جلـ ... منار
عبد الوهاب … الذي حوّل الوسوسة إلى إتقان
تحية إلى موسيقار المائة سنة الأخيرة، في ذكرى مولده (13 مارس 1898)
نشرت
قبل 3 سنواتفي
لا ينبغي للفن أن يكون أو يوصف بأنه قتل للوقت ؛ لكنه – أساسًا وربما تمامًا – لإحياء الوقت ، هكذا يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب ، وقد أدركت من هذه الكلمات أن الوقت ميت ما لم نحيه ، وأن الفن هو الذي يحرِّك النبض ، بل هو الذي يجعل الحياة حياة ، ولو لم نفعل ، فيصبح كل شيء خواء وعدمًا .
وإذا قلنا إن عبد الوهاب كان موسوسًا ، حيث يكرِّر تنظيف نفسه ، و يتشاءم ويتفاءل أكثر من المعتاد ، وأنه كان رهابيا أو لديه فوبيا ، إذ يخاف الطائرات ، والأمراض ، والأماكن المتسعة … إلى آخره ، وأنه كان بخيلا يقتِّر مع ما لا يتناسب مع سعة رزقه ، ويحسب ويدقِّق بما لا يفسِّره أنه غير محتاج إلى هذا التقتير ، خصوصًا لمَّا تقدمت به السن ، ومن البديهي أنه لا يمكن إغفال كل هذا الشائع عنه ، رغم غرابة بعضه ، فقد تدخلت بشكل أو بآخر في حياته وعمله ؛ لتضيف إليهما ما بها من إيجابيات ، وهي عادات انتقلت إليه من تلازمه لأحمد شوقي ، فعبد الوهاب يحب الحياة ، ويحب نفسه أكثر من حبه الحياة ، ويعتبر أن أية لحظة مرض مخصومة من حياته ، وأن كلمة مرض تساوي لديه الإعدام .
فالوسوسة تنقلب إلى إتقان ، والمخاوف إلى حرص رائع ، والبطء ينقلب إلى صبر ويقين بالإنجاز ، والبخل إلى احترام الحياة ، فعمر الإنسان لا يُقاس بالطول ولا بالعرض ، وإنما بتجدُّد العطاء ، وأن نرهن نبض العمر باستمرار الفعل . وفي اعتباري فإن موت عبد الوهاب ليس موتًا ، وليس نهاية ، بل هو توقُّف كيان محدود واختفاء جسدي ؛ لنستوعبه في امتداد غير محدود .والإيمان في حياة محمد عبد الوهاب حقيقة وليس نفاقًا ، فلم يكن يسمي فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعًا ، بل كان يسميه خواطر أونفحات من عند الله سبحانه وتعالى ، وكان إذا وُفِّق في عدة ألحان يقول : ” ربنا فتح عليَّ أو ربنا نفخ في صورتي ” ، وكان إذا أخطأ يتوسَّل إلى الله أن يقبل توبته ، ويساعده على ألا يعود ارتكاب معصية ثانية ، فالله خالق الجمال ومتذوقه ، والفنان عاشق لكل أشكال الجمال ، ولا بد من أن يكون له عند الله هامش من حرية يدخل في مجال المغفرة.
كان بداخله الإنسان الشرقي المتدين ، ويرجع ذلك إلى البيئة الدينية التي نشأ عليها منذ طفولته ، والتي كان لها الأثر الأكبر في حياته.بل نجد أن المرجع القرآني الكامن في باطنه يبدو جليًّا في أغانيه للقصائد فنرى ” الفقي ” واضحًا في أبيات كثيرة – مثلا – من قصيدة ” يا جارة الوادي “.
، والإيجابيات – عمومًا – في شخصية عبد الوهاب أكثر بكثير من السلبيات ؛ فهو إنسان فيه سماحة ووداعة ونبل لم أره مرة يغضب أو يشتم أو يظلم ، صبور لديه الجلد وطول البال ، وبداخله السياسي والدبلوماسي ، ولو أنه اتجه إلى غير الفن لكان من كبار الساسة .يقول عبد الوهاب : ” لقد أورثتني أم كلثوم الوسوسة طوال عملي في أغنية ” أنت عمري ” ، أول لحن أضعه لها ، وأم كلثوم ليست كأية مطربة أخرى ، وعلى هذا كان عليَّ أن ” أغربل ” الكلمات واللحن ، وهذا ما أخَّر إذاعة الأغنية بعض الوقت .والمعروف أن عبد الوهاب كان قلقًا جدًّا قبل ظهور الأغنية ، ففي الصباح يزور قبر والدته ويقرأ الفاتحة ، وفي المساء يذهب إلى المسرح مبكرًا وآيات القرآن الكريم تتردَّد على لسانه ، وقبل رفع الستار يجرى عدة بروفات إلى أن تبلغ الساعة العاشرة والنصف مساء بينما الجمهور ومذيعا الإذاعة والتليفزيون في قلق شديد ، فصاحت أم كلثوم في وجهه : ” جرى إيه يا محمد أنت مش عاوزنا نرفع الستارة ولا إيه ؟ “.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي التقى فيها عبد الوهاب بأم كلثوم رغم الغيرة الفنية التي كانت بينهما ، ففي عام 1945 التقيا في عيد ميلاد أحد الأصدقاء ، وكان من بين الحاضرين توفيق الحكيم ، وفكري أباظة ، والدكتور عبد الوهاب مورو باشا ، وكامل الشناوي ، وصديقته كاميليا ، وكانت رائعة الجمال ، وبدأت أم كلثوم تداعب كامل الشناوي ، وتطالبه بإلقاء شعر يصف فيه جمال كاميليا ، فنظم الشناوي أبياتا من وحي اللحظة قال فيها :” لست أقوى على هواك ومالي / آمل فيك فارفقي بخيالي / إن بعض الجمال يذهل عقلي / عن ضلوعي فكيف كل الجمال ” ، وفي التو أمسك عبد الوهاب العود وبدأ تلحين الأبيات الشعرية وأخذت أم كلثوم بصوتها تردد اللحن حتى حفظته ودعاها الحاضرون إلى الإعادة مرات حتى مطلع الفجر .
لقد كان عبد الوهاب لبقًا شديد الحرص مجاملا حد النفاق ، حكيمًا عاقلا ؛ و كان ذلك السلوك من أسباب نجاحه ، فيوم أن هاجمه البعض هجومًا شخصيًّا مهينًا في إحدى الصحف ، فوجئ البعض به يلتقيه في إحدى السهرات فيبادره بالترحيب والعناق ، متظاهرًا بأنه لم يقرأ الهجوم ، ولما طُلب منه تفسيرٌ لهذا التصرُّف الغريب ، رفع نظارته عن عينيه ومسحها بمنديله وأطرق قائلا : ” داروا سفهاءكم “!
وقد وجدت عبد الوهاب في إحدى السهرات لا يشرب الكحوليات ، ويقول للجرسون : ” هات لي زجاجة مياه بيريه ، شرط أن تكون ساخنة ومختومة ، ولا تنس أن تأتيني بالمفتاح “!
لماذا ساخنة ومعها المفتاح ؟ ؛ لأن عبد الوهاب يحافظ على أوتار حنجرته الدافئة من المثلجات ؛ ولأنه يخشى أن يدس له عدو مادة مؤذية في الزجاجة ؛ فتقضي على صوته ؛ ولأن المفتاح هو صمام الأمان ، والضمان أن لا أحد قد مسها قبله.
ويقول عبد الوهاب عن الشاعر أحمد شوقي : ” لقد علمني شوقي حب الحياة ، والتعاطف مع الطبيعة والناس ، والطموح وعزة النفس ، لأن شوقي لم يعرف الحقد أو التطيُّر أو المرارة في علاقته بالآخرين ، كما هي حال أسلافه من الشعراء القدامى الذين جاء بعدهم بما يزيد على ألف سنة مثل : المتنبي ، وابن الرومي ، والمعري ، ولم يعرف شوقي الهجاء ، وكان مترفعا عن انتقاد الناس “.
” وقد اختصر لي شوقي سر المحافظة على الصداقات بكلمة واحدة هي الاحترام ، احترم صديقك مهما اقترب ؛ حتى يحترمك وهو بعيد عنك ، وبحكم مركزه الأدبي والسياسي والاجتماعي كان مقربا من القصور والزعامات ؛ فقدمني للشخصيات العظيمة مثل : سعد زغلول ، وبفضله عرفت الملك فؤاد ملك مصر ، والملك فيصل ملك العراق ، وشاعر الهند طاغور ، وعرفت باشوات مصر مثل أحمد ماهر ومصطفى النحاس ، ومحمود النقراشي ، والدكتور محمود ثابت ، ومن الشعراء حافظ إبراهيم وخليل مطران وبشارة الخوري “.
وتعلم محمد عبد الوهاب من شوقي الأسفار ، فكانا يقسِّمان الصيف مايو ويونيو في لبنان ، ويوليو وأغسطس في باريس ، ثم شهور الشتاء في مصر .
وتعلم من شوقي عشق لبنان وجبالها وأزاهيرها ، وحينما كان يسافر عبد الوهاب إلى لبنان يبادر بزيارة صديقيه الأخوين رحباني ( عاصي ومنصور ) والدرة الثالثة فيروز ، حيث كان يعتبرهم ثالثوثا فنيا فريدا من نوعه في العالم ، إذ لم يسبق لمطربة كبيرة أحيطت بزوجها وسلفها ، وكانا على هذه الموهبة الفذة من اللحن والشعر والتوزيع الموسيقي ، وكان أول سؤال يطرحه على أصدقائه لدي هبوطه من سلم الباخرة : ” إيه أخبار الرحبانية ؟ ” ، ولكنه كان يتضايق من سيطرة الأخوين رحباني على فيروز وتكبيلها التام بألحانهما وحدهما ، وكان يشبههما بالصدَفة الكبيرة التي تطبق جناحيها على اللؤلؤة النادرة ، وكان هذا الكلام قبل أن تتخطى فيروز حدود الأخوين رحباني مجتازة حدود محمد عبد الوهاب.
وفي إحدى السنوات ، وأثناء زيارته لهم فور وصوله إلى لبنان قال : ” عايز أسمع أغنية – وقف يا أسمر – لفيروز ، وبعد سماعها بلذة فائقة قال لهم : إن الأغاني العربية تفتقد إلى عنصر القصة في الشعر ، إنها عبارة عن كلام منمق مثل صف الحروف ، وإذا كان هناك انطلاقة فنية جديدة في روحانية الأغنية ؛ فستصدر من لبنان على يد الرحبانية بالذات ، أسمعهم يقولون : ” وقف يا اسمر في إلك عندي كلام
قصة عتاب وحب وحكاية غرام
هالبنت يا للي بيتها فوق الطريق
حملتني اليوم لعيونك سلام “
…….
الموسيقار محمد عبد الوهاب تشخيص لمجتمع ، وصورة لعصر ، وتسامح من مجتمع ، ودنيا يعيش فيها هذا المجتمع ، ولو ولد في عصر غير عصره ؛ لاختلفت النتيجة تماما ، ولو أنه كان واحدًا من جيلنا نحن ، لما استطاع أن يقترب من القمة ولا أن يتقدم حتى خطوة ،لقد تسلم جيلنا عبد الوهاب بعد أن صنع نفسه ، ولو أن هذا قد تم بعد موعده ؛ فإننا كنا سندوسه ونحطمه ؛ لأننا الآن نضرب كل مسمار له رأس ، ونحطم كل فنان له أسلوب ، ونشد كل شخص يسبقنا إلى الأمام .
في صباح الثالث عشر من مارس من كل عام أذهب – كعادتي – إلى مثواه حاملة زهور الفن والمحبة ؛ لأضعها في اشتياق فوق مرقده تلثم موضعه وتنشق أنفاسه في الأثير ، يعطرها بحبه ، وتعطره بحنانها ، من كل لون اخترته ، ولكل لحن أهديته وأقرأ الفاتحة .
يا حفرة تحت الثرى أنت المال اليقين والكنز الدفين يحيط به ويحتضنه حجر عظيم :
” ما لأحــجــارك صُـــمّا كلما هــاج بي الشوق أبتْ أن تســمَعا
كلــما جـئــــتك راجــــعتُ الصِــــبا فأبــتْ أيامُـــه أن تــرجــِعا
قـد يهــــون العـُـــمرُ إلا ساعــة و تهـــــون الأرض إلا مَوضِــعا ” .
تصفح أيضا
وفاء سلطان:
البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.
فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،
ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به
أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.
في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما
فردّ على الفور:
بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.
قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!
فردّ: أخاف من الله
قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟
لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.
عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.
الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.
نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.
الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى
دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم
بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.
الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته
أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق
ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس
فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين
عبد الله السيد ولد اباه*:
“يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.
لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.
ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!
لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.
لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.
ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.
وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.
ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟
العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.
الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .
وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”
لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.
كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟
لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني
جلـ ... منار
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
نشرت
قبل أسبوعينفي
9 نوفمبر 2024من قبل
التحرير La Rédactionصبحي حديدي:
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.
“ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
ـ عن “القدس العربي” ـ
صن نار
- ثقافياقبل 21 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 21 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