تابعنا على

جور نار

خُرافات تربوية

نشرت

في

لا بدّ من التوضيح منذ البداية أنّ تعبير “أساطير تربوية” أو “خرافات بيداغوجية” Légendes pédagogiques استعمله الفيلسوف الكندي نورمان بايّارجون الذي درّس طويلا بكلية علوم التربية بمونريال.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

يقول بايارجون:“صنعتُ مفهوم الخُرافة البيداغوجية عندما استطعتُ – أنا الذي أُصدم دائما بهيمنة المعتقدات غير المؤسّسة في حقل التربية والتي تكون أحيانا غريبة ومدهشة- الربط بين هذه المعتقدات والأساطير الحضرية التي أصبحت مألوفة بكل تأكيد بالنسبة إلى الكثيرين منكم”.

ويقصد بايّارجون بهذا المفهوم تلك الحكايات التي يتداولها جميع الناس في الفضاء العام أو على مواقع التواصل الاجتماعي في الشأن المدرسي وتكون غير مؤسّسة على نتائج ثابتة لدراسات أو بحوث علمية وأكاديمية مشهود بصدقيّتها.

أما في السياق التونسي، فهنالك أيضا الكثير من المعتقدات التربوية الشائعة بين الناس ولكن بإخضاعها إلى شيء من العقلنة والتمحيص سرعان ما نكتشف إما خطأها أو على الأقل بروز الحاجة الملحّة إلى تنسيبها ومزيد إعمال النظر فيها.

وهذه بعضها :

أولا : المرونة والليونة في التعامل مع التلاميذ… تساعدان على نجاحهم

غالبا ما تُفهم المرونة في مدرستنا وخارجها على أنها مُرادف للتسامح المغلوط إزاء كل ما يأتيه التلميذ وضرورة امتناع المدرسة والمُدرّسين على التسبّب في خلق مناخ من الضغط النفسي الذي يؤثر سلبا على معنوياته ونتائجه. بينما الليونة المطلوبة في الوسط المدرسي هي عدم المسارعة إلى العقاب والسهر على القطع مع العقوبات الكاسرة وتفهّم أسباب التجاوزات المختلفة وخلق المناخات العلائقية الملائمة لبناء علاقات متوازنة. فالحزم مطلوب والانضباط في السلوك إزاء الآخرين وإزاء الدرس والمعرفة هو الذي يخلق تمليذا متوازنا ومتحضّرا ومنضبطا.

ففي المدارس الصينية على سبيل المثال “المعروفة بجديتها المفرطة” حسب أغلب التقارير الدولية، تأسس نظام صارم جدا لكن لم يمنع الأطفال (كما رأيناهم في الأشرطة الوثائقية التي تبثها التلفزات الأوروبية) من اللعب واللهو والابتسامة والفرح البيّن وهم يتوجّهون نحو أقسامهم. وهنا، ليس من حقّنا كتونسيين أن نتناسى بشيء من الكبرياء والمكابرة أن التلميذ التونسي مصنّف في المرتبة الأخيرة عالميا (بعد التلميذ الفرنسي) على مجموع 72 جنسية على مستوى الانضباط المدرسي والاستقامة في السلوك!!!  فالمرونة لا تنفع مطلقا مع هذا الملمح الذي ساهم في صنعه منطق “فلذات أكبادنا” و “الطفل الملك” و “مشكلة ولدي أنّو حسّاس برشة”…

ثانيا : الأساتذة كَسَالى و”شايخين” بالعطل

 ليس هناك أبلغ من الأرقام في تأكيد أو تفنيد مثل هذه “الخرافات التربوية” التي يتناقلها الناس جميعا. فالأرقام الدولية تقول ان الأستاذ يُقضّي حوالي 10 ساعات أسبوعيا في إعداد دروسه و 6 ساعات في إصلاح الفروض والتمارين والأعمال المختلفة و 3 ساعات في البحث عن الوثائق والمراجع لتدعيم دروسه… دون احتساب الـ 20 ساعة في المعدّل التي يُقضّيها الأستاذ داخل الفصل. أي تقريبا بمعدّل حجم العمل الموكول إلى العمال الزراعيين وأعوان المخابز وسوّاق القطارات…أي 40 ساعة وأكثر.

وعليه، لا يصُحّ القول مطلقا ان الأساتذة في معظمهم- لا يبذلون جهدا كافيا في علاقة بواجباتهم المهنية خاصة إذا ما أضفنا معاناتهم اليومية إزاء 3 ضغوط كبرى : الإحساس بالعجز إزاء شريحة كبيرة من التلاميذ يفِدون عليه دون تملّك أدنى للمكتسبات الأساسية، والشعور بالغُبن أمام أجر يتدحرج كل يوم ليصبح أدنى من منحة المتشرّدين في أوروبا، وحصول القناعة بأن مركب المدرسة العمومية يغرق أمام أعين دولة أصابها الإعياء والصّمم والعمى.

ثالثا : العلم في الرّاسْ وليس في الكرّاسْ

أطفالنا بصورة عامة لا يعتنون بخطّهم ولا يولون أهمية كبرى لكرّاساتهم التي يمزّقونها إربا إربا في نهاية كل سنة دراسية (ملاحظة: أنا على استعداد اليوم لدفع أي مبلغ لو أُمكّن من إحدى كرّاساتي وأنا طفل صغير)… وظاهرة تقطيع الكراسات أمام المؤسسات التربوية قد تقترن بذلك الشعار البائس الذي يقول ان العلم ليس في الكراس بل في رؤوس بعضهم الفارغة التي تعشّش فيها الأساطير وتخاريف صُنّاع المقولات الخاوية. فكنوز العلم وجواهر المعرفة ودُرر الثقافة مُخبّأة بعناية طيّ الكتب التي ألّفها السّابقون والمراجع التي يكدّ من أجلها المعاصرون. المشكل في رأيي لا يكمن في المرور من الورقي إلى الرقمي لكونها في النهاية مسألة محامل لا غير ولكن المشكل الأكبر يكمن في المرور من الأثر المكتوب حبريّا أو رقميا إلى “ثقافة” الصورة المشهدية والجملة البرقية والتناولات السطحيّة المعمّمة.

رابعا : النجاح بمعدّلات عالية يضمن المستقبل

يجب استبدال هذا الشعار بـ “النجاح بمؤهلات جيدة وشخصية متوازنة يضمن المستقبل”، لأن المعدّلات العالية تضمن الالتحاق بمؤسسات جامعية يتكثّف الإقبال عليها بعد الباكالوريا وبالتالي يرتفع سعر الدخول إليها ولكن المؤهلات الحياتية الواعدة شيء آخر تماما. كم من معدّلات عالية عاد أصحابها من الجامعات الألمانية أو الفرنسية وهم منكسرون لأسباب تتعلق عادة بالقدرة على التأقلم وفقدان المهارات العلائقية وعدم التدرّب على المبادرة وغياب القدرة الفردية على مواجهة الصعوبات وعُسر التعويل على الذات في حلّ إشكاليات يومية… وكلها اقتدارات مطلوبة لم يتهيّأ لها أبناؤنا وبناتنا بشكل مرضي أثناء مراحل دراساتهم الأولى.

خامسا : ذوو النتائج الضعيفة فحسب يتطلبون مرافقة ودعما

يتوزع المتعلّمون عادة إلى 3 أصناف كبرى :  الذين هم بحاجة إلى اللحاق برأس الكوكبة، والذين هم بحاجة إلى المحافظة على نسق تعلّمهم وتثبيت مكتسباتهم، والذين بهم رغبة جامحة للتقدم بسرعة أكبر مقارنة بباقي أفراد المجموعة. وفي الحالات الثلاثة، يحتاج الطفل أو الشاب إلى من يساعده (داخل القسم وخارجه وسط العائلة وبعيدا عن دكاكين الشحن المدرسي) من أجل تدقيق وتجويد ما تعلمه في المدرسة وتحفيزه لجعله يُقبل على التعلّم بابتهاج وعدم امتعاض… وهو استثمار أكاديمي ستتضح نجاعته مع مرور الوقت قبل حلول الدراسات الجامعية.

سادسا : مستوى التعليم كان أفضل في السابق

“يا حسرة على قراية بكري” و “مستوى التعليم طاح” و “برة شوف التلامذة اليوم كيفاش يكتبو” الخ… خطاب الحنين هذا يكاد يؤثث كل البيوت وكل المقاهي التونسية لأن قتامة المدرسة في الماضي كانت صامتة ومسكوت عنها بعناية بوليسية فائقة، وحجم الانقطاع أصبح فاضحا جدا لأن التمدرس أضحى بالملايين وليس ببعض الآلاف فقط كما كان في السابق.

كنا ربما نكتب بشكل جيد والبعض منا يعرف جيدا قواعد الحساب أو قواعد رسم الهمزة ويحفظ عن ظهر قلب حروف الجرّ أو الفرق بين الصفة والحال، لكننا لم نكن نعرف الحواسيب ومتاهات العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات في وقت قياسي وبالتالي القدرة على اتخاذ القرارات. فأبناؤنا وبناتنا اليوم أقدر منا بكثير (لما كنا في سنّهم) على فهم المركّب وأسرع منا في اكتساب المهارات وأكثر قدرة منا على اكتساب مفاتيح ولوج العالم بلغاته وحضاراته ومقتضياته المختلفة.

سابعا : الإصلاح التربوي الشامل سيُخرج مدرستنا العمومية من أزمتها الخانقة

أولا صفة “الشمولية” لا تعني أن تتحدث أدبيّات الإصلاح السابقة واللاحقة عن كل الجوانب التي تهمّ الفعل التربوي كالحياة المدرسية والتجهيزات والتعلّمات وخارطة الشعب ومنظومة التوجيه والبرامج والكتب المدرسية الخ… بل تعني أساسا أن تمسح المعالجات المقترحة كافة المرافق ذات العلاقة بالمدرسة وأن تؤمن الدولة في أعلى مستوياتها بأن التربية تعلو ولا يُعلى عليها (تصوّرا وتمويلا وتحشيدا) وأن يصبح التدريس مهارة استثنائية يتعيّن على القائمين به “الاستفاقة مبكّرا جدا” كما يقول التعبير الفرنسي وأن يُصبح لدينا في تونس مدرسة (بمستوياتها التحضيرية والابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية والمهنية) بمستوى هدر يقارب درجة الصفر. بمعنى أن أي تلميذ أو طالب أو متكوّن يجب أن يُلبسهُ المجتمع “سِوارا إلكترونيا تربويا” يسمح بالتعرّف على مربّع تواجده الذي لا يجب أن يخرج عن دائرة الدراسات العامة أو المراحل التكوينية التمهينية في شتى المجالات أو الدورات التدريبية المُفضية إلى تشغيل مباشر أو الحلقات التأهيلية الدامجة في مجالات مخصوصة وطنيا ودوليا.

وبالتالي يمكن أن نُنجز أفضل إصلاح تربوي على الإطلاق تنظيرا وإنشاءً وصياغة ولا يُفضي بالضرورة إلى نتائج ميدانية ملموسة تنهض يمُخرجات المدرسة وترتقي بأدائها.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار