جور نار

يوم واحد، يوم فقط !

نشرت

في

رغم عشقي الكبير لعندليب صبانا و شبابنا، فإن أعذب ما سمعت ليس منه بل من صوت آخر يقول:

“خذ عمري كله

بس النهاردة

خليني أعيش”

و تلك أيضا برأيي أصدق جملة عبّرت بها و عنها ـ عروقا و وجها و حنجرة ـ أم كلثوم …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

لسنا هنا في معرض أحاديث الغناء و الطرب، فوضع بلادنا لا يُعجب و لا يطرب … اقتصاديا خاصة … الأسعار عادت إلى عنان السماء، و المؤشرات جميعها في الأحمر، و ترتيبنا بين الدول المدينة (من الديْن) ما يزال مفزعا، و لم يعد ممكنا الحديث عن ناتج داخلي خام و علاقته بكل هذا … فمنذ سنين لم يعد أحد يسأل عن إنتاج أو منتجين، بل تكاثرت على جنبيك قطعان الطفيليين و تنابلة الريْع، و تكدّست ثروات بلا مصدر و لا مصير، و تراكمت سيولات نقدية دون أن يشتغل أحد، لا عامل و لا صاحب عمل … و لا حديث عمّا لا يذهب من ذلك إلى خزينة الدولة التي تم تجريفها المرة تلو المرة منذ 2011، و ها نحن نستلف لخلاص القائمين على مرفقنا العمومي كيلا تموت البلاد … بمعدل قرض خارجي تقريبا في كل رأس شهر !

لقد أتى تتار العصر على كل أخضر و يابس في دنيانا، و استبيح حاضرنا و مستقبلنا و تمّ توزيعهما غنائم و أنصبة و ملذّات … و راح تعب عشرات السنين و عرق ملايين الناس مكافآت و تعويضات و اقتصاصا وقحا من شعب ذاهل لا حول له و لا قوة … و الذي يشكّ في هذا، عليه أن ينظر إلى المباني الضخمة الفخمة التي ترتفع كل يوم منذ 2011 رغم التهاب أثمان مواد البناء و تكلفته عموما … و إلى عقاراتنا الزراعية التي أعيد تفريقها و احتلالها دون حق، مما خلق لدينا طبقة جديدة من كبار المالكين لم يكن لهم بالأمس القريب أكثر من سروال و قميص و نعل مثقوب … و إلى آلاف السيارات غير الشعبية التي عند التثبت في من يمسك مقودها، ترى معظمها بأيدي سائقات مبتدئات لا يكاد يظهر لهنّ وجه و لا جسد من أثر التقوى …

و تتشابك الصورة و تتلخبط و يتناسل في هذا الحقل المريض: تعويضيون على كناترية على أنصار على أحزمة على متقاسمي سلطة على نوّاب على باعة أصوات على عملاء سفارات على غزاة بلديات على مشاة على وشاة على رشاة على مرتشين … و يتعاظم ألمك و أنت ترى مشهدنا العام يتدهور، و شوارعنا الرئيسية و غير الرئيسية تتوغل في البؤس، و وسط عاصمتنا يتحول إلى كوم من الظلام و الفوضى و الزبالة و البنايات المتداعية … و بعد أن كنّا نمرح الساعات في شارعنا الطويل ذات زمن، بين أكشاك جرائده التاريخية، و معارض الزهور الضاجّة فرحا و ألوانا، و مسرحه البلدي الأنيق الحافل دوما، و مقاهيه و حاناته و منتدياته و قاعات سينمائه … بعد هذا، صرت تمرّ من هناك مسرعا خائفا كأنك تعبر مقبرة أو بقايا ساحة وغى …

لن أطيل و لن أوجع و أتوجّع أكثر … فما يلفت نظرك في تونس أن الكل يعرف الكلّ، و ما لا تذكره أنت يذكره مكانك آلاف، و ما لا تتذكّره يتذكّرونه … لا يخفى عن بني وطنك شيء، و لا ينسون شيئا و هذا تنبيه لمن يراهنون على قصر ذاكرة الشعوب … و قد خرج بعض من هؤلاء يوم 25، و كان يمكن أن يستمرّ ذلك أيّاما و تنقلع لافتات أخرى و تُحرق مقرّات و تخرج إلى النور وثائق سرية أكثر و أكبر … و وحدهم العميان و الطُرش لم يروا و لم يسمعوا و ما زالوا يعلكون الحديث عن شرعية مغشوشة طارت مع أوّل هبّة … و لو كان فيهم شيء من عقل و نظر و حياء، لأعادوا ما سرقوه قبل أن يُستعاد منهم، و لاستسلموا استسلام النادمين عسى أن يخفف ذلك غلواء الناس و غليانهم … و لكن لم يحصل سوى العكس، فإذا الباغي يظل دوما باغيا، و الهروب إلى الأمام كان على الدهر شيمة اللصوص و الطغاة و الفجَرة …

و مثلما عبّر يوم واحد عن غضب عشر سنين، فبإمكان يوم واحد … يوم فقط … أن يشهد إنصاف شعب مظلوم من ظالميه، و تدفيع السرّاق و القاتلين ثمن ما اقترفوه أضعافا، و إرجاع البسمة و الضحكة و حتى القهقهة السعيدة … إلى اثني عشر مليون وجه، حفرت عليها سنوات البغْي اثني عشر مليون ندب غائر، و ملامح العائدين من جنازة قريب حبيب …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version