تابعنا على

جور نار

تكريما لواحدة من القامات التونسيّة الشّاهقة

نشرت

في

أُحْيي غدا الموافق لــ 10 أوت 2021 مع كلّ من عرف فقيد الجامعة التونسية محمد الطاهر المنصوري ذكرى مرور 5 سنوات على رحيله.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن هذا الرجل الذي نحت إسمه بحبر لا يمّحي في مدارج الجامعة التونسية والجامعات العربية والأجنبية والذي درّس وأطّر ورافق مجموعة كبيرة من دارسي التاريخ عامة والتاريخ الوسيط على وجه الدقّة…وخاصة عن ذلك الذي نبش باقتدار وجُرأة نادرة لا فقط في تاريخنا العربي الإسلامي ليتصادم رأسا مع ذهنية التحريم والتكفير (وهو الذي يقول في كتابه “مدارج الصّمت” أن “الكتابة التاريخية التي انتشرت في العالم الإسلامي لعبت أسوأ الأدوار في خلق تورّم في الذات العربية الإسلامية”  بل في معابر جامعاتنا ومدارجها لتواجهه “الأقلام الأكاديمية غير المصقولة” أيضا…)

سأتحدّث هذه المرة عن محمد الطاهر المنصوري من زاوية غير تقليدية مستعيدا بعض الأوجه في شخصيته ومسيرته الحياتية العادية لأن مُنجزه وأثره وترجماته ومقالاته وصَوْلاته في أقسام التاريخ ومخابر البحث وقاعات المحاضرات تونسيا وعربيا ودوليا تعُجّ بها مواقع الأنترنات والنصوص التأبينيّة الكثيرة التي حُبّرت إثر وفاته.

سأقسّم ورقتي بشأنك إلى جزئين : جزء أخصّصه لبعض الحكايات والطرائف التي كنت تؤثّث بها بعض مساحات الوقت القليلة التي تسترقها من جدول التزاماتك وشؤونك الجامعية المتعددة والمتنوعة وجزء متصل بحَبلان قرية المنشأ التي أنجبتك وأخصَبْتَها.

من ناحية مرويّاتك، سأحاول تمتيع من سيتسنّى له قراءة هذه الورقة ببعض ما بقي عالقا منها بذاكرتي لكونها طريفة وذات دلالات خاصة إضافة إلى كونك كنت تبدع في تشويقنا وحثّنا على الاستماع إليها بانتباه…وبقوة النّهر والتهديد بالزّجر أحيانا.  

الرّسول أرحم على أمّته من أصحابه !

كنت تحدثنا أن الرسول محمد الذي كان في بيته نسوةٌ من قريشٍ يُكَلِّمنه ويستشرنه، عاليةٌ أصواتهنَّ على صوته، فلمَّا استأذن عمر بن الخطاب؛ قُمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله، فدخل عمر والرسول يضحك، فقال عمر: أضحك الله سِنَّك يا رسول الله! فقال النَّبيُّ : «عجبت من هؤلاء اللاَّتي كنَّ عندي، فلمَّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» قال عمر: فأنت أحقُّ أن يهبن يا رسول الله! ثمَّ قال عمر: يا عدوَّات أنفسهنَّ! أتَهَبْنني، ولا تهبن رسول الله ؟!  فقلن : نعم أنت أفظُّ، وأغلظ من رسول الله. فقال الرّسول : «إِيهاً يا بن الخطَّاب! والَّذي نفسي بيده! ما لقيك الشَّيطان سالكاً فجّاً قطُّ إِلا سلك فجّاً غير فجِّك».

دافع عن سوائلك !

عندما انطلقت سنة 2011 حملات الفتح المُبين على يد الإسلاميين بشتى فرقهم ونِحلهم وحوصرت الحانات وأُغلقت محلاّت بيع السوائل الروحيّة ولُوحِق الزنادقة والمُشركين، بدأ التذمّر والتبرم يدبّ بارتياب في صفوف الناس وانتعشت السوق السوداء وأصبح شباب سيدي بوزيد الثورة يقطع مئات الكيلومترات نحو سبيطلة المُرَوْمَنة للفوز ببعض “القمر السائل السابح في الأذهان” كما يقول الشعراء ثم يعودون ليلا على أنغام :

وقلنا لساقينا : عليكَ فَعُد بنا

إلى مثلها بالأمس فالعَودُ أحمدُ

فجاءَ بها كأنّما في إنائه

بها الكوكبُ المرّيخُ، تصفُو وتُزبَدُ…

كان ردّ محمد الطاهر المنصوري بسيطا ولاذعا وحاسما في نفس الوقت: وهل تنتظرون مني أن أخوض المعركة عوضا عنكم… هذه حريتكم في الميزان إما أن تُقلعوا نهائيا أو أن تُدافعوا ببسالة وشرف عن سوائلكم…إن كنتم تعقلون.

