جور نار
ملاحظات نقديّة … على هامش تغيير النظام التأديبي المدرسي
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriيبدُو أن وزارة التربية تشتغل خلال هذه الفترة على تنقيح النظام التأديبي المدرسي الحالي نظرا لما اعتراه من تآكل وتقادم أمام التطورات المُذهلة الحاصلة في سلوكات التلاميذ، وتغيّر ملمح هؤلاء واستفحال عديد الظواهر المُستجدّة داخل الوسط المدرسي وخارجه، وكذلك تحت وطأة التطورات السريعة المُسجّلة في مجال الرقميّات الحديثة التي تؤثّر بشكل مباشر على علاقة التلميذ بمحيطه ودروسه ومدرسته ومصادر إمتاعه ودروب إفلاته من قبضة السلطة بمختلف قُبّعاتها.
نُسجّل في البداية أن النص القانوني اليتيم المنظّم للمسألة التأديبية في مؤسساتنا التربوية هو منشور وزير التربية والتعليم المؤرّخ في 01 أكتوبر 1991، أي مرجعية قانونية تجاوز عمرها أكثر من ثلاثين سنة (بمعنى أن القانون الذي طُبّق على تلميذ في التسعينات وأصبح وليّا فيما بعد، مازالت إجراءاته سارية على أبناء هذا الأخير اليوم !). ولست أدري ما الذي كان يمنع حوالي 14 وزيرا تعاقبوا على التربية بعد 1991 من إجراء بعض التغييرات الضرورية على منشور أفرزته ظروف لم تعد قائمة وسياق لم يعد السياق ؟
سأكتفي في هذه الورقة بالتأشير على هِنات النظام الحالي ونقائصه ومظاهر القصور في إجراءاته وترتيباته دون الخوض في ما يجب أن يكون عليه النظام المرتقب…نظرا لضيق المجال. ولكن قبل سرد بعض الملاحظات، بودّي التنبيه – درءًا لأي سوء تأويل- إلى أنني لا أدافع على مقاربة زجرية صارمة تكسِر الناشئة وتُلحق بهم شتّى أنواع العاهات النفسية والبدنية، ولا على مقاربة تُعلي”حقوق الطفل” فوق كل الاعتبارات الأخرى وتُبيح كل أنواع التجاوزات والشّرود (الشّرود هو التعبير الذي يُطلق على مخالفة التسلّل في إعلام المغرب الأقصى)… لأنه بين هذه وتلك، تتّسع المساحة لإنبات مدوّنة سلوكيّة مرِنة دون ارتخاء، وحازمة دون إيذاء في نفس الوقت.
ملاحظة أولى : الخطاب المستعمل في صياغة النص الحالي المتعلق بالنظام التأديبي تتكرر فيه مصطلحات تُحيل على سجلّ عقابي وسجني جزائي عسكري في عديد من المواقع من قبيل : الاحتراس الكامل من كل أشكال التكاسل في أداء الواجب، وترويض النفس على جد البذل والجدّ في العمل والانضباط في السلوك، واتخاذ التدابير اللازمة، ومقاومة الانحرافات، و الالتجاء الى الوسائل الردعية، وإيقاف التلميذ، ومثوله أمام المجلس، وإحباط نية الغش قبل حدوثه، والعواقب الوخيمة، والحرمان من مواصلة اجراء الاختبار، وإدانة تلميذ إلخ …ممّا يجعل الجانب الزجري والردعي مهيمنا على الجانب التربوي والتّقويمي.
ملاحظة ثانية : في المقابل لا نجد أثرا لسجلّ أو سرديّة حديثة أضحت متداولة في جل المنظومات التربوية المتطورة مثل: المرافقة والتواصل والحوار، ومكانة التلميذ وحقوقه، والتصرف في السلوكات داخل الفضاء المدرسي (بدلا من العقاب المدرسي)، والسلوكات الحميدة، وتكافؤ الفرص، والعيش معا، والتأطير والعناية والإصغاء، والتشاركية في بناء القواعد السلوكية وتطبيقها من قبل المربين، وجودة التعلم، وحسن التعامل مع التلميذ، واحترام ذات المتعلم وحفظ كرامته، والتعامل مع المتعلم كذات فاعلة جديرة بالاحترام والتقدير، وتوفير الحماية لجميع التلاميذ، وتوفير شروط توازنهم وفرحة التعلم لديهم… وهي تعابير يسكنها كلها همّ مشترك: توازن التلميذ ونجاحه فوق اعتبار “المحافظة على النظام وضمان الانضباط والاستقامة”.
ملاحظة ثالثة : في عائلاتنا جميعا لا يوجد منشور مكتوب يُحدّد السلوكات أو قانون صريح يُنظّم العلاقات بين جميع أفراد العائلة، فكل شيء ضمني ومسكوت عنه ولكن الجميع يعلم جيدا ما له وما عليه في علاقة باستقامة الخطاب وترتيب الفضاءات واحترام الوالدين والتجمّع حول مائدة الإفطار في إبّانها ومراقبة نبرة الصوت وإجلال السّقف الذي يأوي العائلة… أما في الفضاء المدرسي فيُمضي الوليّ في مفتتح كل سنة دراسية على نظام داخلي مكتوب وتُعلّق مدوّنات حسن السلوك ومواثيق العيش معا داخل كل زاوية وكل فصل، وتوجد هياكل وأجسام تربوية تسهر على حسن تطبيق الإجراءات والتراتيب المدرسية…ولكن لا أحد يعتبر نفسه معنياّ بها. الكلمة المفتاح هنا في تقديري هي “الانتماء“. البيت بالنسبة إلى تلاميذنا هو بيتهم أما المدرسة فليست بيتا لهم. والإخوة “سند عظيم وضلع ثابت لا يميل”، أما الأقران فهم مجموعات مؤقّتة للّهو والزّهو وتحصيل بعض الشعور بالانتماء، والأبوان عنوان للقداسة والتبجيل أما الأساتذة والمعلمون فأغلبهم مُوزِّعون آليّون للأعداد وجسور عبور نفعيّة محضة. فلو نسحب القوانين “العُرفيّة” للعائلة على مجال الحياة المدرسية لاستقامت أمور مدرستنا وصلح حال ناشئتنا.
ملاحظة رابعة : النص القانوني المعتمد منذ جيل ونصف يتحدّث عن “الإساءة لأحد أعضاء الأسرة التربوية” وكأنهم جسم متجانس يتقاسم المفاهيم والرؤى والتصورات القيميّة (في علاقة بالتلميذ نفسه وهندامه وتصرّفاته وخطابه وسلوكاته المنزاحة أحيانا…). كما يتحدّث عن “الانحرافات” وكأن هنالك إجماع طبيعي حول تعريف الانحرافات وسوء السلوك والتطاول والإساءة… وفي ذلك إصرار على تعمّد انتهاج الضبابية والتضمين وتجنب التصريح من أجل تكييف العقوبات كما يحلو لـ”أعضاء الأسرة التربوية”.
ملاحظة خامسة : نلاحظ تنصيصا وتأكيدا ملحّا على المخالفات والتجاوزات التي تستدعي الإحالة على مجلس التربية ومجلس التأديب، مقابل “صمت” أو “تغافل” أو “عدم اعتناء” بالمخالفات الصغرى أو الأخطاء الليّنة التي تبدو بسيطة ودون خطورة تذكر، لكنّ سلسلة طويلة من الأخطاء البسيطة غير “المُعالجة” في إبّانها تتحول بعد فترة إلى مخالفات خطيرة. ويُحيلنا هذا الواقع على نظرية “النوافذ المكسورة” المؤكدة على أن “ترك زجاج مكسور دون إصلاح في حيّ من الأحياء يؤدّي بالضرورة إلى كسر باقي المربّعات الزجاجية”، وعليه يصبح ممكنا تطويق المخالفات الخطيرة من خلال معاقبة المخالفات الليّنة.
ملاحظة سابعة : هنالك نقائص مفروغ منها باعتبار ما حصل خلال العشريات السابقة من تحوّلات لم يكن بالامكان أخذها بعين الاعتبار في نص 1991، مثل الجرائم السيبرنية (هرسلة وتنمّر وابتزاز…على الشبكات) وتطويق ظواهر الإدمان والعنف المستشري في الوسط المدرسي وفي محيط المدارس واستعمال الهاتف الجوال داخل الفضاء المدرسي والتعلّمي إلخ…
ملاحظة أخيرة : غياب أية إشارة إلى نظام التقييم المعتمد حاليا خاصة في علاقة بالتلاميذ المهددين بالانقطاع أو المرتّبين بشكل سيّء، إذ يعتبر عديد المتابعين للشأن التأديبي بالوسط المدرسي أن “النتائج المدرسية السلبية” غالبا ما يتقبّلها التلاميذ المعنيون على أنها مُهينة ومُحِطّة من كرامتهم بما يدفعهم رأسا نحو المخالفة والجنوح.
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …
لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..
قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…
ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …
وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …
وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..
وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..
قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..
للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …
نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
… من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…
وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…
جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..
اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.
اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.
ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.
ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.
رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،
خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.
سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.
سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم
وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.
محمد الزمزاري:
التاريخ:
ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.
وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …
موقف بورقيبة من المخدرات:
خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.
ماذا عن عهد بن علي؟
عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.
بعد بن علي:
خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل 4 ساعات
صاحب دور “يوزرسيف” في تونس
- جور نارقبل 19 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 86
- ثقافياقبل يوم واحد
الإبداع الأدبي والفكري التونسي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
- صن نارقبل يوم واحد
الحوثيون يستهدفون قاعدة للاحتلال قرب حيفا
- ثقافياقبل يومين
كسرى: الدورة الثالثة لملتقى “سينما الذاكرة”
- جور نارقبل يومين
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)
- رياضياقبل يومين
معين الشعباني يواصل تصدر البطولة المغربية
- صن نارقبل يومين
اختتام المؤتمر الدولي للطب وعلوم الرياضة
تعليق واحد