تابعنا على

جلـ ... منار

عبد الوهاب … الذي حوّل الوسوسة إلى إتقان

تحية إلى موسيقار المائة سنة الأخيرة، في ذكرى مولده (13 مارس 1898)

نشرت

في

لا ينبغي للفن أن يكون أو يوصف بأنه قتل للوقت ؛ لكنه – أساسًا وربما تمامًا – لإحياء الوقت ، هكذا يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب ، وقد أدركت من هذه الكلمات أن الوقت ميت ما لم نحيه ، وأن الفن هو الذي يحرِّك النبض ، بل هو الذي يجعل الحياة حياة ، ولو لم نفعل ، فيصبح كل شيء خواء وعدمًا .

<strong>د لوتس عبد الكريم<strong>

وإذا قلنا إن عبد الوهاب كان موسوسًا ، حيث يكرِّر تنظيف نفسه ، و يتشاءم ويتفاءل أكثر من المعتاد ، وأنه كان رهابيا أو لديه فوبيا ، إذ يخاف الطائرات ، والأمراض ، والأماكن المتسعة … إلى آخره ، وأنه كان بخيلا يقتِّر مع ما لا يتناسب مع سعة رزقه ، ويحسب ويدقِّق بما لا يفسِّره أنه غير محتاج إلى هذا التقتير ، خصوصًا لمَّا تقدمت به السن ، ومن البديهي أنه لا يمكن إغفال كل هذا الشائع عنه ، رغم غرابة بعضه ، فقد تدخلت بشكل أو بآخر في حياته وعمله ؛ لتضيف إليهما ما بها من إيجابيات ، وهي عادات انتقلت إليه من تلازمه لأحمد شوقي ، فعبد الوهاب يحب الحياة ، ويحب نفسه أكثر من حبه الحياة ، ويعتبر أن أية لحظة مرض مخصومة من حياته ، وأن كلمة مرض تساوي لديه الإعدام .

فالوسوسة تنقلب إلى إتقان ، والمخاوف إلى حرص رائع ، والبطء ينقلب إلى صبر ويقين بالإنجاز ، والبخل إلى احترام الحياة ، فعمر الإنسان لا يُقاس بالطول ولا بالعرض ، وإنما بتجدُّد العطاء ، وأن نرهن نبض العمر باستمرار الفعل . وفي اعتباري فإن موت عبد الوهاب ليس موتًا ، وليس نهاية ، بل هو توقُّف كيان محدود واختفاء جسدي ؛ لنستوعبه في امتداد غير محدود .والإيمان في حياة محمد عبد الوهاب حقيقة وليس نفاقًا ، فلم يكن يسمي فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعًا ، بل كان يسميه خواطر أونفحات من عند الله سبحانه وتعالى ، وكان إذا وُفِّق في عدة ألحان يقول : ” ربنا فتح عليَّ أو ربنا نفخ في صورتي ” ، وكان إذا أخطأ يتوسَّل إلى الله أن يقبل توبته ، ويساعده على ألا يعود ارتكاب معصية ثانية ، فالله خالق الجمال ومتذوقه ، والفنان عاشق لكل أشكال الجمال ، ولا بد من أن يكون له عند الله هامش من حرية يدخل في مجال المغفرة.

كان بداخله الإنسان الشرقي المتدين ، ويرجع ذلك إلى البيئة الدينية التي نشأ عليها منذ طفولته ، والتي كان لها الأثر الأكبر في حياته.بل نجد أن المرجع القرآني الكامن في باطنه يبدو جليًّا في أغانيه للقصائد فنرى ” الفقي ” واضحًا في أبيات كثيرة – مثلا – من قصيدة ” يا جارة الوادي “.