كتابه “صمت المدارج” يُهديه إلى حفاة ثورة 2010-2011

يقول محمد الطاهر المنصوري في المقدمة بأنّ أحد أسباب اتّخاذه قراره بنشر كتابه هو يقينه بأنّ الوضع في الجامعة لم يتغيّر بعد الثورة، وليس هناك علامات تدل على أنّه سيتغيّر، بل بالعكس فإنّ الوضع في الجامعة التونسية- حسب ما جاء في الكتاب- ما فتئ يزداد سوءاً. ويشير إلى أنّ ثورة 14 جانفي هي التي دفعته إلى إصدار هذا الكتاب الذي ألّفه قبل أربع سنوات ولكنّه لم ينشره قائلا: “إنّ الثورة حرّرتنا من الدكتاتوريّة ومن أنفسنا أيضاً ومن خوفنا”، معترفاً بأن من يسميهم “الحفاة” الذين قادوا الثورة التونسية ودفعوا أرواحهم ودماءهم ثمناً لها، يعود لهم الفضل لينعم الكتّاب والمفكرون اليوم بحريّة التعبير. قرر يوما أن يقطع الصمت الذي يخنق مدارج الجامعة ليتحدّث عن العقليّة الإقطاعيّة التي تسود خلف الأسوار، ويتحدّث عن “اللوردات” الوهميين الذين يحتكرون فضاء الجامعة ويتربعون على عرشها”.

وماذا عن حَبلان ؟

أمّا حَبْلان هذه، وهي – لمن لا يعرفها- قرية جبلية بمعتمدية الروحية من ولاية سليانة، فقد كنتَ وفيّا لترابها ومُخلصا لأديمها حتى النهاية، رغم قساوة بردها شتاءً على جسدك الغضّ وأنت مُقبل على “مدارج” مدرستك الابتدائية وعائدا منها ورغم لفْح الشموس صيفا … كانت قرية منسيّة من حكام السماء والأرض ومن عطاء المناخ أيضا. ولأنك كنت تؤمن دوما بمقولة فيكتور هوغو “ما المستحيل ؟ هو  لا يعدو أن يكون سوى جنين للمُمكن. الطبيعة تتكفّل بالحمْل والعباقرة يُولّدونها” فكابدت دون هوادة وكدحت دون حساب واجتهدت دون توقّف ليكون لحبلان إسما “يُڤعڤع” له (هكذا كنت تصف ردود فعل المستشرقين الأجانب خلال محاضراتك الدولية) كبار المؤرخين في العالم، اسما تونسيا صِرفا أضاف للمكتبة العربية والكونية بمؤلفاته وترجماته ومقالاته العلمية المتميزة… وليكون لحبلان أجنّتها وتفاحها وزيتونها وظلالها وماءها الرقراق.

ولا يفوتني قبل إنهاء هذه الورقة التي أكتبها من أجل ذكراك أن أزفّ لك نبأ إقدام التونسيين يوم 25 جويلية الماضي على تأسيس مسار جديد لا نعرف تحديدا إلى ما سيؤول ولكن ثمة أمل يلوح في الأفق بكونه لن يُعيد تعاسات الماضي ومآسيه.

رحمك الله صديق الآلاف منّا محمد الطاهر المنصوري وثق أنك تحولت منذ 2016 إلى نجمة ساطعة في سمائنا تُسهم بضوئها الوهّاج دائما في إسعادنا وزرع حبّ الحياة في قلوبنا ومآقينا.

