محمد الاطرش:
هل نحن بخير اليوم في تونس؟ وهل نحن كذلك في العالم أيضا؟؟ هل حقا لا شيء يقلقنا ولا شيء يعكّر صفونا ومزاجنا؟؟ هل نحن متصالحون مع ذاتنا ومع من هم حولنا؟ هل نحن حقّا بشر لنا ضمائر ومشاعر، ونحبّ كل الناس، ولا نستمع إلى همس الوسواس الخنّاس ومن يضمر الحقد لكل الناس، ولا نصدّق وشايات عمّ خليفة “البهناس” والخال مبروك “البزناس”…
هل نحن حقّا لا نكره، ولا نحمل ذرّة من الأحقاد في صدورنا؟؟ أليس من الواجب، ومن حقّ الأجيال القادمة علينا أن نعترف بصوت عال أننا لم نزرع حبّا في حقولنا، وأننا بذرنا الشوك فقط وقد تحصد أجيالنا القادمة الألم والوجع… أليس من الواجب ان نعترف بأن حياتنا ليست ورودا كما يزعم ويروّج بعضنا، وسماؤنا ليست بالزُرقة التي يزعمون ويصوّرون ويفاخرون… أليس من الواجب أيضا أن نعترف أن حياتنا ليست اشواكا في كامل مراحلها، كما يزعم البعض ويثقل كاهلها بكلّ خيباته ومعاناته ومآسيه وإخفاقاته وفشله… فالمتنبي كان على حقّ حين قال بأن العاقل يشقى في النعيم بعقله وبأن الجاهل يسعد في الشقاء بجهله… فالحياة أشواك وأوجاع حين يدرسها العاقل، ويحللها ويفكك شفرتها ويغوص في أعماقها ليردّ كل شيء إلى علّته…
كما أن هذه الحياة تصبح عند الجاهل ورودا، فتستعيد السماء زُرقتها وصفاءها وتعود العصافير إلى زقزقتها… فالجاهل يأخذ الحياة كما هي، كما جاءته بطبعها، دون أن يتعب نفسه وعقله في قراءتها وفهمها وتحليل معانيها وسبر أغوارها، وربما الغوص فيها لتأويلها… فالحياة في مختصر الحديث والكلام ليست مشرقة كالنهار كما يزعم ويصرخ ويروّج و”يفرض” بعضنا، وليست حالكة السواد كبعض ليالينا، كما يصرّ ويزعم ويتّهم ويروّج بعضنا الآخر… فبعضنا لا يصوّر الحياة إلا حين تصفو وتزهر وتظهر مفاتنا… وبعضنا الآخر لا يصوّر الحياة إلا في فسادها ومأساتها ووجعها… حياتنا طبخة عجيبة غريبة مُرّة المذاق … وحُلوة المذاق.. .سُمٌ وترياق… بطعم ودون طعم… جمعت بين الخير والشرّ… وبين الحزن والفرح… وبين الأمل واليأس… وبين الحب والكره… وبين الشكّ واليقين…
لسائل أن يسأل لماذا أصابتنا لعنة الحقد والكره في تونس، لا أحد يحب الآخر… وجميعنا يضمر الشرّ لجميعنا… لماذا طغى الحقد والكره على حياتنا؟ أتعلمون سادتي أتعلمون… أتعلمون أن في تونسنا اليوم بعضنا يكره بعضنا… وبعضنا يحقد على بعضنا… وبعضنا تأبط شرّا لبعضنا… وقليلنا فقط يحب قليلنا… أتدرون سبب ما نحن فيه من حقد… وكره… وشماتة؟؟ الكذب سادتي… الكذب هو أصل وجعنا… وسبب مأساة بعضنا إن لم نقل أغلبنا… فجميعنا يكذب على جميعنا… وجميعنا يلحق الأذى بجميعنا… وجميعنا يلفّق الأكاذيب بجميعنا… فيكره جميعنا جميعنا… نحن شعب يخاف الحقيقة… ويزيفها إن علم أنها ستؤلمه وستسبب له وجعا…
لقد أصبحنا نكذب بطلاقة وبلاغة لا مثيل لهما… نكذب ولا نتلعثم… نكذب لغاية ودون غاية… نكذب ونحن نعلم أننا نكذب… نكذب ونحن سعداء بأننا نكذب… نكذب ونحن نحقد… نكذب ونحن نمزح… نكذب ونحن نضمر السوء… نكذب ولا نبالي ولا نهتمّ بعواقب فعلتنا وما قد تكون تبعاتها… نكذب ولا نلتفت لضحايانا وما كذبناه… وما لفقناه… نكذب ونحن نعلم وجع وألم وتعب وعذاب من كذبنا عنه وعليه وورطناه… نكذب ونصدّق ما نكذب… ونواصل الكذب ونعيده ونكرره… ونفاخر بما كذبناه… فنحن نُقنع بالتكرار وليس بالحجّة والدليل والبرهان… هكذا زرعنا نبتة الحقد والكره في صدور بعضنا البعض… فأصبح الحقد جزءا من الهواء الذي نتنفّس… فماذا زرعنا وبذرنا… وماذا سيجني ويحصد أحفادنا غدا؟؟؟
حين كذبنا زرعنا الحقد… وحين جاء يوم الحصاد حصدنا الكره… أتعلمون أن جاري من اليمين يكره جاري من اليسار… وجاري من اليسار يكره جاري من اليمين ومن أقصى اليمين ومن الديمقراطيين والليبراليين والنقابيين والثوريين والقوميين والاشتراكيين والراقصين والمتأبطين لآلهتهم من الملحدين والهندوس والبوذيين ويكره حتى يده اليمنى وحماره الحزين ومن تبقى من الهنود الحمر المساكين… ويكره جميع من يحبون جاري وزوجة جاري ويكره حتى من يحفظون الستين من المؤمنات والمؤمنين من سورة البقرة إلى المعوذتين… وجار جاري من اليمين يكره جار جاري من اليسار… وجار جاري من اليسار يكره جار جار جاري من اليمين ويقسم بيوم الدين أنه عضو في اتحاد المكروهين، وناشط في حزب المنافقين… أتعلمون أن قطّ جاري من اليسار يكره قطّة جاري من اليمين ويهددها بأنه سيمنع عنها بقايا الدجاج وصحن السردين، وأنه أجّل كل ذلك إلى حين… أتعلمون أن كلبة جاري من اليمين تكره جاري وكلب جاري وسيارة زوجة جاري إلى يوم الدين… وهل تعلمون جازاكم الله خيرا ووقاكم شرّ الكره والكارهين أن “عمّ الصادق الحوانتي” أصبح من “المكروهين” و”المنبوذين” و”المنعوتين” ومن قرؤوا عليهم “ويل للمطففين” إلى يوم الدين، بسبب علبة حليب سُجلت بدفاترنا اليومية في عداد المفقودين… وأن ابن عمّتي الكوني اصبح لــــ”الحوانتي” من الكارهين والحاقدين بسبب كيلوغرام من السكر ورطل من الفارينة، ومن الحليب… علبتين…
هل تعلمون سادتي هل تعلمون… أن جاري الدستوري يكره جهرا جارتي النهضوية، ويهواها سرّا حين تعود مساء من “السهرية”… وجارتي النهضوية تكره جاري الدستوري، ويتبادلون الاسرى من الكلام الموبوء وشتائم السوء، حين تطالبه أحيانا باللجوء… وهل تعلمون إخوتي هل تعلمون أن جاري من اليسار المتطرف ومن أعضاء أحزاب اليسار المتطرف يكره جاري من اليمين المتطرف لأنه من قيادات أحزاب اليمين المتطرّف ولأنه يحفظ من الأحزاب “الستين” ويركب أحيانا الليموزين ويطعم جهرا المساكين ويجالس سرّا السكارى والمنافقين … وهل تعلمون سادتي هل تعلمون أن جاري من القوميين العروبيين الناصريين يكره جاري من اليمين، وجاري من اليسار وجار جاري الذي هو من الليبراليين وجارة جاري من الوسطيين والذي يقال انها من الديمقراطيات والديمقراطيين وجار جارتي الدستوري وجار جار جاري من الإسلاميين ويكره حتى المنظمات الحقوقية والسفارات الأجنبية وحتى بقرة عمّ إبراهيم “الحلايبي” المسكين… أتعلمون سادتي … أتعلمون أن جاري من اليمين يكره جاري من اليسار ومعه “عمّ المختار” لأنه يتابع كل الاخبار ويكشف كل الاسرار ويرويها همسا لكل الأجوار ويسلّم نسخة منها للإعلام إلى عمّ خليفة “السمسار”… “ملاّ خنّار يا عمّ المختار”…
هل تعلمون إخوتي، هل تذكرون وتفقهون كيف يزعمون، ويروجون، ويقولون، وفي الأخبار يتحدثون عن أن كل شعب الأغنياء والمعوزين من الفقراء والمساكين والمطحونين وحتى الميسورين لشركة الكهرباء وتوزيع المياه والهاتف القار والمحمول… يكرهون ومنهم يشتكون وبخدماتهم ينددون وعليهم وعلى فواتيرهم يحقدون ومع كل فاتورة اياديهم إلى السماء يرفعون، وبالدعاء والبكاء يجهشون، ويصرخون وللخالق مولانا ومولاهم يلتجئون… يطلبون يستغيثون… وحين بِقطْع الماء والكهرباء والهاتف يُهدَّدُون وبالتنبيه يُعلَمُون، “واقفون” ينتصبون ونحو مقرّات هذه الشركات يهرولون وهم لصدورهم يلطمون ويولولون وهمسا يشتمون، وبأعلى أصواتهم يصرخون “لبيكم … لبيكم إننا آتون…فالماء والكهرباء لا تقطعون…وخطنا الهاتفي لا تُسكِتون…سندفع ما علينا… وما طلبتم وما تأمرون”… وحين يصلون وفي أسوا حال أمام أعوان الشركة يقفون… يضعون ما في جيوبهم ويفرغون… وهم من رعب القطع والعطش والظلام يرتعشون… وبالتي هي أحسن ما جاءت به فواتيرهم وجادت به جيوبهم يدفعون… وببقية المبلغ على أقساط مؤجلة يلتزمون …وهم على انيابهم يكشرون… سعداء لا يصدّقون…
أعرفتم الآن كيف ان بعضنا بالحب مسكون…وأغلبنا بالحقد ممحون مجنون… جميعنا يراوح كما غنت نبيهة كراولي حين رفعت عقيرتها بالغناء قائلة: ” قالولي جاي قمت نكحل ونفوح… حضرت التاي ولفي مالأبعاد مروح… طال المشوار يا عذابي، والعقل احتار يا صحابي …قالولي راح قلت جعلته لا روح…” خيط رفيع جدا يفصل بين الحب والكره في هذه البلاد… في زمن لا أراك الله مكروها…