أُحْيي غدا الموافق لــ 10 أوت 2021 مع كلّ من عرف فقيد الجامعة التونسية محمد الطاهر المنصوري ذكرى مرور 5 سنوات على رحيله.
ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن هذا الرجل الذي نحت إسمه بحبر لا يمّحي في مدارج الجامعة التونسية والجامعات العربية والأجنبية والذي درّس وأطّر ورافق مجموعة كبيرة مندارسي التاريخ عامة والتاريخ الوسيط على وجه الدقّة…وخاصة عن ذلك الذي نبش باقتدار وجُرأة نادرة لا فقط في تاريخنا العربي الإسلامي ليتصادم رأسا مع ذهنية التحريم والتكفير (وهو الذي يقول في كتابه “مدارج الصّمت” أن “الكتابة التاريخية التي انتشرت في العالم الإسلامي لعبت أسوأ الأدوار في خلق تورّم في الذات العربية الإسلامية” بل في معابر جامعاتنا ومدارجها لتواجهه “الأقلام الأكاديمية غير المصقولة” أيضا…)
سأتحدّث هذه المرة عن محمد الطاهر المنصوري من زاوية غير تقليدية مستعيدا بعض الأوجه في شخصيته ومسيرته الحياتية العادية لأن مُنجزه وأثره وترجماته ومقالاته وصَوْلاته في أقسام التاريخ ومخابر البحث وقاعات المحاضرات تونسيا وعربيا ودوليا تعُجّ بها مواقع الأنترنات والنصوص التأبينيّة الكثيرة التي حُبّرت إثر وفاته.
سأقسّم ورقتي بشأنك إلى جزئين : جزء أخصّصه لبعض الحكايات والطرائف التي كنت تؤثّث بها بعض مساحات الوقت القليلة التي تسترقها من جدول التزاماتك وشؤونك الجامعية المتعددة والمتنوعة وجزء متصل بحَبلان قرية المنشأ التي أنجبتك وأخصَبْتَها.
من ناحية مرويّاتك، سأحاول تمتيع من سيتسنّى له قراءة هذه الورقة ببعض ما بقي عالقا منها بذاكرتي لكونها طريفة وذات دلالات خاصة إضافة إلى كونك كنت تبدع في تشويقنا وحثّنا على الاستماع إليها بانتباه…وبقوة النّهر والتهديد بالزّجر أحيانا.
الرّسول أرحم على أمّته من أصحابه !
كنت تحدثنا أن الرسول محمد الذي كان في بيته نسوةٌ من قريشٍ يُكَلِّمنه ويستشرنه، عاليةٌ أصواتهنَّ على صوته، فلمَّا استأذن عمر بن الخطاب؛ قُمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله، فدخل عمر والرسول يضحك، فقال عمر: أضحك الله سِنَّك يا رسول الله! فقال النَّبيُّ : «عجبت من هؤلاء اللاَّتي كنَّ عندي، فلمَّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» قال عمر: فأنت أحقُّ أن يهبن يا رسول الله! ثمَّ قال عمر: يا عدوَّات أنفسهنَّ! أتَهَبْنني، ولا تهبن رسول الله ؟! فقلن : نعم أنت أفظُّ، وأغلظ من رسول الله. فقال الرّسول : «إِيهاً يا بن الخطَّاب! والَّذي نفسي بيده! ما لقيك الشَّيطان سالكاً فجّاً قطُّ إِلا سلك فجّاً غير فجِّك».
دافع عن سوائلك !
عندما انطلقت سنة 2011 حملات الفتح المُبين على يد الإسلاميين بشتى فرقهم ونِحلهم وحوصرت الحانات وأُغلقت محلاّت بيع السوائل الروحيّة ولُوحِق الزنادقة والمُشركين، بدأ التذمّر والتبرم يدبّ بارتياب في صفوف الناس وانتعشت السوق السوداء وأصبح شباب سيدي بوزيد الثورة يقطع مئات الكيلومترات نحو سبيطلة المُرَوْمَنة للفوز ببعض “القمر السائل السابح في الأذهان” كما يقول الشعراء ثم يعودون ليلا على أنغام :
وقلنا لساقينا : عليكَ فَعُد بنا
إلى مثلها بالأمس فالعَودُ أحمدُ
فجاءَ بها كأنّما في إنائه
بها الكوكبُ المرّيخُ، تصفُو وتُزبَدُ…
كان ردّ محمد الطاهر المنصوري بسيطا ولاذعا وحاسما في نفس الوقت: وهل تنتظرون مني أن أخوض المعركة عوضا عنكم… هذه حريتكم في الميزان إما أن تُقلعوا نهائيا أو أن تُدافعوا ببسالة وشرف عن سوائلكم…إن كنتم تعقلون.
كتابه “صمت المدارج” يُهديه إلى حفاة ثورة 2010-2011
يقول محمد الطاهر المنصوري في المقدمة بأنّ أحد أسباب اتّخاذه قراره بنشر كتابه هو يقينه بأنّ الوضع في الجامعة لم يتغيّر بعد الثورة، وليس هناك علامات تدل على أنّه سيتغيّر، بل بالعكس فإنّ الوضع في الجامعة التونسية- حسب ما جاء في الكتاب- ما فتئ يزداد سوءاً. ويشير إلى أنّ ثورة 14 جانفي هي التي دفعته إلى إصدار هذا الكتاب الذي ألّفه قبل أربع سنوات ولكنّه لم ينشره قائلا: “إنّ الثورة حرّرتنا من الدكتاتوريّة ومن أنفسنا أيضاً ومن خوفنا”، معترفاً بأن من يسميهم “الحفاة” الذين قادوا الثورة التونسية ودفعوا أرواحهم ودماءهم ثمناً لها، يعود لهم الفضل لينعم الكتّاب والمفكرون اليوم بحريّة التعبير. قرر يوما أن يقطع الصمت الذي يخنق مدارج الجامعة ليتحدّث عن العقليّة الإقطاعيّة التي تسود خلف الأسوار، ويتحدّث عن “اللوردات” الوهميين الذين يحتكرون فضاء الجامعة ويتربعون على عرشها”.
وماذا عن حَبلان ؟
أمّا حَبْلان هذه، وهي – لمن لا يعرفها- قرية جبلية بمعتمدية الروحية من ولاية سليانة، فقد كنتَ وفيّا لترابها ومُخلصا لأديمها حتى النهاية، رغم قساوة بردها شتاءً على جسدك الغضّ وأنت مُقبل على “مدارج” مدرستك الابتدائية وعائدا منها ورغم لفْح الشموس صيفا … كانت قرية منسيّة من حكام السماء والأرض ومن عطاء المناخ أيضا. ولأنك كنت تؤمن دوما بمقولة فيكتور هوغو “ما المستحيل ؟ هو لا يعدو أن يكون سوى جنين للمُمكن. الطبيعة تتكفّل بالحمْل والعباقرة يُولّدونها” فكابدت دون هوادة وكدحت دون حساب واجتهدت دون توقّف ليكون لحبلان إسما “يُڤعڤع” له (هكذا كنت تصف ردود فعل المستشرقين الأجانب خلال محاضراتك الدولية) كبار المؤرخين في العالم، اسما تونسيا صِرفا أضاف للمكتبة العربية والكونية بمؤلفاته وترجماته ومقالاته العلمية المتميزة… وليكون لحبلان أجنّتها وتفاحها وزيتونها وظلالها وماءها الرقراق.
ولا يفوتني قبل إنهاء هذه الورقة التي أكتبها من أجل ذكراك أن أزفّ لك نبأ إقدام التونسيين يوم 25 جويلية الماضي على تأسيس مسار جديد لا نعرف تحديدا إلى ما سيؤول ولكن ثمة أمل يلوح في الأفق بكونه لن يُعيد تعاسات الماضي ومآسيه.
رحمك الله صديق الآلاف منّا محمد الطاهر المنصوري وثق أنك تحولت منذ 2016 إلى نجمة ساطعة في سمائنا تُسهم بضوئها الوهّاج دائما في إسعادنا وزرع حبّ الحياة في قلوبنا ومآقينا.