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    ورقات يتيم .. الورقة 91

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    في هذه الورقة ساخصص محتواها للحديث عن جزء من تجربتي مع التلفزيون كمخرج ومنتج … وانا الذي وبكل صدق وامانة أعتبرها باهتة ومتواضعة جدا ولم تكن في حجم احلامي وطموحاتي …

    عبد الكريم قطاطة

    اذن كما اسلفت وبعد تسوية وضعيتي الادارية والاعتراف بديبلومي كمخرج… بدات وفي مطلع التسعينات اخطّط لنوعية البرامج التي اراها تتجاوب مع ميولي وقناعاتي … وكنت من الذين يعشقون جدا الاشرطة الوثائقية… وفعلا اقترحت على ادارة التلفزة انتاج واخراج مجموعة من الاشرطة الوثائقية تحمل كعنوان (شعاع من الجنوب)… وهي في رؤيتي تحقيقات تهتم بمناطق عديدة من جنوبنا اسلّط فيها الضوء على مناطق لم تزرها الكاميرا للنبش في واقعها المعيشي ومن زوايا متعددة… ووافقت ادارة التلفزة وشرعت في انتاج اوّل حلقة والتي سلطت فيها الضوء على قرية من قرى الجنوب التونسي… انها سيدي مخلوف بولاية مدنين…

    كان التصوير ثم المونتاج في اواخر سبتمبر 91 والبث في اكتوبر 91 … وهاكم مقتطفات من تعليق جريدة الصباح حول هذه الحلقة في 21 اكتوبر 1991 تحت عنوان (اجتهاد من الجنوب) حيث كتب صاحب المقال (وبعيدا عن الثقافة و الجهل اريد ان احيّي باسمكم هذا العمل التليفزيوني المتميز حقا ..فهو كالقهوة اللذيذة او كمشموم فل او كالكتاب الجميل … التشبيه غير مهم… الاهم هذا العمل تراه فتتمنى لو انه يستمرّ اكثر او لو انه يعود او لو انه يصبح من ضيوفك الدائمين… هذه الكلمات البسيطة التي تشكّل وردة احب ان اقدمها الى المجتهد عبدالكريم قطاطة، الذي فتح لنا نافذة صغيرة راينا من خلالها بعض ما يجري فوق ارض الجنوب من كفاح ونضال وصراع مع المصاعب والاغراءات والاوهام والمشاكل التي لا تنتهي ..كان عنوان ما قدمه عبدالكريم قطاطة “شعاع من الجنوب”… وبالفعل كان حزمة من الضوء فيها الجمال والاجلال والاجتهاد والذوق … هكذا يكون العمل التليفزيوني او لا يكون، وهذا عمل تليفزيوني يستحق ان يجلس امامه التلامذة وهواة العمل التليفزيوني لعلّهم يتعلّمون على الاقلّ التواضع)

    الى هنا ينتهي بعض ماجاء في تعليق جريدة الصباح حول اوّل حلقة من مشروع شعاع من الجنوب … هنالك جملة هامة جاءت في مقال الزميل حيث قال (هذا العمل تراه فتتمنى لو انه يستمرّ اكثر او لو انه يعود او لو انه يصبح من ضيوفك الدائمين)… انّها المفارقات والاقدار العجيبة حقا… لانّ الحلقة الاولى من مشروع (الشعاع) كانت بالفعل الاولى ولكنها كانت ايضا الاخيرة …اي نعم مرة اخرى هي لعبة الاقدار ..وهاكم التفاصيل:

    بعد الحلقة الاولى شرعت في انجاز الحلقة الثانية من شعاع من الجنوب اخترت فيها كاطار (عمّال المناجم في المظيلّة) ..كان سيناريو الحلقة متابعة احد عمال المناجم (العم صالح) منذ قيامه باكرا الخامسة صباحا في عائلته… وتناول فطور صباحه ثم امتطاء دراجته النارية قاصدا المنجم… والعيش معه لحظة بلحظة طيلة ساعات يومه في المنجم و اخيرا العودة معه الى منزله للسهر معه والتعرف على تفاصيل أسرته … ايام التصوير خاصة داخل المنجم وحتى خارجها من افضل ما عشته طيلة حياتي… نعم وبشهادة الجميع عشنا اياما لا تنسى اكتشفنا فيها ليس فقط ذلك الجنوبي المناضل من اجل رزق أطفاله، بل ايضا صدقه وعمق رؤيته للحياة وللاحداث ..واكتشفنا ايضا ذواتنا ونحن نعتبر انفسنا نفهم اشياء كثيرة في تونسنا وفي الحياة عموما ..ولكن اكتشفنا انّ ما نجهله يفوق كثيرا ما نعرفه ..

