبوين و معهما طائفة واسعة من الأحبة …

عشنا إلى تلك السنة التي لم يعد بورقيبة فيها رئيسا … شيء لا يصدّق … و زدنا عشنا 13 سنة أخرى إلى أن جاءنا خبر وفاته … كذبت نبوءة صاحبي البعيدة و لم نسترح شهرا، و لكن حزنا عميقا هناك، هناك في أعماق القلب نشأ و نما و طفح على وجوهنا … لقد مات الزعيم الكبير، و انكشفت فضائله التي لم نكن نراها و هو حيّ قويّ بيننا … و ترحّمنا عليه بمحبة و لم نزل نذكره و نذكر عصره بكل خير …

كل عواطفنا معه و مع ذكراه و هو الذي قاسمنا حياتنا و ذكرياتنا زمنا مديدا … و كل دعواتنا له بأن يكون في أرفع مراتب الجنة و هو بها جدير و ألف جدير …

و لكن عقولنا، عقولنا التي له أكبر فضل في تعليمها و تثقيفها و تمكينها من ملَكة التفكير … هذه العقول تقول لنا بضع جُمل و استنتاجات:

1) بورقيبة كان قائدا نادر الوجود، خاصة في تونس، و لكن ذلك يعود في جزء منه إلى بلدنا الشحيح في إنجاب كبار الرجال

2) بورقيبة كان نظيف اليد و لم يحقق ثروة من مال الشعب… و لكن ربما لأنه كان يعتبر البلاد كلها ملكا له، و لا يحتاج إلى جزء منها.

3) بورقيبة ارتقى بتونس إلى مراتب إقليمية محترمة … و لكنه لم يحقق معجزات خارقة كما فعل “ميجي” في اليابان، و “مهاتير” في ماليزيا، و “لي كوان يو” في سنغافورة، و أخيرا “كاغامي” في رواندا

4) بورقيبة لم يكن أحد الخلفاء الراشدين … و لكنه دافع عن هوية البلاد الدينية كما لم يدافع أحد زمن الاستعمار، كما بنى من المساجد و الجوامع ما لم يتم بناؤه منذ دخول الإسلام إلى إفريقيّة

5) بورقيبة غادر السلطة من الباب الصغير و دون رضاه … و لكن ذلك لم يكن “انقلابا” كما يروّج بعضنا زورا، بل وفق دستور كان أعدّه بنفسه و وضع فيه شروط تنحيته من الحكم.

6) بورقيبة لم يكن حرّا في سنواته الأخيرة … و لكنه حتى في أيام عزّه، كان يقطن قصرا منيعا، و يخرج منه محاطا بحراسة مشددة و لا يتجوّل سائبا في الأسواق، كما يتحسّر أدعياء نصرته، و خاصة أعداؤه و هم ليسوا قليلين …

7) بورقيبة لم يحصل على جنازة شعبية بملايين الناس كما يتغبّن مدّعي البكاء عليه … و لكن ملايين الناس رأيناهم عشية السبت 7 نوفمبر 1987 يخرجون مبتهجين لزوال سيطرته الأبدية على البلاد …

… و هؤلاء الملايين أنفسهم خرجوا إلى الشوارع في عشية أخرى، منادين بإسقاط من كانوا هللوا لحلوله مكان بورقيبة … قبل 23 سنة، و شهرين، و سبعة أيام …

و التاريخ في ظاهره …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version