تابعنا على

جلـ ... منار

رسائل سياسية في المونديال

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

شاع مصطلح “دبلوماسية البينغ بونغ” عام (1971) إثر مصافحة بدت عادية بين لاعبين أمريكي وصيني في مسابقة دولية جرت وقائعها باليابان.

عبد الله السنّاوي
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

كانت تلك المصافحة نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين البلدين.
خفضت مستوى التوتر في جنوب شرقي آسيا وأسرعت بإنهاء حرب فيتنام.
فتحت صفحة جديدة في النظام الدولي، ومهدت لدخول
“الصين الشعبية” مجلس الأمن الدولي بديلا عن تايوان.
وقدمت وزير الخارجية الأمريكي “هنري كيسنجر” نجما دبلوماسيا فوق العادة.
تدافعت الحوادث بسرعة، كأن المصافحة لم تكن مرتبة ومقصودة.
دعا رئيس الوزراء الصيني “شوان لاي” فريق تنس الطاولة الأمريكي إلى زيارة بيكين، وجرى احتفاء زائد.
كان ذلك تمهيدا لزيارة الرئيس الأمريكي “ريشارد نيكسون” إلى العاصمة الصينية عام (1972) ولقاء زعيمها “ماو تسى تونغ”.
كانت أمريكا تبحث عن فرص ممكنة للخروج من المستنقع الفيتنامي والصين تعمل على فتح آفاق حركة جديدة على المسرح الدولي.

استلهمت مجددا “دبلوماسية البينغ بونغ” في حفل افتتاح مونديال (2022) بالعاصمة القطرية الدوحة بالمصافحة التي جرت بين الرئيسين المصري “عبدالفتاح السيسي” والتركي “رجب طيب أردوغان”.
لم تكن المصافحة عفوية، كل شيء كان مرتبا في مشاهده مقصودا بأهدافه لإنهاء سنوات طويلة من الجفاء السياسي والشخصي.
للدولتين مصالح أمنية واستراتيجية في تخفيض مستوى التوتر بينهما قبل الانتقال إلى الخطوة التالية.. تطبيع العلاقات بالكامل.
بالنسبة لمصر فإن حدودها الغربية مسألة أمن قومي خشية أن تتمركز فيها جماعات عنف وإرهاب مسلحة، وغاز البحر المتوسط أولوية ثانية ثم تأتي بعد ذلك مصالحها المشروعة، كما كل الدول المتداخلة الأخرى، في ملف إعمار ليبيا بعد التوصل إلى تسوية سياسية مستقرة.
بمعنى ألا تنفرد بكعكة الإعمار دولة واحدة توقع عقودا مطعونا في شرعيتها.

وبالنسبة لتركيا فإن تخفيض مستوى التوتر مع مصر يساعد الرئيس الحالي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالمعارضة تحمله مسؤولية تسميم العلاقات والانخراط في أزمات إقليمية مع مصر ودول الخليج بلا ضرورة أو داعٍ.
من حيث التوقيت هناك معضلة جوهرية تعترض أردوغان، فهو من ناحية يتطلع للعب دور جوهري كوسيط مقبول من طرفي الحرب الأوكرانية، بما يرفع من مستوى وزنه الدولي، وهو من ناحية أخرى في حال انكشاف أمني بالتورط المحتمل في مواجهات عسكرية واسعة عبر الحدود مع الأكراد في العراق وسوريا معا دون أن يتوفر لديه أي غطاء دولي روسي أو أمريكي، على ما يصرح ويشتكي.
بالضرورات الضاغطة: نحن أمام الخطوة قبل الأخيرة لتطبيع العلاقات المصرية التركية.

كلا البلدين يحتاج أولا وقبل كل شيء ألا يتصادم مع الآخر فى الظلام.
التحوط ضرورى قبل أية استنتاجات في أمرين رئيسيين.
إذا لم تتم تسوية عادلة للأزمة السورية فإن عوامل التفجير تظل ماثلة في المكان.
وإذا لم تنظر أنقرة للأزمة الكردية بمقاربة جديدة، أو أن تكف عن استخدامها كفزاعة لاستقطاب المشاعر في صناديق الاقتراع، فإن أي استقرار يصبح صعب المنال.
لا يعني التفاهم شبه الممكن أن الأزمات بين البلدين سوف تختفي بضغطة زر.
ما حدث بالضبط في حفل افتتاح المونديال تأكيد جديد على ضرورات التهدئة والتطبيع لا أكثر من ذلك في اللحظة الحالية.

يكفي الالتفات إلى أن اتصالات على مستوى أمني استغرقت وقتا طويلا نجحت في نزع ألغام عديدة بملف “الإخوان المسلمين”، لكن ذلك لم يكن كافيا لعودة العلاقات الدبلوماسية، أو التقدم إلى الأمام في طلب المصالحة، ثم أخيرا بدا التعثر فادحا على خلفية أزمة الغاز في البحر المتوسط.
كان توقيع اتفاقية تركية جديدة مع حكومة “عبدالحميد الدبيبة” داعيا لتأزيم جديد في الصراع على غاز البحر المتوسط كاد ينسف أية آمال معلقة على فرص المصالحة الداخلية برعاية أممية، وينسف بالوقت نفسه أية رهانات لتجاوز حقول الألغام في العلاقات المصرية التركية.
هكذا فإن هناك ضرورات أمنية وإقليمية استدعت العودة مجددا لبحث التقدم إلى الأمام في المصالحة.

كانت “دبلوماسية البينغ بونغ” مدخلا مناسبا في محفل رياضي لإزاحة الشكوك المتبادلة.
بالتعريف فإن الرياضة ليست ميدانا سياسيا، لكنه لا يمكن عزل ما هو رياضي عما هو سياسي.
هذا وهم كامل.
لأسباب سياسية مباشرة ألغيت المشاركة الروسية في مونديال قطر على خلفية الأزمة الأوكرانية.
القرار سياسي من أوله لآخره ولا علاقة له بأية قواعد رياضية.
وقد كانت دواعي المنتخب الإيراني لعدم ترديد النشيد الوطني قبل مباراتهم مع إنكلترا رسالة سياسية عن عمق أزمة الاحتجاجات الداخلية والحاجة إلى مقاربات جديدة تستبعد الحلول الأمنية وتستجيب لما هو مشروع من حقوق.

إنكار الأزمة لا يساعد على حلها.
هذه حقيقة ثابتة.
أسوأ ما يجرى من وقت لآخر في ميادين الرياضة التوظيف السياسي للحماس الجماهيري لغير طبيعة أهدافها.
أثناء فتنة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر (2009) المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا (2010) وصلت حملات الكراهية المتبادلة إلى التنابز بالأوطان واختلاق الوقائع والقصص المحرضة على القتل.
بدا أن الهدف إخفاء فشل النظامين تحت غبار مباراة كرة قدم.
كان ذلك مثالا لانتهاك أية قيم إنسانية وأخلاقية وسياسية في المساحة ما بين السياسي والرياضي.

كانت مصر قد رشحت نفسها لتنظيم ذات البطولة.
أشرف الزعيم الجنوب إفريقي “نيلسون مانديلا” على ملف بلاده.
وصف في دوائر الحكم هنا بأنه “شوية كراكيب” ــ على ما روى لى الأستاذ محمد حسنين هيكل نقلا عن مسؤول كبير متصل بالملف في منتصف مايو (2004).
بدا هيكل منزعجا من العبارة وحماقاتها: “الرجل وراءه أسطورة”.
كان ذلك استهتارا مروعا بقيمته ورمزيته في العالم دفعت مصر ثمنه موجعا في “صفر” المونديال.

من مفارقات التاريخ أن نظام الحكم، الذي استهتر بـمانديلا، سقط في (11) فبراير (2011) بعد واحد وعشرين عاما باليوم من إطلاق سراحه وتكريسه زعيما استثنائيا.
لم يكن الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي مقتنعا بأن هناك فرصة أمام مصر لتنظيم البطولة الدولية، صارح الرئيس حسنى مبارك برأيه.
قال مبارك: “قل لجمال”!
فى اليوم التالي غادر مصر إلى باريس.
هكذا كانت تجرى الأمور.
كانت تلك رسالة تبددت في الفراغ قبل صدمة صفر المونديال.

طوال الوقت تطارد اتهامات الرشى والفساد الفيفا، تكشف أو تحجب بمقتضى مصالح وحسابات الدول الكبرى.
الأفلام الوثائقية التي أعدت قبل مونديال قطر شككت في جدارتها بتنظيم البطولة الدولية باتهامات تقديم رشاوى لقيادات الفيفا لم يقم عليها دليل قطعي حتى الآن، ولا أجريت بشأنها تحقيقات.
باليقين الفيفا غارقة في الفساد وأعداد كبيرة من قياداتها جرى اقتيادها للمحاكم بتهمة تلقى رشى خاصة في عهد “جوزيف بلاتر”.

الشبهات المتواترة معلقة فوق استادات البطولة، حتى اتهمت قطر بأنها اشترت كل شيء.
باليقين أيضا فقد نجحت بتنظيم المونديال (2022) بأكثر مما هو متوقع، رغم الانتقادات التي نالتها من المبالغة في الإنفاق، الذي وصل إلى (220) مليار دولار، الرقم بذاته يفوق كل خيال ويكفى ويزيد لانتشال الوطن العربي من وهدة أزماته الاقتصادية الماثلة.
وكان الإفراط في الخطاب الديني داعيا آخر للانتقاد، فالمناسبة رياضية لا دينية.
بصورة لافتة حرصت قطر على تأكيد انها تمثل العرب كلهم، ولا تمثل نفسها فقط.
كانت تلك إشارة إيجابية لاقت عوامل صدقيتها في الاحتفاء العربي الجماعي والشعبي، بعيدا عن حسابات الأنظمة وتناقضاتها، لفوز بعض المنتخبات العربية في الجولة الأولى من دوري المجموعات.

كانت تلك الرسالة السياسية الأهم في مونديال (2022).
أننا شعب عربي واحد، مشاعره موحدة في اختبارات الفرح الجماعي والحزن الجماعي، وأننا قادرون أن نتجاوز الدونية المخيمة إذا ما امتلكنا الثقة في أنفسنا وأسباب التفوق والتقدم في ميادين الرياضة وغيرها من الميادين.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

لروحك السلام يا آخر العباقرة

نشرت

في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غادة السمّان:

ماذا يقال في رحيلك وقد قلتَ كلّ شيء.

يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.

غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!

هذا المقال أوائل البدايات في الصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت

تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.

كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.

ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع

شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.

لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.

لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!

كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.

ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..

‎ زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.

‎مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:

‎” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.

هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.

لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!

ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.

بعيداً وباستحقاقٍ جدير بالاعتراف يرتقي إلى مكانة المفكّر العبقريّ، والناقد الأشدّ لذعاً بمختلف ميادين الحياة.

هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..

إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.

من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!

إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.

وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!

ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.

حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..

أكمل القراءة

جلـ ... منار

دفاعا عن ماجدة الرومي

ردّاً على مقال: حين يعلو الجهل ويخفت الإدراك الموسيقي

نشرت

في

جمال فياض

في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.

إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندما يُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.

أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!

إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.

أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.

وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.

نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.

السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…

بكل مودة الزمالة…

شكراً ، لمن كتب بالسرّ، ومن نشر في العلن

أكمل القراءة

جلـ ... منار

النصر والهزيمة في حرب الـ (12) يوما!

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.

فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.

عبد الله السنّاوي

بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.

ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.

من الذي انتصر حقا؟!

أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.

إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.

القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.

لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.

“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.

كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.

إنهما حرب واحدة.

هكذا بكل وضوح.

أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.

لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.

هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.

لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.

“إنها حثالة”!

لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.

حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.

التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.

يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.

بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.

قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.

ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.

بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.

إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.

بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.

تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.

كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.

أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.

في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.

فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.

فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.

المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.

بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.

بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.

وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.

أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.

نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.

كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.

وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.

الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.

أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.

بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.

الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.

والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.

الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.

هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.

لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.

أكمل القراءة

صن نار