    نعم عم صالح علّمنا دروسا لا تُنسى لعلّ اهمها النضال الحقيقي من اجل اسعاد الاخر حتى ولو كنت يوميا معرّضا لخطر الموت المحدق بك واصحابك داخل المنجم .. نعم هذا ما احسته وعاشته كل عناصر فريق التصوير ونحن ندخل معه الداموس ..حوادث المناجم والتي تعني امكانية سقوط بعض زوايا المنجم كانت تعني الموت ..نعم عشنا يوم تصوير عمل عمّال المناجم من داخل المنجم، ما معنى ان يكون الانسان في كلّ لحظة على قاب قوسين من النهاية… وللامانة كم باركت يومها شجاعة كل افراد فريق التصوير الذين لم يترددوا لحظة واحدة في المغامرة والدخول بواسطة السكة المعلّقة الى اعماق المنجم …

    بعد اتمام التصوير شرعت وزميلي التقني في المونتاح (رضا القلال) في عملية المونتاج والميكساج ..كنا نشتغل بشغف وحماس وحب… وكنا طوال العملية نعيش داخل جلباب العم صالح فيزداد عشقنا لهذا المناضل العظيم ..وانتهى التركيب ووقعت برمجة الحلقة على شاشة التليفزيون لليوم الموعود ..وكانت المؤسسة انذاك تحت اشراف رئيس مدير عام جديد، السيد عبدالحفيظ الهرقام ..ولكن ربّك اراد غير ذلك .. تلك الحلقة بُرمجت ليوم 16 جانفي 1991 .. وهو اليوم الذي اعلنت فيه امريكا وحلفاؤها حرب الخليج الثانية المسماة بعاصفة الصحراء ..والتي ابتدات فجر ذلك اليوم… ومواكبة لذلك الحدث وهذا منطقيّ جدّا قامت ادارة التلفزة يومها بتغييرات جذرية على برمجتها ومثلها حدث في كلّ الاذاعات ..و بالمناسبة لابدّ من الاشادة بتميّز اذاعة صفاقس في مواكبتها للحدث بشكل مثالي حتى انّ بعض الاذاعات العربية وقتها اتخذتها مصدرا موثوقا به وبكلّ ما تقدمه انذاك مصلحة اخبارها ..تحية لكافة الزملاء في تلك المصلحة وتحية خاصة للكبير سي عبدالمجيد شعبان .. اذن اعتبركم تفطنتم الان إلى عدم بث شعاع من الجنوب في حلقته الثانية الخاصة بعمال المناجم وتاجيله لموعد لاحق …

    انتهت اوزار الحرب وتحادثت مع المرحوم محمد عبدالكافي حول مواصلة انتاج حلقات اخرى من عدمها من (شعاع من الجنوب) وكان موقفه (وعلاش لا ؟؟ نواصلو) … واخترت موضوع الحلقة الثالثة حول (قابس والتلوّث)… ومدينة قابس انذاك تعتبر اكثر مدينة اجتاحها التلوث في البلاد بفعل المركب الكيميائي بغنوش، والذي اضرّ بالبشر والمياه والشجر .والحجر .. وفعلا قمنا بالتصوير لمدة ايام ثم المونتاج ثمّ وقع عرض العمل على لجنة الرقابة في التلفزة بالعاصمة (وهي تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟)… وللامانة ايضا لجان المراقبة موجودة في كلّ تلفزات العالم دون استثناء… وردوا بالكم تصدقوا ما يقوله الغرب خاصة عن حرية التعبير ..انهم يكذبون ويعرفون انهم يكذبون ويعرفون انّ البعض منا يعرف انهم يكذبون ..وابدت اللجنة موافقتها شريطة ان تقع تدخيلات على الشريط حتى يقلل من سواد محتواه وقتامته وذلك بادماج بعض اللوحات الايجابية من تطوّر ونموّ في مدينة قابس .. وعلى مضض قبلت بالمقترح وعدنا لقابس لتصوير بعض ما طُلب منّي دون اشادة بزمن التغيير ومزاياه .. وقمت باعادة المونتاج…