، والإيجابيات – عمومًا – في شخصية عبد الوهاب أكثر بكثير من السلبيات ؛ فهو إنسان فيه سماحة ووداعة ونبل لم أره مرة يغضب أو يشتم أو يظلم ، صبور لديه الجلد وطول البال ، وبداخله السياسي والدبلوماسي ، ولو أنه اتجه إلى غير الفن لكان من كبار الساسة .يقول عبد الوهاب : ” لقد أورثتني أم كلثوم الوسوسة طوال عملي في أغنية ” أنت عمري ” ، أول لحن أضعه لها ، وأم كلثوم ليست كأية مطربة أخرى ، وعلى هذا كان عليَّ أن ” أغربل ” الكلمات واللحن ، وهذا ما أخَّر إذاعة الأغنية بعض الوقت .والمعروف أن عبد الوهاب كان قلقًا جدًّا قبل ظهور الأغنية ، ففي الصباح يزور قبر والدته ويقرأ الفاتحة ، وفي المساء يذهب إلى المسرح مبكرًا وآيات القرآن الكريم تتردَّد على لسانه ، وقبل رفع الستار يجرى عدة بروفات إلى أن تبلغ الساعة العاشرة والنصف مساء بينما الجمهور ومذيعا الإذاعة والتليفزيون في قلق شديد ، فصاحت أم كلثوم في وجهه : ” جرى إيه يا محمد أنت مش عاوزنا نرفع الستارة ولا إيه ؟ “.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي التقى فيها عبد الوهاب بأم كلثوم رغم الغيرة الفنية التي كانت بينهما ، ففي عام 1945 التقيا في عيد ميلاد أحد الأصدقاء ، وكان من بين الحاضرين توفيق الحكيم ، وفكري أباظة ، والدكتور عبد الوهاب مورو باشا ، وكامل الشناوي ، وصديقته كاميليا ، وكانت رائعة الجمال ، وبدأت أم كلثوم تداعب كامل الشناوي ، وتطالبه بإلقاء شعر يصف فيه جمال كاميليا ، فنظم الشناوي أبياتا من وحي اللحظة قال فيها :” لست أقوى على هواك ومالي / آمل فيك فارفقي بخيالي / إن بعض الجمال يذهل عقلي / عن ضلوعي فكيف كل الجمال ” ، وفي التو أمسك عبد الوهاب العود وبدأ تلحين الأبيات الشعرية وأخذت أم كلثوم بصوتها تردد اللحن حتى حفظته ودعاها الحاضرون إلى الإعادة مرات حتى مطلع الفجر .

لقد كان عبد الوهاب لبقًا شديد الحرص مجاملا حد النفاق ، حكيمًا عاقلا ؛ و كان ذلك السلوك من أسباب نجاحه ، فيوم أن هاجمه البعض هجومًا شخصيًّا مهينًا في إحدى الصحف ، فوجئ البعض به يلتقيه في إحدى السهرات فيبادره بالترحيب والعناق ، متظاهرًا بأنه لم يقرأ الهجوم ، ولما طُلب منه تفسيرٌ لهذا التصرُّف الغريب ، رفع نظارته عن عينيه ومسحها بمنديله وأطرق قائلا : ” داروا سفهاءكم “!

وقد وجدت عبد الوهاب في إحدى السهرات لا يشرب الكحوليات ، ويقول للجرسون : ” هات لي زجاجة مياه بيريه ، شرط أن تكون ساخنة ومختومة ، ولا تنس أن تأتيني بالمفتاح “!

لماذا ساخنة ومعها المفتاح ؟ ؛ لأن عبد الوهاب يحافظ على أوتار حنجرته الدافئة من المثلجات ؛ ولأنه يخشى أن يدس له عدو مادة مؤذية في الزجاجة ؛ فتقضي على صوته ؛ ولأن المفتاح هو صمام الأمان ، والضمان أن لا أحد قد مسها قبله.

ويقول عبد الوهاب عن الشاعر أحمد شوقي : ” لقد علمني شوقي حب الحياة ، والتعاطف مع الطبيعة والناس ، والطموح وعزة النفس ، لأن شوقي لم يعرف الحقد أو التطيُّر أو المرارة في علاقته بالآخرين ، كما هي حال أسلافه من الشعراء القدامى الذين جاء بعدهم بما يزيد على ألف سنة مثل : المتنبي ، وابن الرومي ، والمعري ، ولم يعرف شوقي الهجاء ، وكان مترفعا عن انتقاد الناس “.

” وقد اختصر لي شوقي سر المحافظة على الصداقات بكلمة واحدة هي الاحترام ، احترم صديقك مهما اقترب ؛ حتى يحترمك وهو بعيد عنك ، وبحكم مركزه الأدبي والسياسي والاجتماعي كان مقربا من القصور والزعامات ؛ فقدمني للشخصيات العظيمة مثل : سعد زغلول ، وبفضله عرفت الملك فؤاد ملك مصر ، والملك فيصل ملك العراق ، وشاعر الهند طاغور ، وعرفت باشوات مصر مثل أحمد ماهر ومصطفى النحاس ، ومحمود النقراشي ، والدكتور محمود ثابت ، ومن الشعراء حافظ إبراهيم وخليل مطران وبشارة الخوري “.

