بمناسبة إجراء اختبارات مناظرتي السيزيام والنوفيام، خلال الفترة الممتدة من 20 إلى 25 جوان 2022، نطرح مجموعة من “التساؤلات الحائرة”، التي استخلصناها من الجدل الذي صاحب نتائج اختبارات دورتي 2018 للسيزيام والنوفيام.
<strong>د مصطفى الشيخ الزوالي<strong>
ونهدف من خلال هذه التساؤلات، إلى الكشف عن بعض المفارقات التي تُميّز المنظومة التربوية في تونس، وتساهم في هدر الكثير من الموارد والطاقات. عسى أن يساهم ذلك في تعزيز الرأي المطالب بإلغاء مؤسسات التعليم النموذجي فيتونس، ضمن التصورات الجديدة للتربية والتعليم، التي نأمل أن ينطلق نقاش عام جدّي حولها في بلادنا، على غرار ما حدث في مختلف بلدان العالم مؤخرا [2].
هل تقيس المناظرتان مستوى التلاميذ في التعلمات المختلفة كما هو متوقّع أن يكتسبوه خلال السنة الدراسية من مُدرّسيهم بالتعليم العمومي او الخاص، أم هي تقيس مستوى التدريبات المكثفة التي تلقوها على مهارات اجتياز الاختبارات من قبل خبراء المناظرتين في إطار الدروس الخصوصيّة؟
أين يكمن الخلل عندما تكثر ’’ الأصفار’’ في اختبارات المناظرتين في المواد المختلفة بالنسبة لتلاميذ تعوّدوا الحصول على أعداد جيّدة خلال السنة الدراسية؟
ما هي الآثار النفسية لحصول آلاف التلاميذ على أعداد ضعيفة جدا في اختبارات المناظرتين، وهم الذين قد تعودوا طيلة مسيرتهم الدراسية على أعداد مرتفعة جدا في أقسامهم؟ ( للتذكير فإن التلميذ الفنلندى، لا يخضع إلا لامتحانسنوي «موحّد» مرة واحدة فقط تكون فى نهاية المرحلة الثانوية. والفئات العمرية الصغيرة – الى حد 13 سنة- لا تعرف أي شكل من أشكال التقييم الجزائي. وعندما يُشرع في إسناد العلامات بدءا من سن 13 فإن التلميذ يُنقّط من 4 إلى 10، و يمنع منحه الصفر حتى لا يشعر بالإحباط و الفشل.)
مع التطوّر المطّرد في ارتفاع مستوى التميز الدراسي لعدد كبير من المترشحين للمناظرتين،على أي أساس سيتم فرز المترشحين؟ وما الذي سيصنع التميّز؟ كما يتضح من تجارب السنوات السابقة، سيتم ذلك أكثر فأكثر “على أساس إمكانيات حل المشاكل الرياضية“(ولا يفوتنا هنا، التذكير بأن التميز الدراسي في تونس، لم يعد مرتبطا بما تقدمه منظومة التعليم العمومي من خدمات بقدر ارتباطه بمجهودات عائلية فائقة، وتعبئة لموارد كثيرة لتأمين دروس خصوصية وبحث مستميت عن أحسن المدرّسين/المُدرّبين الخصوصيين.)
ولكن مع تطور مستوى التدريبات على حل المشاكل الرياضية، تحت رعاية خبراء الاختبارات، كيف سيتعامل واضعو الاختبارات بوزارة التربية مع هذه الوضعية؟ يبدو أنه لا مفر من اللجوء إلى الاختبارات “التعجيزية” وأسلوب’’وضع الفخاخ’’. ( نجد الكثير من المُدرّسين في كل مراحل التعليم من يستمد مكانته و”هيْبته“ من قدرته على تقديم اختبارات يقال عنها بالعامية : “كاسحة” “حجر”، “فيها برشة تعويج”). وتنمُّ هذه الممارسات، في تقديرنا، عن استبطان الرؤية التقليدية للمدرسة ولوظيفة الامتحانات ولدور المدرس. في الإطار نفسه، نصنف التبرير المتكرر لهذه الممارسة بمثل شائع من الموروث القديم ‘’عند الامتحان يكرم المرء أو يُهان ’’ (وهو مثل فارسي قديم، أورده الحريري في مقاماته)، لا ينسجم مع “المدرسة الحديثة” ومنطق ’’الحداثة المنشودة’’ والنصوص الضامنة لحقوق الطفل في كل التشريعات الوطنية والدولية.