    وللامانة ما اضفته من لوحات ايجابية لم يتجاوز الخمسة في المائة من مدة ولون الشريط الذي وصفوه بالقاتم … والنتيجة انه وقع قبر الشريط الخاص بقابس ..بل لم تقف عملية القبر هذه لتلك الحلقة الخاصة بقابس فقط، بل وبكلّ الم الدنيا وقع قبر حلقة المناجم بالمظيلة وقُبر مشروع (شعاع من الجنوب) برمّته دون ايّ تفسير .._ يخخي شكونو ولد قطاطة باش نفسرولو ..تي يشرب والا يطيّر قرنو .. هكذا بدات علاقتي مع التلفزة التونسية كمنتج وكمخرج ولكن ليس معنى هذا انها انتهت .. ابدا ..لكن الذي انتهى اليوم هو الورقة 91…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    السيارات الإدارية… بين ضرورة سير الإدارة وانحرافات بعض الموظفين

    نشرت

    في

    محمد الزمزاري:

    يرتفع اللغط والمطالبة بمنع استعمال السيارات الإدارية من حين لآخر ووصل الأمر حتى إلى تقديم احصائيات تصب في اتجاه الدعوة إلى حذفها.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

    ورغم ان نية المعارضين لاستعمال السيارات الإدارية قد تكون الحرص على ميزانية الدولة، فإن الأمر ليس بالبساطة التي يتخيلها البعض، بل يستوجب تسليط الضوء على هذه المعضلة التي اسالت كثيرا من “الحبر الغاضب” وحشرت كل الموظفين مستعملي السيارة الإدارية في خانة المخلّين بالقانون. فلكل قطاع من قطاعات الدولة خصوصيته ومتطلباته كما أنه لضرورات العمل وتيسير سير المرفق العمومي قواعد ووسائل لا مفر منها، ويضبطها القانون بشكل دقيق.،

    تنقسم السيارات الإدارية إلى قسمين متباينين:

    السيارة الموضوعة تحت تصرف المؤسسة كأدوات لتسهيل خدماتها وتلبية احتياجات عملها وتتحرك طبقا لتراتيب معينة ووثيقة استعمال محدد لاداء مهمة (إذن بمهمة او Ordre de mission) ممضى عادة من رئيس المؤسسة أو من ينوبه أو المسؤول عن اسطول السيارات. وقد بعثت السلطة فترة ما قبل 2011 فرقا متحركة لمراقبة قانونية استعمال السيارات الإدارية التي تم إعطاؤها أرقاما منجمية مخصوصة بكل وزارة، وترصد فرق الرقابة الاخلالات بشأن الوزارات المعنية ويقع تتبع المخالفين.

    أما النوع الثاني فهو يتنزّل في إطار ما سمي بـ”سيارة وظيفية” وهي قد تسند للمسؤولين ممن يشغلون خطة رئيس مصلحة فما فوق. والإسناد هنا ليس هدية للمسؤول بما انه يقابلها خصم منحة تسمى المنحة الكيلومترية من مرتبه في المقابل. وقد تم اللجوء لهذه الوسيلة في حالات التنقلات المستمرة لمصلحة العمل سواء بالنسبة للمتفقدين أو المراقبين أو مهندسي الأشغال أو مسؤولي المؤسسات متعددة الفروع مما يعفي الإدارة من تسخير سواق خصيصا لهذه التنقلات..

    تبقى بعض الاستثناءات مثل الترخيص في استعمال السيارت الإدارية (وبصفة ثانوية) استعمالا شخصيا إلى جانب الاستعمال المهني، و هذه العملية مضبوطة بشروط أولها أن يكون الشخص ذا مسؤولية عليا تضعه كامل الوقت على ذمة إدارته أو مؤسسته، وأن تخصم منه المنحة الكيلومترية طبعا، وأن يحافظ عل العربة كمِلك من أملاك الدولة، وأن تكون تحت مسؤوليته الشخصية، وأن لا يستعملها لأغراض تنحرف بها عن هدفها الأصلي وهو تيسير ظروف العمل، وأن لا يكون استعمالها مسيئا إلى هيبة الإدارة، كما أن الوقود المستخدم محدود بكميات معينة لا يمكن تجاوزها.

    وتخضع العملية لعدة إجراءات وموافقات تصدر عن رئيس الإدارة (الوزير أو المدير الجهوي) ومراقب المصاريف العمومية كما أن الإسناد قد يتم إنهاؤه في صورة الإخلال بشروط الاستعمال الوارد أعلاه.

    إن حذف استعمال السيارات الإدارية سيقود حتما إلى خلق مشاكل أشد وطاة على الإدارة بدءا من مضاعفة انتداب جيوش من السواق، كما يدفع إلى تعطيل سير العمل وتحركات المسؤول العاجلة او الضرورية، هذا بالإضافة إلى كبح روح البذل لدى من يتحملون مسؤوليات جساما، ويدفع الكفاءات إلى مزيد العزوف عن القطاع العمومي الشحيح بطبعه من حيث الأجور والحوافز قياسا إلى ما يتقاضاه من يديرون المرافق ،العمومية في البلدان الأخرى وحتى المجاورة. كما لا ننسى أن تفقير هذه الكفاءات وإجبارها على العمل في ظروف أكثر سوءا، قد يدفع البعض منها إما إلى البحث عن مواقع في القطاع الخاص، أو الهجرة للخارج، أو التلاعب بالقانون خاصة أنها تتصرف في أجزاء مهمة من أموال الدولة ونفوذها. وهذا ما يقع أحيانا وللأسف في مثل هذه الحالات، وبمعظم بلاد العالم لا في تونس فحسب.

    اذن ما الحل في هذه المعضلة التي أصبح كل يدلي فيها بدلوه؟

    انه من غير الممكن حذف الصنف الأول (سيارة وظيفية) وإجبار أي مسؤول على شراء سيارة وتوظيفها لعمله الإداري، الا بسن قانون يعفي هذه الفئة من تلبية نداء الواجب خارج أوقات العمل، وأن يساوي بين الجهد المبذول ومستواه المعرفي أو ثقل المسؤولية ومخاطرها، وبين المقابل المادي والمعنوي الذي يرصد لهما، كما أنه من الضروري دعم الرقابة على استعمال السيارات الإدارية وتشديد العقوبات على أي عابث بالقانون أو بالملك العام.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم… الورقة 90

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    كنت حدّثتكم سابقا عن مخطّطي في مسيرتي المهنية والتي وللتذكير عزمت فيها على تخصيص العشر سنوات الاولى منها للعمل الاذاعي اي من 1980 حتى 1990… والعشرية الثانية للعمل التلفزي كمخرج وهو اختصاصي بعد تخرّجي من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس افريل 1979… ثم أنتقل بعدها وكحلم ايّ مخرج للعمل بعد سنة 2000 في دنيا السينما…

    عبد الكريم قطاطة

    الا انّ تجربتي الاذاعية وما نتج عنها من شغف سحري بالمصدح وباصدقائي المستمعين، جعلني اعدّل بعض الشيء… نعم لم استطع فكّ طلاسم وسحر المصدح الذي احتلّني وارتأيت ان يصبح لي موعد اسبوعي قارّ معه… نعم للعشق احكامه… وفي العشق لزاما علينا ان نكتفي بالقول “وما تشاؤون الا أن يشاء الله إنّ الله كان عليما حكيما” .. نعم كنت اخطّط لذلك وبكل حزم وإرادة وبكل حبّ ايضا، خاصة وقد اصبحت وظيفيا احمل رتبة مخرج… والفضل في ذلك يعود الى الصديق صلاح الدين معاوي رحمه الله حين كان رئيسا مديرا عاما لمؤسسة الاذاعة والتلفزة… والذي حرص وفي وقت قياسي على تسوية وضعيتي وتمكيني من حقي بعد 11 سنة ظلما …