وتعلم محمد عبد الوهاب من شوقي الأسفار ، فكانا يقسِّمان الصيف مايو ويونيو في لبنان ، ويوليو وأغسطس في باريس ، ثم شهور الشتاء في مصر .

وتعلم من شوقي عشق لبنان وجبالها وأزاهيرها ، وحينما كان يسافر عبد الوهاب إلى لبنان يبادر بزيارة صديقيه الأخوين رحباني ( عاصي ومنصور ) والدرة الثالثة فيروز ، حيث كان يعتبرهم ثالثوثا فنيا فريدا من نوعه في العالم ، إذ لم يسبق لمطربة كبيرة أحيطت بزوجها وسلفها ، وكانا على هذه الموهبة الفذة من اللحن والشعر والتوزيع الموسيقي ، وكان أول سؤال يطرحه على أصدقائه لدي هبوطه من سلم الباخرة : ” إيه أخبار الرحبانية ؟ ” ، ولكنه كان يتضايق من سيطرة الأخوين رحباني على فيروز وتكبيلها التام بألحانهما وحدهما ، وكان يشبههما بالصدَفة الكبيرة التي تطبق جناحيها على اللؤلؤة النادرة ، وكان هذا الكلام قبل أن تتخطى فيروز حدود الأخوين رحباني مجتازة حدود محمد عبد الوهاب.

وفي إحدى السنوات ، وأثناء زيارته لهم فور وصوله إلى لبنان قال : ” عايز أسمع أغنية – وقف يا أسمر – لفيروز ، وبعد سماعها بلذة فائقة قال لهم : إن الأغاني العربية تفتقد إلى عنصر القصة في الشعر ، إنها عبارة عن كلام منمق مثل صف الحروف ، وإذا كان هناك انطلاقة فنية جديدة في روحانية الأغنية ؛ فستصدر من لبنان على يد الرحبانية بالذات ، أسمعهم يقولون : ” وقف يا اسمر في إلك عندي كلام

قصة عتاب وحب وحكاية غرام

هالبنت يا للي بيتها فوق الطريق

حملتني اليوم لعيونك سلام “

…….

الموسيقار محمد عبد الوهاب تشخيص لمجتمع ، وصورة لعصر ، وتسامح من مجتمع ، ودنيا يعيش فيها هذا المجتمع ، ولو ولد في عصر غير عصره ؛ لاختلفت النتيجة تماما ، ولو أنه كان واحدًا من جيلنا نحن ، لما استطاع أن يقترب من القمة ولا أن يتقدم حتى خطوة ،لقد تسلم جيلنا عبد الوهاب بعد أن صنع نفسه ، ولو أن هذا قد تم بعد موعده ؛ فإننا كنا سندوسه ونحطمه ؛ لأننا الآن نضرب كل مسمار له رأس ، ونحطم كل فنان له أسلوب ، ونشد كل شخص يسبقنا إلى الأمام .

في صباح الثالث عشر من مارس من كل عام أذهب – كعادتي – إلى مثواه حاملة زهور الفن والمحبة ؛ لأضعها في اشتياق فوق مرقده تلثم موضعه وتنشق أنفاسه في الأثير ، يعطرها بحبه ، وتعطره بحنانها ، من كل لون اخترته ، ولكل لحن أهديته وأقرأ الفاتحة .

يا حفرة تحت الثرى أنت المال اليقين والكنز الدفين يحيط به ويحتضنه حجر عظيم :

” ما لأحــجــارك صُـــمّا كلما هــاج بي الشوق أبتْ أن تســمَعا

كلــما جـئــــتك راجــــعتُ الصِــــبا فأبــتْ أيامُـــه أن تــرجــِعا

قـد يهــــون العـُـــمرُ إلا ساعــة و تهـــــون الأرض إلا مَوضِــعا ” .

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

موجات

نشرت

في

وفاء سلطان:

مضى على وجودي في أمريكا 36 سنة.

لم أدخل يوما مطعما إلا وتركت للنادلة بخشيشا يفرح قلبها وفوق تصورها.

وفاء سلطان

معظم الذين يخدمون بالمطاعم في أمريكا هم طلاب جامعات ليسدوا مصروفهم، فلقد اشتغل أولادي في المطاعم أثناء جامعاتهم وأعرف كم كان البخشيش هاما بالنسبة لهم.

إلا البارحة قررت أن لا أترك لها سنتا، لكن زوجي رفض القرار وقال كعادته: حرام!

(نعم هو ألطف مني في هكذا مواقف)

أوقح نادلة رأيتها في حياتي، تخبط الصحون على الطاولة وكأنها خرجت لتوها من معركة مع زوجة أبيها.

ضبطت أعصابي بشق الأنفس

لقد اعتدنا ان نفتح حديثا مع من يخدمنا في المطاعم حتى نعرف حياته من ألفها إلى يائها،

ولكن هذه النادلة لم تترك لنا مجالا لنقول: شكرا!

نحن نذهب إلى المطعم ليس من أجل الأكل فقط، بل لتغير الجو وتحسين النفسية، وعندما تقارب الفاتورة المائة دولار وتلقى هكذا معاملة تصاب بالإحباط

حسب رأيي خدمة الزبائن في أمريكا أفضل من أي بلد في العالم زرته، ولنفس السبب لم أحب دول أوروبا!

القاعدة العامة في أمريكا تقول: يجب أن تتعامل مع الزبون كما لو كان دوما على حق!

لو كانت ابنتي محلي لقالت: ماما ارجوكِ سامحيها، لا أحد يعرف كيف كان يومها

هذا صحيح، ولكن على من يشتغل في المرافق العامة وخصوصا المطاعم أن يكون لطيفا تحت أي ظرف!

الحياة لا تعاش إلا ببعض التنازلات، وعندما يتعلق الأمر بعملك يجب ان تتمتع ببعض القدرة على إخفاء آلامك الشخصية ولا تنقل طاقتك السلبية لغيرك!

طاقة كل إنسان تشدّ أو تحجب عنه رزقه، وذلك حسب طبيعتها

كنا ندفع على الأقل 20٪؜ من قيمة الفاتورة، لكن بعد تراشق بالنيران وشد شعر ترك لها زوجي مبلغا، وأنا أتمتم: يا خسارة

فالسلوك الذي يُكافأ يتكرر!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

أناقة ما بعد السبعين

نشرت

في

وفاء سلطان:

في الثمانينات من عمرها.

أحنى الزمن ظهرها قليلا، لكن روحها مازالت تعانق السماء.

وفاء سلطان

التقينا في المكان المخصص لعربات التسويق على باب أحد المحلات.

وبينما هي تسحب عربتها التقت عيوننا فصبّحت علي.

رددت التحية، وتابعت: تبدين جميلة جدا، إذ من النادر أن ألتقي بامرأة بهذه الأناقة والترتيب!

فعلا الحياة الأمريكية العملية أنستنا الكثير من أصول الأناقة والتزين.

إلى حد ما، تعجبني هذه العفوية في أمريكا،

فلقد خففت عنا نحن النساء مهمة التبرج كل صباح، وزادت ثقتنا بأنفسنا.

لكن من ناحية أخرى، من الجميل أن نحافظ على أناقتنا ومظهرنا طالما لا نبالغ

نعم لا نبالغ، فلقد أصبحت الكثيرات من النساء اليوم نسخا متكررة من لعبة باربي:

قشرة من الخارج وفراغ من الداخل

المهم، أشرقت ابتسامتها حتى أضاءت وجهها المهندس بطريقة فنية غير مبتذلة، وقالت بعد أن وضعت يدها على كتفي:

حبيبتي كل سلوك تتقنينه عادة، فمتى تعلمتِ عادة تصبح طريقة حياة

ثم تابعت:

منذ سنوات مراهقتي لا أخرج من البيت حتى أتأكد من أنني أسر الناظر إليّ، فمظهرنا الخارجي يعطي الانطباع الأول

أكدت لها أنها فلسفتي كذلك، وتمنيت لها يوما جميلا

أكمل القراءة

جلـ ... منار

من عياش إلى السنوار… “دوري” الإرهاب الصهيوني

نشرت

في

صبحي حديدي:

اللجوء إلى منهجيات المقارنة يقتضي، بادئ ذي بدء ربما، اعتماد درجة الحدّ الأدنى من التكافؤ أو التناظر تارة، والتفاوت والتنافر تارة أخرى، بين مقارَن وآخر؛ الأمر الذي تتضاعف اشتراطاته، ومشاقّه استطراداً،

صبحي حديدي

إذا كانت المقارنات تخصّ البشر عموماً، وفي ميادين مثل الأخلاق والنفس والسياسة والعقيدة خاصة. فليس من اليسير، في يقين هذه السطور، وضع قياديي “حماس”، ممّن استهدفتهم آلة الإرهاب الإسرائيلية في مواقع شتى وسياقات زمنية وسياسية مختلفة، على محكّ تقييمٍ مقارَن واحد أو متماثل؛ حتى إذا كان تسويغ هذا الخيار ينطلق من مبدأ المساواة، ضمن معايير سياسية أو عسكرية أو إيديولوجية، إيجابية أو سلبية، متَّفق عليها أو محلّ اختلاف. وحتى، أيضاً وربما قبلئذ، إذا ارتكزت المقارنات على مسلّمة ابتدائية وناظمة تضعهم، أجمعين، في خانة مقاومي كيان استعماري عنصري استيطاني فاشي المكوّنات وأبارتيديّ المسارات.

ثمة، بذلك، مقادير متقاطعة عليا من التكافؤ في مصائر الاستهداف الإسرائيلي لأمثال يحيى عياش (المهندس) والشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام وصالح العاروري وجميلة الشنطي وإسماعيل هنية ويحيى السنوار؛ وثمة أيضاً، وفي المقابل الموضوعي أو الضروري، مقادير متقاطعة دنيا من التباينات الناجمة أصلاً عن الوظائف والدلالات والمصائر. طرائق النَيْل من المهندس أو السنوار، ليست مثل اغتيال الشيخ ياسين (قعيد الشيخوخة) أو هنية (النائم في فراشه)، والفارق لا يخفى بصدد الآخرين.

غير منتفاة بالتالي، بل هي ضرورة سياسية ومبدئية، مسألة التشديد على قاسم مشترك أوّل هو إرهاب الدولة الإسرائيلي بوصفه شكل تنفيذ هذه الاغتيالات، وإرهاب الدولة الصهيوني بوصفه المضمون العقائدي الذي يحرّك الدوافع من قلب “فلسفة” عتيقة ترى في الفلسطينيّ تهديداً وجودياً في ذاته وبذاته. وأياً كانت تفاعلات الشكل مع المضمون فإنّ توحّش إرهاب الدولة يلجأ، دون إبطاء، إلى إخراج الجغرافيا من المعادلة: “المهندس” ابن سلفيت في الضفة الغربية، متساوٍ مع السنوار سليل مجدل عسقلان المحتلة سنة 1948، وكلا الفلسطينييَن في خانة واحدة مع محمد الزواري… التونسي!

وليس عجباً أنّ الليكودي أرييل شارون كان مهندس اغتيال الشيخ ياسين؛ و”حكيم” حزب العمل، شمعون بيريس، كان الآمر باغتيال عياش؛ والليكودي الثاني نتنياهو كان على رأس حكومة الاحتلال يوم استشهاد السنوار. وليس من باب العجائب أنّ الثلاثة كانوا مجرمي حرب بامتياز، كلٌّ على طريقته وأفانين إجرامه، وأنّ تكوين دولة الاحتلال ظلّ ينحطّ من هاوية عنصرية إلى أخرى فاشية.

والحال أنّ منهجيات المقارنة الكلاسيكية ذاتها قد تعيد إنتاج مواضعاتها المألوفة، بين ماضي 1996 وحاضر 2024، على أصعدة حاسمة تخصّ ما هو عميق ومحوري في معمار “حماس” السياسي والعسكري والعقائدي. ذلك لأنّ أغراض الاحتلال من وراء اغتيال “المهندس” انقلبت ضدّها حين أفقدت قيادات “حماس” بعض ذرائع الاعتدال، وانتظار استكمال الانتخابات بوصفها الاستحقاق السياسي الفلسطيني الأبرز في ذلك الطور، وأفسحت المجال أمام انعتاق الحرج الآخر الذي كان يكبّل فصائل عز الدين القسام ويشلّ عملياتها.
وليس استشهاد السنوار ببعيدٍ، اليوم، عن منطق تطوّر مماثل تُضاف إليه اعتبارات عديدة فرضتها سيرورات “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ إذْ قد يقبل امرؤ أنّ غياب السنوار عن المشهد الميداني في قلب المعركة المفتوحة يمكن أن يوجع المقاومة، وقد يساجل امرؤ آخر بأنّ الغياب ذاته قد يكون عتبة الوثوب إلى مراحل انتقال ليست أقلّ استكمالاً لتلك التي دأب عليها القائد الغائب.

“دَوْري” إرهاب الدولة الصهيوني تتعاقب فصوله، إذن، ولكن ليس من دون تبدّلات تقلب السحر على الساحر الإسرائيلي؛ كأنْ يفوّت السنوار على الكيان فرصة “اقتناص” على شاكلة شيخ في كرسيّ متحرّك، أو قيادي نائم في فراش.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار