هذا النص لا علاقة له بالسياسة، لأن السياسة تنتج آثارا ميدانية تتأذّى منها الشعوب ظرفيا لكنها تنهض من بعدها دائما، أو عكس ذلك تُتيح نتائج إيجابية تُبنى عليها مراكمات كبرى بما يفيد الناس ويصنع رفاهها وبهجة حياتها…
لا وجود لسياسة أزلية دائمة أو رفاه أبدي أو بؤس لا ينتهي. كما لا وجود لسياسيين ينجون بسهولة من محاسبة التاريخ القاسية. فالسياسة زائلة لا محالة والسياسيون بائدون حتى وإن توهّموا أنهم فيها خالدون، وإلا لظلّت سبيطلة Sufetela مفترقا فلاحيا وتجاريا متطورا وراقيا يطيب فيها الاستحمام والاستجمام وتصدّر أجود أنواع الزيوت نحو روما، ولظلت بلاريجيا مقرا للاقامة الملكية النوميدية بفيلاتها الفخمة وبيوت استحمامها الخاصة ومسرحها وفسيفسائها…
بل لهذا النص علاقة فقط بالمزاج التونسي العام، مزاج التونسيين وتعاطيهم مع ما يحدث في بلادهم ونزوعهم الفطري إلى التشحّط والتخبّط والتغبّن والتفنّن في إبراز مساوئنا ومواطن ضعفنا وتأبيد الإقامة في مربّع “السكّر ما ثمّاش والروز ما لقيناش والخبز بالصف والقهوة بفلوسنا وما شريناش…”.
أريد التوقّف عند بعض الأخبار التونسية المُبهجة التي تقفز عليها القنوات والإذاعات رغم كونها تنعش الروح نسبيا وتُعيد بعض الأمل إلى أصحابه الشرعيين وتُقلّص ولو قليلا من مساحات اليأس المخصّب والكساد المُكدّس في كل الزوايا والثنايا.
لكن قبل ذلك، أدعوكم بلطف إلى التمعّن في هذا الموقف الذي عشتُه شخصيا بشكل تلقائي تماما والذي يصلح حسب تقديري لأن يكون تمرينا أكاديميا في دروس علم النفس الاجتماعي.
يتمثل هذا الموقف في مكالمة هاتفية صباحية وردت عليّ من صديق عزيز لا نتبادل بيننا التحايا بشكل تقليدي (يُسمّيني رئيس وأدعوه عميد، يقول لي حيّاك الله، فأجيبه “سوّي ترتيب” على الطريقة الشرقية، الخ…) وكنت حينها بصدد سقي بعض الشجيرات الناميات وإيقاد نار موازية لإعداد شاي أحمر لا يستقيم أي نشاط فلاحي بدونه. بادرني صديقي قائلا “كيف حالك الآن يا رجل؟” قلتُ : “يعيشك حضرة العميد، والله أنا الآن في وضع أُحسد عليه حقا”. أجابني مُسرعا وملتاعا “أعلاش اللطف، أشبيه صاحبي، لاباس ماهو ؟ !! “. صحّحتُ ما ظن أنه استمع إليه وأَقسَم لي بأنه استمع إلى “أنا في وضع لا أحسد عليه”. صدمتني الحكاية وبقيت أقلّبها لأنها دالّة وطريفة في نفس الوقت… إلى أن هاتفني صديق آخر، فأعدت معه نفس التجربة فكانت نفس النتيجة تماما في أدق تفاصيلها. أستحضر هذه الحكاية في علاقة بميلنا الطبيعي إلى استحضار “السلبي” و”الفاجع” قبل المُبهج والمُفرح دائما.
____الخبر الأول : رئيس الجمعية اليابانية للإقتصاد والتنمية في إفريقيا يؤكد على أهمية انطلاق المشروع التونسي الياباني المتمثل في مخبر لإنتاج الكواشف السريعة للحمل بتونس سنة 2023 .
وما يبرر الاهتمام بهكذا مشروع هو مجهود من سعى إليه والطاقة التشغيلية التي سيوفّرها واعتراف “الخبرة العلمية والتكنولوجية اليابانية” بالكفاءة التونسية ومهارة التقنيين التونسيين (وهو ليس بالأمر الهيّن مطلقا) إضافة إلى كونه سيجعل من تونس بوّابة تفتح على الأسواق الإفريقية الشاسعة (55 % من طاقة إنتاجه موجّهة نحو إفريقيا) وكذلك إمكانية أن يشمل المشروع إنتاج حقائب مكتملة لتصنيع الكشوفات المبكرة عن الأمراض بصورة عامة.
____الخبر الثاني : تمكّن شركة فوسفات قفصة من تصدير شحنتين من الفوسفات نحو إسبانيا وإيرلندا انطلاقا من ميناء صفاقس التجاري.
هذا الخبر في حدّ ذاته يُمتِعُ لأنه يحاول فسخ سجلّ الأخبار المحبطة والمدمرة للأعصاب من قبيل تعطل حركة قطارات نقل الفوسفات على الخط الحديدي رقم 13 أو دخول اعتصام أعوان الحظائر لمعمل المظيلة 2 عامه الثالث…
____الخبر الثالث : مجموعة الصناعات الجوية والفضائية التونسية “جيتاس” تمثل تونس في الصالون الدولي للطيران والفضاء باريس LE BOURGET (جوان 2023)
صالون “ليبورجيه” الفرنسي هو أكبر معرض طيران في العالم ويشهد سنويا مشاركة أكثر من 2500 شركة مختصة في المجال، وشاركت تونس عبر جناح بمساحة 100 متر مربع في القاعة الرئيسية للمعرض بحضور أكثر من 20 شركة عضو في المجموعة التونسية، ويُذكر أن صناعة مكوّنات الطائرات في تونس اليوم تمثل أكثر من 80 مؤسسة وتوفّر ما يُناهز الـ 17 ألف موطن شغل مباشر وتساهم بنسبة تفوق 3 % من الناتج الداخلي الخام.
____ الخبر الرابع : تمكّن فريق طبي تونسي من زرع قلب نابض في صدر طفل يعاني قصورا قلبيا
الخارق في هذا الإنجاز الطبي الباهر يتمثل في نُبل وشهامة عائلة تونسية تبرعت بقلب ابنها الذي كان في حالة موت سريري، لفائدة طفل آخر أُجريت عليه عملية جراحية ناجحة بمستشفى الرابطة على يد كفاءات طبية تونسية لم تُغرها آلاف اليوروات والدولارات خارج أرض الوطن. (هي في الواقع مُتعٌ كثيرة في متعة واحدة).
الخبر الخامس : 8 جامعات تونسية تحسّن ترتيبها في التصنيف العالمي
تمكّنت 8 جامعات تونسية عمومية هي جامعة منوبة، وجامعة تونس المنار، وجامعة صفاقس، وجامعة المنستير، وجامعة سوسة، وجامعة قابس، وجامعة قرطاج وجامعة تونس من تحسين ترتيبها العالمي في تصنيف “تايمز هاير ايديوكايشن” الذي يشمل 1799 مؤسسة للتعليم العالي في 104 دولة.
دون أن ننسى أن جامعاتنا تتنافس ضمن هذه المناظرة مع جامعات عريقة مثل جامعة أوكسفود البريطانية وجامعة هارفرد الأمريكية وجامعة كامبريدج البريطانية وجامعة ستانفورد الأمريكية وجامعة ماساشوستس الأمريكية المحتلة للمراكز الأولى دوليا. كما تجدر الإشارة إلى أن جامعة تونس المنار احتلت المركز الأول تونسيا ومغاربيا والمركز 976 عالميا.
الخبر السادس : أنس جابر تُتوّج ببطولة نينغبو الصينية المفتوحة للتنس
تقديري أن هذه الفتاة التونسية جدا تصنع صورة عذبة لتونس وللتونسيين لم يقدر عليها جميع وزراء السياحة المتعاقبين منذ الاستقلال.
حدّثني صديق زار العاصمة لندن مؤخرا وعنّ له أن يحتكّ باللندنيين الأوفياء لتقليد ارتياد المشارب بعد انتهاء حصص العمل المسائية، احتسى ما تيسّر له ولمّا همّ بتسوية الحساب قالت له صاحبة المحلّ بأن التشريعات الجديدة تفرض على الحرفاء تسديد استهلاكهم بواسطة البطاقة البنكية لا بواسطة الأموال نقدا، وهو السائح الذي لا يملك حسابا بنكيا قارا هناك. دار نقاش بينهما وأفهمها بأنه تونسي أتى إلى هناك لزيارة كريمته المهندسة… قالت له : ما دمت تونسيا ومن نفس جنسية تلك الفتاة الرائعة التي أمتعتنا في ويمبلدون لعبا وأخلاقا… أنت مُعفى تماما من الدفع هذا المساء !!!
الخبر السابع : المصنع التونسي “إسمنت قرطاج” ينتزع عقدا بتصدير مليون طن من الإسمنت نحو السوق الأمريكية.
ما هو إيجابي في هذه الصفقة أن مردودها سيعود بالفائدة لا على الشركة المعنية فحسب وإنما على ماليّتنا العمومية كذلك، خاصة أن المادة التي سيتم تصديرها هي الإسمنت (وليس الكلينكر الأقل ثمنا في السوق العالمية) وأن الطلبية الأمريكية قابلة للترفيع بعد سبتمبر بــ 500 ألف طن إضافي.
الخبر الثامن : أمين معلوف سكرتيرا دائما للأكاديمية الفرنسية
الروائي أمين معلوف ليس تونسيا ولكنه عربيّ لبناني ابن هذه التربة وملحها … وتوصّل إلى تحقيق مُنجز رمزي تاريخي (ليس بوسع من هبّ ودبّ حتى من الفرنسيين أنفسهم) أعتز به شخصيا لأنه يزيدني اقتناعا بأن ثقافتنا العربية لا تنتج التخلف والعنف فحسب وإنما تُفرز أيضا رجالا ونساءً يُناطحون الآخر فوق ميدانه. بالإضافة إلى أن عديد الباحثين والدارسين التونسيين لمعوا في الساحات الجامعية العالمية بفضل اشتغالهم على مؤلفات هذا الأمين غير المألوف كثيرا محليا ودوليا.