    في بداية سنة 1990 بدات في دراسة مشاريع اكون فيها المنتج والمخرج وراء الكاميرا كطبيعة عمل ايّ مخرج… ومرة اخرى ولانّه وما تشاؤون الا ان يشاء الله، وجدت نفسي اعمل تلفزيا ولكن هذه المرة كنت امام الكاميرا كمنشط… اي نعم … كان ذلك عندما اجتاحت تونس فيضانات جانفي 1990… ادارة التلفزة فكّرت في تيليتون لجمع التبرعات لفائدة الجهات المنكوبة ..وهو اوّل تيليتون في تاريخ التلفزة .. وطبعا فكّرت مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية في الاسماء التي ستنشط سهرتي التيليتون ..وعادي جدا ان تختار الاسماء التي تحظى بحيّز جماهيري كبير لتامين البرنامج ..وكان على راس القائمة من تونس الزميل نجيب الخطاب رحمه الله وكنت مرشّح اذاعة صفاقس مع مرشحين اخرين من اذاعة المنستير …

    كانت تجربتي الاولى والاخيرة في التنشيط التلفزي وساعطيكم لاحقا تفسير كلمة الاخيرة …في السهرة حرصت ان اكون كما اريد انا لا كما يريد الاخرون ..كنت مثلا الوحيد من بين المنشطين الذي نشّط وهو جالس… نعم وانا لحدّ الان لم افهم لماذا ينشط البعض وهم وقوفب.. التنشيط عندي في مثل هذه المواقع يحتاج الى الهدوء والرصانة اكثر من حاجته للوقوف والتروقيص… وكان مدير اذاعة صفاقس انذاك الزميل محمد عبد الكافي رحمه الله لم يهدأ له بال وهو يراني عكس الاخرين ملتزما بمقعدي ..جاءني مرات ليقنعني ان اقف مثلهم وكان موقفي دائما الرفض حيث كنت اردّ عليه بالقول (ومن قال لك اني اريد ان اكون مثلهم ؟)… ربما موقفي فيه نوع من الغرور قد يراه البعض ولكن كانت ومازالت تلك ثوابتي… انا ابحث لي ولكلّ من تدرّب على يديّ ان تكون لكل منا بصمته الخاصة …

    اتذكّر هنا جيّدا احد الشباب الذين تدرّبوا عندي يوما ما وقد جاءني وهو يحكي عن طموحاته واحلامه قائلا (اتمنى ان اكون مثلك يوما ما)… اجبته مباشرة بالقول (اِعتبر نفسك من هذه اللحظة فاشلا)… كانت اجابتي بالنسبة له صدمة… قمت بالطبطبة عليه وقلت له (اريدك ان تكون انت لا نسخة منّي او من ايّ كان ..وقتها ستحقق كل احلامك ووقتها ستكون افضل منّي) … زميلي محمد عبدالكافي رحمه الله يئس منّي وفهم انّو يصب في الدواء في العين العورة …ولا حول ولا قوة الا بالله …

    في ذلك التيليتون الذي نجح نجاحا باهرا وقعت اشياء بقيت عالقة في الذاكرة… لاحظت مثلا تدفق العديد من التونسيين بمختلف تركيباتهم الاجتماعية، وهو ما اكّد دوما انّ التونسي للتونسي رحمة وفي كل الازمنة والازمات ..لكن في المقابل لاحظت الغياب الكلّي لحاملي المناصب فتوجهت بالدعوة الصريحة وبكلّ استغراب وعتاب لتلك الشريحة وذكرت مناصبهم (الوزراء والمديرين العامين الخ) ..قلت لهم اينكم .؟ توحشناكم راهو ؟ والمفروض انكم تكونوا السابقين في مثل هذه الحالات حتى تعطوا المثل .. كنت موقنا انّ الدعوة فيها نوع من الجرأة التي قد وقد وقد ..اما بالنسبة لي، فـ”بوزيد مكسي بوزيد عريان” ..انذاك كنت مقتنعا بتدخّلي ذاك فـ”تڨرّعت”… وفوجئت بعدها بعديد المسؤولين الكبار يتسابقون للتبرع ..معناها جابني ربي في الصواب…

    مما اتذكره ايضا انّ التيليتون خصص مجموعة من اللوحات الفنية التي تبرع بها اصحابها الرسامين لتكون للبيع بمزاد علني يُرجى من ورائه تدعيم خزينة التبرعات بثمن تلك اللوحات .. صدقا في بداية فتح المزاد العلني لم اكن اتصور ذلك التهافت على شراء اللوحات… نعم كنت جدّ منبهرا بالحصيلة ..لكن ما لفت انتباهي وجود متدخّل دائم من اذاعة المنستير عند بدء عملية المزاد العلني… نعم نفس الاسم وفي كل مرة يضيف رقما مهولا على الرقم الذي سبقه ..فهمت بعد ثلاثة او اربعة تدخلات …منه انّه شخص استُعمل خصيصا للغرض … وانا لا احبّ النفاق عموما وخاصة النفاق الاذاعي ..وهنا تدخلت وبشكل غاضب وقلت لذلك الشخص مستسمحا زميلي نجيب الخطاب في مبادرتي ووقتها وصل ثمن اللوحة الى ملايين ..قلت له (طاح عليك السوم وننتقل الى لوحة اخرى) .. وفصّ ملح وذاب ..ذلك الشخص لم يشتر اللوحة واختفى نهائيا من المشهد … اي نعم احيانا الميادين فيها بعض المنزلقات ..والسيد زلق طاح ما في عينو بلّة … خدموه شوية رقّاص ومشى على روحو…

    اعود الان الى تفسير ما معنى كانت التجربة الاولى والاخيرة في العمل تلفزيا امام الكاميرا … عندما وقع اختياري لاكون ممثل اذاعة صفاقس في التيليتون لم اكن صدقا كما يفعل البعض وعادة ما يفشلون… لم اكن فرحا مسرورا وفي قمة سعادتي لترشيحي من اذاعة صفاقس لاقوم بتلك المهمة ..ولكن صدقا ايضا لم اكن رافضا لها ..موقفي كان (وين المشكل نجرّب ونشوف)… لم اكن مهتما بما سيقوله البعض عنّي خاصة في خانة الاعجاب والشكر و المديح وذلك لسببين: اوّلهما انّو اذا حبّوك ارتاح ..والله مهما كانت عيوبك يخخي موش يقولو القرد في عين بوه غزال .. ؟؟ والسبب الثاني انّ عمليّة التقييم والنقد ليست ممكنة لكلّ من هبّ ودبّ ..اي نعم اقرا الان بعض التعاليق على العديد من الزملاء في المسموع والمرئي وابكي لحال هؤلاء .. للمعلّق وللمُعلّق عليه …

    سآخذ مثالا على ذلك… اقرا كثيرا في بعض التعاليق عبارات من نوع (انت مبدع او انت مبدعة) لزملاء، الله اعلم كيفاش موجودين امام الكاميرا او وراء المصدح… وأجزم ومن خلال ما تعلمته في كل ما هو سمعي بصري ومن خلال تجربتي، أن ذلك المنشط او تلك المنشطة اللذين يوسّمهما البعض بتوصيفة الابداع لا يستحقان ايّ وجود في الميدان السمعي بصري …تي اصلا من المطر ما تدخلهمش… لذلك وعندما قررت المشاركة في التيليتون، رجوت من بعض الزملاء في وحدة الانتاج التلفزي ان يقوموا بتسجيل البرنامج حتى اعود اليه في الغد لقراءة تجربتي امام الكاميرا… اي نعم… وفعلت… وشاهدت… وبعدها قررت انها ستكون الاخيرة…

    عبدالكريم لم يقتنع بعبد الكريم امام الكاميرا ..انا لي قناعاتي في كيف يجب ان يكون المنشط التلفزي لعلّ اولها الحضور والكاريزما ..نعم كنت متاثرا ومقتنعا بعديد المنشطين التلفزيين وشغوفا بهم وخاصة الاوروبيين منهم… وكنت ارى فيهم القدوة شكلا ومضمونا… وعندما قارنت نفسي بهم وجدتني لا علاقة … اييييييه ما اقرب مكة لبوجربوع… مع احترامي لاصدقائي في بوجربوع… اي نعم اعترف بقساوتي في النقد لانّ ايّ نقد لا يحكمه العقل هو عبث ومُلغى بالنسبة لي… اذن يا عبدالكريم يسلّم ولدي سكّر باب التنشيط التلفزي والى الابد راك موش متاعو… واغلقته وللابد…

    والشيء بالشيء يذكر… هناك من قام ببعض التجارب من الزملاء في التنشيط التلفزي وعلى قلّتها وتواضعها مازالوا يتباهون بها….اقسم بالله قلّة حياء ومسخرة… حاصيلو عاش من عرف قدره واكاهو…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار