هكذا كتب الشاعر بلقاسم اليعقوبي رحمه الله و غنّت آمال الحمروني دام صوتها الناصع… و كأنّي بهما استبقا حجم المآسي التي ستعيشها الإنسانية و التونسيون بصورة خاصة في ألفين و عشرين الذين كادُوا يفقدون كل مقومات العيش الكريم و يئسوا من الرفاه الموعود فراحوا يبحثون عن ملجإ غذائي و حيوي في البْسيسة و الأكلات الشعبية و ملابس الروبافيكا و الخضر المنزلية و ما فسد من الكاكاويّة.
في 2020، ودّعتُ قطعة تاريخية من رُوحي، و من بهجتها و من الأمل في حياة موعودة للفرح و الامتلاء. فقدت أبي الذي كان واحدا من الذين صدّرتهم الدولة التونسية في سياق الهجرةالنظامية ليعمل بالبلاد الفرنسية كقوة عمل صالحة للبناء و التشييد. زُرته ذات يوم في مدينة نانت بشمال فرنسا لأكتشف أن دولة غير قادرة على الاحتفاظ بطاقاتها الأرضية و الذهنية و المهارية… هي دولة ساقطة لا محالة و جديرة بكل سبابنا و شتائمنا.
في 2020، غزانا الكوفيد البليد و دجّننا و فرض علينا نسق حياة لم نكن نتوقّعه إلا في حالات الحروب الكونية و الأوبئة التاريخية. أعلن ولادة تحوّلات كُبرى ستطبع العالم بأسره لعقود أخرى مثل القطع مع أشكال العمل التقليدية و أعراف الحب و العشق و”التلوصيق” و التقارب المتعارف عليها و التأسيس لعلاقات اجتماعية جديدة مبنية على التباعد و التنافر و لا تاذيني ولا ناذيك.
في 2020، صُدِمنا بأن المبادئ الجميلة و القيم النبيلة و المُثل الانسانية لا تُوصل أصحابها إلى السلطة السياسية و إنما قليلو الحياء و أصحاب العضلات المفتولة و المتخصصون في التهريب و التخريب و التبوريب هم من يقدرون على افتكاك أصوات المُغفّلين و الطمّاعين و من لا أخلاق لهم. و قد بيّن تقرير محكمة المحاسبات أن المال المتدفّق بسخاء من السماء و الوطاء هو من حسم جزء كبيرا من المعركة انتخابيا و اشرب و إلا طيّر قرنك.
في 2020، وقع طبع التطبيع و استنساخه على امتداد بلاد العرب في تنكّر بذيء و فاحش لأسماء أحببناها و عشقناها و استشهدنا ببطولتها أو بحَرْفِها وحِنكتها مثل غسان كنفاني و كوزو أوكاموتو و معين بسيسو و ياسر عرفات و جورج حبش و درويش و سعد صايل… و إذا كانت موازين القوى لا تسمح اليوم بفرض الحل الأعدل، فلا تقبروا أكبر قضية عادلة في الكون : قضية الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في استرجاع أرضه و تاريخه و زيتونه في جنين و عنبه في الخليل و تينه في نابلس و ليمونه في قلقيلية.
في 2020، ذُبح المواطن التونسي عقبة الذيبي بحاسي الفريد متأثرا بنزيف مقولات ردمها التاريخ منذ عشرات القرون مثل “كُتب عليكم القتال و هو كُره لكم…” نزيف اقترفته كمشة من المتأثرين الأشاوس بدعاة صحراويين يعيشون على النكاح و النباح و الصياح المباح في ظل موجات اغتيال العقل المعولمة.
في 2020، غادرنا أناس غير عاديين أطربونا بموسيقاهم العذبة و مواقفهم الوطنية الصلبة أو إقامة بعضهم في عذب الكلام و موسيقى الحروف مثل منصف وناس الذي قال “الشخص غير المدمج اجتماعيا و تنمويا ليس لديه ما يخسر و لا ينتظر أشياء كثيرة من المجتمع” و ألبير ممّي الذي قال “رغم اعتقادي بأنني على صواب،و أن الحقيقة موجودة، فإنني لن أفعل شيئا من أجل إكراه الناس عليها” … و الشاذلي القليبي المعروف بـــ”مثقف السياسيين و سياسي المثقفين” … و جيلبار النقاش الذي دوّن “إن بورقيبة أبا الاستقلال نجح في المرور بتونس إلى عهد من العقلانية في القرن العشرين لكن هذا الخيار لا يجب أن يحجب عنّا الوجه المُظلم في البورقيبية” … وزهيرة سالم التي غنّت “أنتي زمن النور و زمن الحب .. يا أمي …أنتي زمن الفرح و نبض القلب .. يا أمي“ … و نعمة التي أمتعتنا بـــ”نغمّض عيني نقول ما شفتش… نكذّب وذني نقول ما سمعتش…و انــــــتي عامل ما فهــمتش …تستــــــــــــخايل عدّيت علينا…آش علينا آش علينا“. وجيزيل حليمي التي ترى أنه “لا يمكن قبول أية عقيدة إذا كانت هي نفسها غير متسامحة و لا تقبل الآخر“… و غيرهم.
في 2020، سقط الطبيب المقيم بدر الدين العلوي من المصعد السّاقط بمستشفى جندوبة و شكّل سقوطه وهو يؤدّي واجبه المقدس تحرير شهادة وفاة قطاع الصحة العمومية الذي ظل يتآكل على امتداد عقود إلى أن استفحلت أزمته و تعقّد وضعه و ساءت حوْكمته و انكمشت ميزانيته…و مازلنا ننتظر “اللطخة” الأخيرة.
في 2020، أمضت الحكومة “اتفاق الكامور” مع مجموعة من الشباب تنظموا في تنسيقية و أغلقوا “فانة” إنتاج البترول تأسيسا لنهج تنموي جديد شعاره “كل جهة تشد فانتها…و كان ما عندهاش فانة بترول، تشوفلها حتى سبيبيلة و إلاّ غْمُرْ سْبُولْ“.
في 2020، إكتشفنا أن رأس المال الطفيلي لا أخلاق له و لا محاذير إذ عمدت مؤسسة تونسية أصيلة إلى توريد نفايات إيطالية بنيّة دفنها في أحشاء الأرض الوطنية… و اكتشفنا أن إطارات غير سامية بالمرة من أسلاك متنوعة ساهمت في التستّر على هذه الجريمة و تسهيل اقترافها …و المؤسف أن هذه الفضيحة لم تكن معزولة بل حلقة من سلسلة فضائح أخرى تعلقت بما عُرف بالقمح المسرطن و الكاكاوية الفاسدة و قطع السيارات المغشوشة الخ…
و رغم ذلك سنُقبل على 2021 – شاءت أم أبت- بكل ما أوتينا من استبسال و استماتة لنقتلع نصيبنا من الأمل و الفرح و بهجة الحياة.