هل احترمت بعض الاختبارات مبدأ الوضعيات الدالة للسياق الذي يعيش فيه التلميذ؟ وما هو التمثّل الضّمني لنموذج الطفل الذي يتوجه له الاختبار؟ في اختبار الإيقاظ العلمي لمناظرة “السيزيام” 2018 ، اعتبر واضعو الاختبارات أن الإجابة الصحيحة الوحيدة عن “سر طول عمر الجد الفلاح في سبيبة بالقصرين هو أكل السمك والبرتقال”؟!! . وهنا استحضر مثالا آخر أقوى دلالة على ظاهرة إسقاط الوضعيات وضعف الاندماج مع المجتمع كجزء من ظاهرة استعلاء المدرسة على الأسرة والمجتمع [3]، ففي’’ امتحان ’’السيزيام” لسنة 1968، كان موضوع الإنشاء على هذا النّحو “خلال القيام بنزهة عائلية تعرضت السيارة للعطب، صف الحادثة” وشكل الموضوع لغزا محيرا لجل التلاميذ في الأرياف فلا السيارة ولا النزهة تدخلان في نمط عيشهم ولا في امكانياتهم. في جانبه الإيجابي مثّل الموضوع حافزا استثنائيا لإعمال الخيال”.[4]
كيف يمكن أن نفسر التنافر المُلاحظ بين الطريقة المطلوب استخدامها رسميا من المدرسين وهي المقاربة بالكفايات والتي يتدربون عليها مع المتفقدين، والطريقة التي يستند اليها واضعو الاختبارات في المناظرتين أي المقاربات بالموضوعات؟
بينما يمثل إلغاء التعليم الخاص أو الحد من انتشاره، هدفا استراتيجيا منشودا يسعى إلى تحقيقه كل نظام تربوي ( على غرارا فنلندا التي لا يوجد بها تعليم خاص)، نلاحظ في تونس عديد المؤشرات الدالة على عكس ذلك تماما، إذ من هو المستفيد الأساسي من مناظرتي النوفيام والسيزيام غير التعليم الخاص ومقاولو التعليم؟ بشهادات التلاميذ وجميع الأطراف بالمؤسسة التربوية، تحولت الحصص المدرسية في التعليم العمومي،لدى “مقاولي التعليم” إلى تُكأة للضغط على التلاميذ وحشدهم للدروس الخصوصية وليس أمام الأولياء سوى الإذعان للأمر الواقع.
تحقق بعض المدارس الابتدائية الخاصة نسب نجاح 100% بمناظرة “السيزيام” ونسب قبول مرتفعة نسبيا بالإعداديات النموذجية. فهل يرجع ذلك الى جودة خدماتها وتجسيمها لأهداف المنظومة التربوية أم لقدراتها و”حيلها” في التأقلم مع مقتضيات الاختبارات في مناظرة السيزيام؟ لقد بات معلوما لغالبية المهتمين بالشأن التربوي أن تلك المدارس تعتمد استراتيجيات متنوعة لضمان ذلك النجاح ‘‘الباهر”،من قبيل انتقاء المترشحين للمناظرة وعدم السماح بالتسجيل فيها لمن تعتبرهم ’’غير مطابقين للمواصفات”،حملات إعلامية من أجل تعبئة أو “انتداب’’ أفضل تلاميذ الخامسة ابتدائي بالمدارس العمومية وترغيبهم في الالتحاق بها بعرض خدمات إضافية أو التسجيل المجاني كليا أو جزئيا، تخصيص الثلاثي الأخير من السنة الدراسية للتدريب على المواد الأساسية وعدم “إضاعة الوقت مع مواد خارجة عن اختبارات المناظرة’، اللجوء إلى خدمات “خبراء الاختبارات” من المعلمين والمتفقدين المتقاعدين.
هوامش:
[1] سبق أن نشرنا في جلنار بتاريخ 17 نوفمبر 2021، مفارقة تونسية أولى تحت عنوان” تساؤلات حول دور النقابات في تونس زمن الانتقال الديمقراطي”
ثم في مفارقة ثانية بعنوان “الجدل المتجدد حول التعليم النموذجي في تونس” منشورة يوم 28 أفريل 2022
[2]اطلقت اليونسكو منذ سنتين، مبادرة ” مستقبل التربية و التعليم في أفق العام 2050 وما بعده”. وتوجت هذه المبادرة في نوفمبر 2021، بصدور تقريرها بعنوان “وضع تصورات جديدة لمستقبلنا معا: عقد اجتماعي جديد للتربية والتعليم“. ومن المنتظر أن تنتظم نقاشات عامة حول هذا الموضوع في مختلف انحاء العالم.(في هذا الإطار نظم المعهد العربي لحقوق الانسان، أكثر من 20 ندوة، خاصة بالمنطقة العربية)
[3]هي جزء من ظاهرة أشمل تناولناها في مقال منشور بالصحيفة الالكترونية “الزراع” بتاريخ 13 /11/2019 تحت عنوان” “إلى متى يتواصل استعلاء النخبة التونسية على مجتمعها؟”
[4]أورده الباحث الصغير الصالحي في كتابه ’’الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة منظومة التهميش في تونس نموذجا’’ تونس 2017. ص. 242
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.