كلّ نار
استرجع كلابك و اقلب منظرك … تونس أكبر منكم وأنظف وأشرف أيها السارح
نشرت
قبل 3 سنواتفي
أفي كل يوم تحت ضِبْني شويْعرٌ
ضعيفٌ يُقاويني، قصيرٌ يُطاوِلُ
تابعت كغيري، تصريح مَن يسمّى برئيس “حكومة” ما يسمّى بـ “ليبيا”، و الردود المختلفة عليه من شعبنا التونسي الذي عيل صبره، و أيضا من بعض النخب المنسوبة باطلا إلينا و التي تزيد نسبة أشباه الرجال فيها عن نسبة الرجال.
تابعت إذن ما قاله هذا الذي يقززني ذكر اسمه المتعدد النقط تحت حروفه و المتعدد الأسنان فوقها و كأنها رسم لحشرة أمّ أربع و أربعين … و استفزّني كلامه العدواني الفارغ و هو الذي يقف على أرض بدائية قفراء تكفي كتيبة صغيرة من كتائب جيشنا لاحتلالها خلال أيام، و جلب هذا المتطاول إلى مراكز شرطتنا كأي منحرف و تأديبه يما يستوجب تأديب أمثاله من الصغار.
و لم أكن لأعبأ بهراء واحد حقير مثل هذا، لو لم تقابله عندنا ردود فعل و مظاهر اهتمام ما كان يحلم بها، و لكن لنختصر قولنا عنه في بضع ملاحظات:
1) طوال حديثه، كان هذا الشخص يصف بلادنا مرة بـ (جميع دول الجوار) و مرة (بعض الدول المجاورة) و مرة بـ (دولة جارة و صديقة) … و ما عدا كذبه عن وجود صداقة بيننا و بين بلده المنكوب، فأنا أوافقه تماما على أننا و إياهم مجرد “أجوار” فرضتهم علينا صدف الجغرافيا التعيسة التي تضع على شرق فرنسا و جنوبها الشرقي مثلا دولا متحضرة كسويسرا و ألمانيا و بلجيكا و هولندا و إيطاليا … في حين يصيبنا الحظ العاثر بدمّلة على حدودنا الشرقية لم يأت منها طوال تاريخنا سوى الشرّ و البؤس و البلاء.
2) توصيف “الجارة” الذي يستعمله هذا المتكلم الليبي في حقنا كما يستعمله جميع الساسة هناك، هو لعمري صفعة مدوّية لجميع اللحّاسين و المنبطحين الذين تزخر بهم نخبتنا التونسية … أي هذه الفئة التي لا تتعب من تكرار وصف “الشقيقة” و “الأشقاء” كلما ذكرت شيئا عن أجوار جنوبنا الشرقي … إلى درجة أن توصيفهم هذا يرِدُ على الدوام ملتصقا باسم ليبيا و كأنه بنتسب إليها نسبة الاسم و اللقب … و كم كنت أحنق على المرحوم الباجي و هو يزيد في الطنبور نغمة بالحديث عن “شعب واحد في دولتين” ! ما أسفهك أيها الراحل العجوز و أنت تمارس السياسة بالمقلوب و ليست تلك أول سقطة تسقطها في مسارك العامر بالمهازل …
3) يقول هذا الدعيّ (أي رئيس حكومة ليبيا) إنهم لطالما “دعموا تونس و حكومتها” … قل و الله ! … ترى من دعم من؟ و من لجأ إلى من؟ و من هرب جائعا عريان إلى من؟ و من طلب الغوث ممّن؟ و من عولج عند من؟ و من تعلّم عند من؟ … و ماذا لديكم حتى تدعمونا و من أنتم كما قال زعيمكم الذي بعتموه و غدرتم به و قتلتموه؟ … و هل عندكم شيء عدا أوهام ثروة نفطية كانت دائما ملكا للشركات الإيطالية و الفرنسية و الأمريكية و الآن التركية؟ … هل تملكون شيئا عدا خيامكم و بعرانكم و جهلكم و صلفكم و قلة تربيتكم؟ … فعن أي دعم تهذي يا قُنفذ؟
4) تكلم المذكور عن دعم وهمي جاء منهم إلينا … و لم يقل حرفا واحدا عن مئات آلاف اللاجئين الذين وفدوا إلينا كالجراد من بلدهم الذي خلا فجأة من السكان بعد الغزو الأطلسي 2011 … لم يقل شيئا عن مخيم الشوشة و لا عن آلاف البيوت التونسية التي استضافتهم بكرم مفرط منذ تلك الأيام إلى هذه الساعة … و لم يقل شيئا عن الخراب الذي حلّ بنا منذ مجيئهم و مقاسمتهم إيّانا أقواتنا و موادنا المدعّمة (من دولتنا)، و لا عن الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات الذي تسببوا فيه، و لا عن مظاهر الانحراف التي نشروها أمام صبر أجهزتنا الأمنية تحت ضغط مناصري “الأشقّاء” الأشقياء…
5) طبعا لن أتطرق مع جاهل كهذا لتاريخ دعمنا المسترسل لأجوار جنوبنا الشرقي … بعض طراطيرنا يتحدث عن “علاقات تاريخية” بيننا و بينهم … بينما في الحقيقة أنها كانت تاريخ مروءة و سخاء و شهامة من طرف واحد هو الطرف التونسي الذي كان حاميا لليبيا طوال عشرات السنين و مئاتها … و هذا طبيعي بحكم أن الجارة الشرقية كانت معظم تاريخها ولاية تونسية أو الولاية 25 بالاستعارة من صدام حسين ! … إذن أرسل شعبنا بمقاتليه دفاعا عنها، و جعل من أرضه الزكية ملاجئ للهاربين من جوعها و جحيمها و فاشية الاستعمار الإيطالي و فحشه في أهاليها … أغبياؤنا يطنبون في تمجيد عمر المختار و ينسون شهيدا عظيما كمحمد الدغباجي و هو الذي ذهب ليحارب لأجل قوم غير قومه و يواجه إيطاليا و فرنسا معا، قبل أن يتم إعدامه في ساحة عامة …
6) لن أتطرق كذلك كثيرا إلى فترة القذافي فالرجل ـ رغم أنه لا يختلف في صلفه عن بني قومه هناك ـ له بعض مواقف تستحق شيئا من الاحترام … و لكن يكفي التذكير بأنه طيلة فترة الحصار الأممي عليه و على بلاده، لم يجد سوى تونس لإنقاذ شعبه من الموت جوعا و مرضا … و قد دام ذلك أكثر من نصف عهده في الحكم، أي منذ حادثة لوكربي الإرهابية الشهيرة التي أدين فيها ليبيون، للإشارة فقط !
7) تحدث رئيس ما يسمى بـ”الحكومة الليبية” عن الإرهاب الوافد من دول الجوار و هو يقصد تونس تلميحا و تصريحا … و على ذكر (دول الجوار) لم يذكر أين يبدأ الجوار الليبي و أين ينتهي … فعلى حد علمنا قامت حكومتهم بترسيم حدود أيضا مع تركيا البعيدة و لكن عن طريق البحر متجاوزة آلاف الأميال و “عافسة” في الطريق على دول أخرى عبرت عن غضبها مثل اليونان و مصر … “الجارة” تركيا إذن لم يتعرض لها بكلمة رغم أنها كانت المنبع و المصبّ لجميع الإرهابيين الذين كانوا في ليبيا … و رغم أنها (أي تركيا) هي التي دخلت بجيشها و احتلت ليبيا و أقامت بها قواعد عسكرية و هو ما لم توفره لها تونس … تركيا أيضا التي جلبت إلى هناك مرتزقتها و دواعشها من مختلف الجنسيات و لا تزال …
8) نعم … الإرهاب جاءنا و يجيء إلينا من ليبيا، و معارككم لطالما وصل إلينا رذاذها عبر حدود مشتركة فشلت حكوماتنا السابقة الساقطة في حمايتها … و تسلل إلينا شاهرا سلاحه في معركة بن قردان 2016 الذائعة و التي انتصر فيها شعبنا على البغاة الغزاة و أعطاكم عينة مما ينتظركم لو جرؤتم على إعادتها … تقول ليسوا ليبيّين؟ طبعا و هل عندكم ما يكفي لحماية قرية من قراكم حتى تهددونا؟ خطركم أنكم أرض سائبة للعابرين من قطّاع الطرق بكل الجنسيات … في حين أن أجواركم (تونس، الجزائر، مصر) دول عريقة مهيكلة منظمة تزعحها فوّارة الفوضى التي تعتمل على الدوام بين حدودكم …
و بعد …
هذا ردّ بسيط على كلام أرعن من شخص لا يمثل نفسه بل يمثل عديدين في بلد مجاور هو الآن خطر على أجواره … و بعد إخراس المنبطحين له من التونسيين عن طمع … و بعد بيان أن هذا الطمع لا مبرر له و من يريد الاستفادة من ليبيا عليه التفاوض مع من يحتلّونها مثل “أجوارنا” الحقيقيين الإيطاليين … و بعد إنهاء هذه العلاقة الشاذة بين جنوبنا المنسي من العاصمة، و بين دولة جارة لم تنفعه إلا بتشجيع التهريب و الاقتصاد الموازي و التشغيل الشاقّ المذلّ … لا بدّ من إحياء جنوبنا و مناطقنا المهمّشة عموما و تنميتها و هو أفضل ردّ (بعد الردّ الرسمي الحازم الذي ننتظره) على أدعياء الجوار و الأخوّة و الصداقة إلخ .. حتى لا يبقى جنوبنا رهينة، و مواطنو بلدنا الحرّ، عالة على اللئام و أبناء اللئام …
تصفح أيضا
“إنه ليوم صيفي، فما أجمل الشمس تنير الدنيا وتدفئ الأركان الباردة وتحيي العظام وهي رميم … لقد اغتنمنا الفرصة هذا الصباح فأخرجنا المفارش حتّام تتخلص من رطوبة الشتاء” …
ومضى صاحبي صلاّح باراشوك السيارة إلى داخل ورشته، ومضيت أسأل نفسي عن الشتاء والصيف وأيّ صيف؟ نحن في بداية شهر فيفري والمفترض أنها سحب ورعود وتهاطلات وإنذارات حرس وطني وحماية مدنية وقبلهما مصلحة الأرصاد … لا … لم يقع شيء من هذا، عدا مطرتين متوسطتين وبعض ثلوج بعين دراهم وتالة وهضابنا الغربية … ورافقت ذلك رحلات سياحية لأبناء المدن وصور سعيدة على فايسبوك … انتهى التصوير بانحسار السماء عن طقم نضيد من الزرقة القاتلة … فلا غيوم، ولا عواصف، ولا ثلج ولا مطر بعد هذا …
أيّ كرب نعيش يا ربّاه …
حتى السدود فرحت أياما قليلة وبدأت في ردم جفافها المنذر، غير أن الأمتار المكعبة الأولى بقيت هناك تنتظر المزيد ولا مزيد … وعاد خوف العطش إلى القلوب، وهل هناك شرّ من العطش؟ شعوب بكاملها هُجّرت أو اندثرت عبر التاريخ جرّاء هذا التهديد أكثر مما فعلته الحروب … عمائر خضراء مترامية راحت نضارتها إلى الأبد وتحوّلت إلى صحارى … ونحن من هاتين الفئتين تحديدا، مصنّفون ضمن أكثر الشعوب هشاشة مائية وتعرّضا لهذا الموت الذي لا حياة بعده … فحتى هجرة القرون الخوالي لم تعد ممكنة، بعد أن أقيمت دول ورُسّمت حدود و أُشهِرت تأشيرات دخول …
قبل بلوى العطش، ابتلانا الدهر بطوائف سياسية مجرمة تستوي عندها الدولة والفريسة، الوطن ودار الجيران، الرأس وحائط مبنى بعيد … ارتقت ظهورنا كالدواب طوال 12 سنة ففعلت كالذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى … على طول تلك المدة، شهدنا أعواما سِمانًا ومواسم خير ومطر عميم … منذ 2011 والسماء كريمة معنا كرم شعبنا وأريافنا ومدننا الداخلية وعواصم جنوبنا وشمالنا … لكن طبقة قطران السياسة وزفتها أهدرت جود السماء كما أهدرت عطاء الأرض وسكّانها …
بالعكس … فقد حوّلت عطاء ملايين الأصوات التي رفعتها عاليا، صيّرت ذلك خنجرا في الصدور و ذريعة لسرقة رزقنا وتقاسم أسلابنا والإفلات من محاسبتنا … تماما مثلما حرّفت مسار الماء من رواء للبشر والشجر، إلى فيضان ماحق وكوارث طبيعية ونداءات استغاثة من كل جنب … سدودنا المذكورة أعلاه بناها إما الاستعمار أو “الاستبداد” كما تشتمون في خطبكم الكثيرة، أما أنتم فلم تنجزوا ولو … طبعة جديدة من كتاب “السد” للراحل محمود المسعدي !
لو قيّض لنا أن نقيم صلاة استسقاء جديدة وسط هذا الجفاف، فلن نقول فيها سوى: اللهمّ هات سحبا سوداء و سيْلا عرِما، وابعثْه فقط حيث يسكن من خانوا تونس وأكلوا أخضرها ويابسها … اللهمّ اشوِ أكباد أمّهاتهم كما فُجِعتْ أمهات من حرقوا وغرقوا جرّاء سياسات النكبة … أما نحن، فلنمُت بعدها من الظمإ … المهمّ بعد أن نرى جثث الجناة تطفو أمامنا كأسماك نافقة لفظها البحر .
أشهد أنّا عشنا مثل هذا اليوم من 12 سنة … ليس المقصود هنا 14 جانفي الذي قيل ويقال ويمكن أن يقال عنه الكثير الكثير … لا، لسنا في معرض ذلك اليوم المثير للجدل … بل اليوم الذي يليه، أي 15 جانفي 2011.
يوم السبت 15 من الشهر الأول لسنة 2011 هو برأيي أهمّ يوم في تاريخ تونس كلها و لا مبالغة … لامبالغة ولا هزل … والأسباب متعددة أولها أنه اليوم الوحيد تقريبا في تاريخنا الطويل، الذي لم يكن يحكمنا فيه أحد، لا من داخل البلاد ولا من خارجها … ومن ينظر إلى تاريخنا منذ إنشاء الدولة التونسية في 814 ق م، يرى أنه كانت على رأسنا دائما دولة ورئيس دولة مهما كان الاسم والصفة … سواء في دولتنا القرطاجية الوطنية التي تحولت إلى امبراطورية حكمت العالم القديم طيلة 500 عام … أو تحت الاحتلال الروماني الذي جاء بعد خسارة الحرب الثالثة واستمر قرونا … عقبته مراوحات بين الحكم الوطني والتدخل الأجنبي إلى حدود الأسبوع الثاني من سنة 2011 !
إذن لم نعرف زمن “سيبة” كما عرفتها شعوب أخرة جارة و غير جارة في معظم فترات تاريخها … كما لم نعرف ـ ويا للغرابة ـ هذه السيبة حتى عند هروب رئيسنا الأسبق أبو سيرين رحمه الله ومعه كامل الطاقم الموالي الذي اختفى إما جسديا أو معنويا … كما تبدّى ذلك في لجلجة آخر “وزير أوّل” حمل عندنا هذه الصفة وهو المحترم (ولكن الضعيف) محمد الغنوشي …
إذن حدث هروب فشغور فظهور لبضعة وجوه بين عشية 14 وليلها الطويل … هرب المرحوم، وشغر كرسيه، وظهر سي محمد ووراءه ثلاثة باشوات من البرلمان والمجلس الدستوري إلخ … ولن نعود ثانية للحديث عن الربكة التي حصلت بين مادتين في دستور ذلك الوقت (57 و58 أو 56 والله نسيت) … وحصل اختصام شكلي فُضّ بسرعة حول من يمسك الدفة الآن … ولكن الجمهور كان لاهيا عن كل هذا، مخطوف الأنفاس بتعاقب الأحداث والجزيرة تقنبل علينا أخبارا ونعيا وظفرا واحدا وراء الآخر بعدد دورات شريطها المتحرك أسفل الشاشة …
مع المغرب كلمني الزميل عامر بوعزة من إذاعة المنستير على المباشر وقال لي بصفتك كذا وكذا، ما تقول في هذه الهزّات المتلاحقات؟ … أجبته في حماسة أغبياء السوق: ما حدث هو ثورة … صُدِم الرجل وهو يسمعني أكيل الشتائم يمينا وشِمالا كالمخبول فلم أترك إنسا ولا جنّا إلا حدفته بماء النار … القلب مطفطف فلا لوم … وأكيد أن الزميل (الذي عوقب) يلعنني إلى هذه الساعة وكله ندم على أنه فتح الميكروفون لأحد المختلّين عقليا …
الصحيح أننا كنّا أكثر من عشرة ملايين مختلّ … نعم … وعلى “الحكماء” الذين يشربون اليوم قهوتهم الساخنة بأعصاب باردة، أن يعيدوا في ذاكرتهم تلك اللحظات، تلك الأيام، تلك الأعوام … بعيدا عمّا فعله السرّاق الجدد من فظائع، بعيدا عن قدرنا الذي يجعلنا دوما نترحّم على السواد القديم قياسا إلى المداد الذي يجيء بعده، بعيدا عن المخطط العالمي لإسكانهم عنوة فوق رؤوسنا، بعيدا عن هجمة الظلام التي أنستنا السكرة خطرها المتربص … صغارا آه قد كنّا وقد كان … كل الشعوب زمن الثورات تجيش عندها العواطف فتعمى منها الأبصار والبصائر … ولكن ذلك ظرفي، ولا بدّ للعين أن تعود للانفتاح، ولكن بعد ماذا؟
نمرّ … من الغد صحونا فماذا رأينا؟ كانت الشوارع شبه مقفرة إلا من حطامات هنا وهناك، حجارة متناثرة بمختلف أحجامها، علامات طريق مقلوعة، كتابات ورسوم على الحيطان، عجلات مطاطية محترقة، مؤسسات حكومية مخروبة أو سوداء من أثر النار … لم يكن هناك بوليس واحد، لم يكن هناك أعوان بلدية، لم تكن هناك قباضة مالية تجبي الناس، تقصد شركة الكهرباء لخلاص فاتورتك فيعترضك باب حديدي موصد … فقط بضعة مواطنين متوجسين كانوا يتنقلون بتردد، والعلامة الوحيدة على وجود دولة هي لفرق الجيش المرابطة في مواقعها بالطريق العمومي منذ أيام بعد …
فجأة أفاق البلد على أنه لم يعد هناك من يحرس، ومن ينظف، ومن يدير الشأن العام … عرفنا قيمة مرافقنا، عرفنا دور الشرطة الأنبل بكثير من القمع والمنع وخموس وعاشور، عرفنا قيمة الملك العام الذي لي ولك وليس رزق بيليك، عرفنا خاصة خاصة قيمة بعضنا البعض، قيمة بني وطنك وبني مدينتك و بني حيّك … عرفنا قيمة إناء شفّاف عالي الهشاشة ولكن لا ثمن يعوّضه، اسمه بلادك، اسمه ملاذك، اسمه تونس الخضراء …
مئات الدروس في التربية الوطنية، ألاف الخطب الرسمية، أكداس من أغاني الإذاعة طوال عقود حول حب الوطن و العلَم وتاريخ مقاومة الاستعمار، أفلام عمار الخليفي عن الفلاّقة والزعماء ومعارك التحرير … هذه كلّها لم تفعل فينا سوى أنها كرّهتنا في الوطنية المفروضة كدواء المستوصف … ولكن لحظة خواء وصفاء كالتي عشناها صبيحة 15 جانفي، نفذت إلى قلوبنا كأشعة ليزر … هناك حبّ لا ينكشف إلا ساعة نخاف على من نحبّ، وأعتقد أننا يومها شعرنا بخوف مرعب على بلد ملقى بين أيدينا كطفل في حالة إغماء … فهرعنا مفزوعين صارخين صوتا واحدا: اللطف كل اللطف عليك يا حبيبنا …
بلجظة … الذي كان نائما في منزله هبّ راكضا إلى العمل، الحافلات دارت محرّكاتها وخرجت لنقل المسافرين، المستشفيات صار جيشها الأبيض يقرن الليل بالنهار ولا يرتاح، المدرّسون فتحوا المؤسسات التربوية وأقسموا على إنهاء العام الدراسي في أفضل الظروف، أفواج من الشباب تجنّدت لتنظيف الشوارع، لجان من المواطنين تكوّنت في كل حومة عند سماع أخبار نهب واعتداءات، وحملت ما ملكت أيديها من هراوات وربضت بمدخل كل نهج في صقيع الليل، اشتعلت مواقد في الهواء الطلق لتدفئة فرق الحراسة، جاد كل بما لديه من أغذية وأغطية للمتطوعين الأشاوس، تبودلت المواد الغذائية بين الجيران وأُغِيث من نقصت عنده مجانا ومحبة …
وتحررت لغة الكلام … وسائل الإعلام لأول مرة صارت في ايدي الصحفيين، والخبر صار مقدسا، والمواطن البسيط صار هو الخبر … وافتكّت سيدي بو (زيد) مكان سيدي بو (سعيد) في معالمنا الأهمّ وصورتنا السياحية عبر العالم … وصار الانتماء إلى تونس الأعماق أشرف ألف مرة من التبرّج بأصل تركي أو أندلسي وعائلات مزعومة … ومن رحم مأساة بلغت ذروتها يوم انتحار ذلك الشاب حرقا، ولد كائن، جديد علينا صدقه ومداه اللانهائي: الأمل …
كل هذا حدث في يوم، تلته أيام تشبه الحلم … قبل أن يهبط على جماجمنا جحفل من جنود المظلات تجشّأت بهم مطاراتنا من عواصم الغرب … وعاد إلينا قفير نحل نسيناه تقريبا وهو يطِنّ من منافيه الذهبية، فإذا به يضع أقدامه على هذه الأرض ويصفّر نهاية الفسحة، نهاية الفاصل، نهاية حلم يصعب تكراره … وتلك قصة أخرى
“صاح الأوّل: شيّات
وصاح الثاني: شيّات
وصاح الثالث: شيّات
… و رحت أشيّت مع شعبي”
إذن لا مناص لي اليوم من أرافق عموم العملة التونسيين في شغل مسح الأحذية، أحذية لاعبي منتخب المغرب، وأفرح رغما عنّي بنصر لا دور لنا فيه ولا عائد … بالعكس، فقد يستغلّ جارنا البعيد هذا الإنجاز ليضيفه إلى صورته السياحية والاستثمارية، و يزيد من تحويل وجهة قُصّاد تونس، المتناقصين بطبعهم … و قد يقرّب الحدث السعيد بينهم و بين شعب الجزائر على حساب شعبنا الغفلان، كما حدث لنا دائما مع كافة الأشقاء الأشقياء … و قد بدأت بعدُ إشارات المودّة تطفح من مواقع التواصل الجزائرية التي كانت بالأمس القريب تبخّر برائحة المغاربة، ودون تمييز … و لعلها مصداق لنظرية الشيطان العبقري “هنري كيسنجر”: ديبلوماسية البينغ بونغ …
طبعا هذا الكلام سوف لن يرضي جلّ من قد يطّلعون عليه … و لكن ماذا تريد؟ لا بدّ من استشفاف عقبات الطريق خلف ستارة يوم ضباب … ونحن على ما يبدو دخلنا منذ أيام في حالة ضباب و شراب و سكر واضح و انتشاء بفتوحات إخواننا المغاربة في كرة القدم … ربما هي غريزة الدم الأخوي دون ريب، و ربما هي تعويض عن خيبتنا الداوية في نفس المسابقة، و ربما ـ و هذا الأخطر ـ كتعويض عن بؤسنا اليومي الذي لا فرح فيه ولا بارقة أمل … و يوم أمس فقط، كان أمامنا في الشارع رجل عجوز يجرّ كرّوسة بها قارورة غاز منزلي … و كان رهاننا عليه كالآتي: هل يكون عائدا بالقارورة ملأى عودة الظافرين، أم مازال هائما يطوف على الدكاكين و محطات البنزين هل من غاز للّه يا محسنين !
كاد الفقر يكون كفرا، و أنا أعرف أني قد كفرت أكثر من مرة منذ بداية المقال، بل منذ بداية السنة، بل منذ بداية العشرية … و من منّا لم يفعل ذلك؟ … بالمستقبل، بالرزق، بعشاء الليلة، بالأمان، بالصداقة، بالأخوّة، بالجوار، بنخبنا كل طوائفها و هي تردح علينا سنينا دون إنتاج مفيد … كل من يأتي منهم ينسيك رداءة من جاء قبله، وفي كل فشل يتبارى عندنا المبررون مع المتهربين مع المتراشقين بالتهم مع الباحثين عن تيس فداء … نزلوا بنا إلى درك أسفل في كل شيء، فتضاءل اهتمامنا و طموحنا و تفكيرنا وكلامنا و شعورنا و أخلاقنا … أصبحنا منحطّين في عصر الانحطاط هذا، و كم أحسد الشعراء الذين ما زالوا يكتبون شعرا، و الموسيقيين الذين ظلّوا يجترحون نغما، والصنائعية الذين ما فتئوا ينمنمون نقائش فنية على الذهب أو النحاس أو الجبس … إذ ليس زمننا زمن فنّ، بل نجح حكّامنا في إرجاعنا إلى حقبة المغاور و جلود الحيوان …
فهل يغنيني بعد هذا أن تفوز المغرب بكأس العالم؟ … يمكن أن يكون ذلك على الأقلّ لو جاء من حظ تونس، و لكن … مِن أيّة الطُرْقِ يأتي نحوك الكرَمُ …؟
صن نار
- ثقافياقبل 13 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 13 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 23 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