تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 36

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في حياة الواحد منا حياة لا تشبه الحياة في شيء …هي اشبه بموت حيّ او بحياة ميّتة ..تلك التي لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ..تلك التي يتحوّل فيها الانسان الى كتلة لحم متحرّكة تندثر فيها كل معاني الاحساس ..الاحساس بمن حوله … ولكن وهو الفظيع الاحساس بذاته .. انذاك يتحوّل الى لا شيء في مهبّ اللاشيء ..

عبد الكريم قطاطة

هكذا كنت انا في اليوم الثاني بعد فشلي في امتحان الباكالوريا ..”جهامة على الارض” … لست ادري اين حملتني ساقيّ يومها الا وانا اجد نفسي في منزل اختي الكبرى ..استقبلتني بكل برود ..ربّما هي تحاشت حتى النظر اليّ رفقا بحالي الكئيبة …وربّما هي موجوعة على اخيها ومن اخيها الذي لم يُشرّف العائلة ..تلك العائلة التي ضحّت بالنفس والنفيس حتى يرفع راسها بين افراد العشيرة ..لم يكن في منزلها احد ..كل اطفالها بمدارسهم وزوجها رحمه الله كعادته لا يعرف للراحة طعما .. منذ صغره كان يشتغل ليلا نهارا وهو يتيم الابوين ووحيدهما .. تجرّع طعم اليُتم منذ نعومة اظافره وعاش الميزيريا منذ طفولته فانقطع باكرا عن التعليم، وانخرط في بناء حياته بكل تفان ونجح نجاحا باهرا في تأمين عيشه وعيش عائلته ليصبح احد كبار صُنّاع الاحذية في صفاقس …وكلّ ذلك كان على حساب صحّته…

رحل ذات يوم الى فرنسا دون رجعة بعد ان فشل الاطباء في انقاذه اثر عمليّة زرع لاحدى الكليتين …ذهب راجلا الى باريس وعاد محتضنا تابوته …كان طوال حياتي الدراسية سندا لي لا مثيل له ..كان الاخ الاكبر الذي لم يتركني يوما في خصاصة ..وكان تماما كسي المبروك ..اصرف ولا يهمّك ..واذا استطعت يوما ارجاع المصاريف حبّذا والا “السماح بيناتنا” … وكنت كلّما مررت عليه في حانوته الّا واستقبلني بابتسامته الرقيقة وهو يقدّمني الى زملائه وحرفائه بكل فخر: “هذا نسيبي عبدالكريم” …وينبري في تعداد مآثري ويذكّرهم دوما بانّي اول غصن من آل قطاطة الذي نجح في دراسته …

يومها وجدتني بمنزل من خذلته ..يومها استأذنتني اختي في الخروج لقضاء شؤونها بالمدينة …دون تفاصيل اخرى .. وذهبت اختي ….وواجه عبدالكريم …عبدالكريم … كنت وما زلت قاسيا في مواجهة نفسي ..لا اذكر اني كنت رحيما معها ..وانهمرت عرائض اللوم والادانة ..ايّة حجّة يمكن ان ابرّر بها فشلي ..اوكي يا سي الشباب ..حطّمك الاستاذ الذي اصلح لك فرض العربية ..ولكن ماذا عن بقيّة المواد ؟؟؟ عاملّي فيها بطل وزعمة زعمة قرّيت معلّم وشايخين بيك زملاؤك والمتفقّد ..وبعد ..؟؟ الا تستحي من نفسك وأبوك يصرف عليك وانت في سن العشرين ..؟؟؟ الا تستحي من نفسك وأمّك تنتظرك لتراك يوما “هلال على روس الجبال” .؟؟ الا تستحي من نفسك وكل اترابك يعتبرونك نابغة فوق العادة…؟؟؟ انظر الى كشختك في المرآة ..ماذا تساوي انت الان ..رسبت في الاولى عديناهالك ..مازلت صغير وعدّيت عام طايش ..رسبت في الجزء الاول من الباكالوريا وقلنا “_”خيرها في غيرها” … ثم جاءت الفرصة الاخيرة كي تكفّر عن سيئاتك فاذا بك مفصول نهائيا عن الدراسة ..اذ ان النظام التربوي انذاك لا يسمح لأي تلميذ الرسوب باكثر من ثلاث مرّات طيلة المرحلة الثانوية ..

اذن وبعد فتح صندوق الباك ستتخلّى نهائيا والى الابد عن مبلغ قدره (الدراسة) ولم يبق في “دليلي” ملك الا صندوقي لافتحه … ولم اترك سامي الفهري يفتحه لاني كنت متأكد انه يحتوي على .. شلاكة … وخلافا لكل قواعد ولد الفهري قررت ان لا اُتمّ اللعبة وان انسحب ..نعم قرّرت الانسحاب من الحياة ..وماذا انتظر من هذه الحياة التي اكّدت انّي لا استحقّها؟ ..لم ادر وقتها ولم ادر لحد يوم الناس هذا هل كنت جبانا ام شجاعا في اتّخاذ مثل ذلك القرار ..لأن الانتحار عندي هو في نفس الان قمّة الشجاعة وقمّة الجبن ..طبعا دون تحليل الفكرة دينيّا لأن الواعز الديني انذاك لم يُولد بعد ..وصعدت المدرج …يجب ان اضع حدّا لحياة لا حياة فيها ..عُلوّ المنزل كان كفيلا بتفتيتي شظايا ..هيّا عبدالكريم ..انت لا تستحقّ الحياة ..

ووصلت الى سطح المنزل ..والقيت نظرة على المكان الافضل الذي سيستقبل جُثّتي ..انها الفيراندا القبليّة .. واتجهت ثابت الخطوة نحوها …ووقفت وقفة مودّع واقتربت من خطّ القفز ..لست ادري لماذا لم اُسرع في الارتماء ..ربّما هو الخوف ..ربّما هو قدر لم انتظره ..ربّما هو شيء لا استطيع تفسيره .وقفت على رجل واحدة على الحائط القبلي للمنزل ..لم ارتجف، لم يختلّ توازني .. ولم اعد اشعر بأي شيء ..اغمضت عينيّ واطلت اغماضهما ..ولم افتحهما حتى وانا اسمع الباب الخارجي يُفتح ..نعم هنالك قادم ..هل هي اختي عادت من قضاء حاجياتها ..؟؟ هل هو احد ابنائها عائد من مدرسته ..؟؟هل هو جار من الجيران ..؟؟ ولم افق الا على صوتها … انّها عيادة ومن غيرها …اشبيك يا وليدي اش تعمل غادي …؟؟؟ هل فهمتم ما معنى “اقدااااااااااااااااااااااااار ” ؟؟؟

المثل يقول (قلب المومن خبيرو) وعيّادة قلبها خبيرها ..حكت لي فيما بعد انّها احست بوجع بداخلها عبّرت عليه بـ” قلبي اتنقرص تنقريصة وحدة” … فلبست سفساريها وخرجت تبحث عنّي وحملتها ساقاها الى منزل ابنتها الكبرى لا تدري كيف ولماذا ولكن قلب عيّادة خبيرها …عندما سمعت صوتها وهي تسأل ماذا افعل هناك .. ابتعدت قليلا عن خط الارتماء وجثوت على ركبتي ..لم ادر وقتها ما سأردّ عليها …ولم احس بي الا وهي بجانبي واجمة تبحث عن تفسير لوجودي في ذلك المكان …لم اشأ اخبارها بقراري ..كنت خائفا عليها من تجذّر الفكرة في داخلها وذلك يعني القضاء نهائيا عن امنها وامانها الدّاخليين والى الابد، تجاه ردّ افعالي في اي حدث او حادث بسيط ..قد يحدث يوما ما ..ويستحيل ان تمّحي من ذاكرتها فكرة محاولة الانتحار ..وهذا يعني انّها لن ترتاح يوما ولن تهنأ براحة البال ..

قلت لها فادد وحبّيت نشم شويّة هواء …هل صدّقت ..؟؟ لا ادري ..هل حفظت الدرس معي ولم تعد تلك “الڨرڨارة” واصبحت تكتفي بقليل الكلام ..؟؟ لا ادري ..كل ما ادريه انها وفي ذروة الالم الذي عاشته نتيجة خيبتي همهمت بكلمات مقتضبة ( يا وليدي اش نعملو موش كاتبتلك الباك ..المهم تعيشلي …يخخي اللي ما خذاوش الباك ماتوا ..؟؟_ تكبر وتخدم وتولّي سيد الرجال ونفرح بيك وبصغيّراتك)… لم اشأ بل لم استطع الردّ “بلعت السكّينة بدمها” ونزلت من مسرح الجريمة …

الايام التي توالت لم تختلف عن سابقاتها فقط انقرضت فكرة الانتحار نهائيا من داخلي .. بل واصبحت مرة اخرى شديد التقريع لذاتي لما عزمت عليه ..ليس حفاظا منّي على حياتي ابدا ..بل حفاظا على عيّادة ..كنت يوميّا اجلد نفسي جلدا داعشيا لا رحمة فيه ..كيفاش يا مكبوب السعد تفكر في الرحيل ..؟؟؟ وعيّادة ماذا ستفعل بعدك ..وانت كل املها، كل معنى لوجودها كل الاوكسجين، الذي تتنفّسه .؟؟؟… هذا “كفوها” ؟؟؟ تدفنها وعيتها حيّة . ؟؟؟ .يلعن جد بو والدين الراتسة متاعك .. وكنت اقول لها يوميا دون ان اقول …يا عيّادة لن اتركك ..لن اخذلك ..لن افعلها ..ومن اجلك فقط يا غالية الغاليات …

كانت الاجواء رتيبة جدا ..حاولت الشلّة ان تحيطني برعايتها لرفع معنوياتي وبحذر ..لانهم يدركون جميعا اني افضّل في حالات تعاستي ان اصمت وان اطلب من الاخرين الصمت …. لم اعد عبدالكريم صانع الاجواء بينهم ..كنت معهم جسدا دون روح ..وكان سي المبروك اكثرهم لوعة وحرقة على ولده كُريّم ..وكان اذكاهم ..لم يفاتحني في الامر بتاتا ..وحتى اسلوبه في التّعامل مع سجائري كان في منتهى الكياسة ..ينتظرني عندما اقف بائعا لڨليباتو وحميصاتو ويدسّ خفية “باكو المنته” في احد جيوبي ..وعندما احسّ بصنيعه وانظر اليه بكثير من الحياء وعزّة النفس كان يردّ وبكل صدق وايجاز: ما تقللي شيء ..راك ولدي …وللامانة وجدت في حانوته ملاذا لي اقضّي به يومي بعيدا عن الشلّة لسببين: اوّلهما انّي كنت غير قادر على الاشتراك معهم في عبثهم وجنونهم …وثانيهما اردت ان ابتعد عنهم حتى لا افسد عليهم اجواءهم وانغّص شيخاتهم وانا التائه المهموم …

ذات يوم وانا في حانوت سي المبروك اقبل ساعي بريدنا (سي علي غربال) ليحمل لي برقيّة ..برقيّة ؟؟؟ من اين ..؟؟ ومن انا حتى تأتيني برقيات ..؟؟ وسألت: هذي ليلي انا سي علي ..؟؟ … اجاب لا لا لامّي ..يخخي ما تعرفش تقرا؟ ..اوكي باسمك ..واضاف كعادته: ملاّ شكشوكة ! ومضى ..فتحت البرقيّة على عجل وقرأت: السيد فلان الفلاني(اسمي ولقبي طبعا) انت مدعو لاجراء مناظرة تابعة للاذاعة والتلفزة التونسية يوم كذا على الساعة كذا بالمعهد الفني بتونس …؟؟؟ كيف حدث هذا ..؟؟ لماذا اختاروني لاجراء هذه المناظرة ..؟؟ هل هم يرسلون هذه البرقيات للفاشلين امثالي ..؟؟ ولماذا انا بالذات .؟؟؟

لم افهم شيئا ممّا حدث ..وهرعت الى صديق عمري ابثّ له الخبر ..ضحك وقال ..لم اشأ اخبارك ..اما الان وقد وصلتك البرقية فلعلمك ان اخي عبدالحميد والذي فشل في الباك مثلك …نقّب في الجارئد وخاصة في عروض الشغل والتشغيل ووجد اعلانا من دار الإذاعة فارسل طلبين واحدا باسمه والثاني باسمك ..ولقد وصلته برقيّة امس باسمه ولم يشأ اخبارك وهاهي برقيّتك تصل اليوم ….اقداااااااااااااااااااااااااااااااار .. وجاءني اخوه عبدالحميد منشرحا جدا للخبر، فعلّقت بمثل شعبي وقلت: خويا عبدالحميد لو كانو فالح راهو جا من البارح _… تدخّل رضا وبكل حزم وصرامة : تمشيو وتعدّيو المناظرة خاسرين حاجة؟ ..ما عندكش فلوس نعطيك، المهم فرصة ما تتفلتش _ …ثم اضاف: هذي ما تناقشنيش فيها ..وكان تحب نمشي معاكم . نمشي ..

في تلك اللحظة لم يكن القرار جاهزا بداخلي ..فآثار النكسة لم تندمل بعد …الا انّ رضا اضاف: انت طول عمرك مغروم بالاذاعات والسينما والتلفزة ..اشكون يعرف بالكشي تخطف … ويزّي من (تيييت) متاعك …. صدقا وبعنادي ونرجسيّتي وراسي الكبير لم يؤثّر فيّ منطق رضا كثيرا ..تعوّدت ان آخذ وحدي جلّ القرارات في حياتي ..رغم يقيني ان طرحه للامر منطقي جدا ..ولكن و في تلك الظروف النفسية المعتلّة كنت احس بانّي وحدي الذي يجب ان اصنع مصيري ..عبدالكريم ولد الزناتي اتهزم يا رجّالة، نعم ..ولكن عبدالكريم لم يمت ويجب ان يقاوم ويجب ان يّقرر ولا يترك مصيره حتى لاقرب واوفى الاصدقاء .ربّما هو ردّ اعتبار لا شعوري لذاتي ..او هو ربّما اختصره في: قد انهزم ولكن لا اموت …

اعلمت العائلة بوصول البرقية ..ولئن استبشر الجميع بالخبر فان عيّادة عبّرت عن ذلك باحتراز …واضافت: .زعمة دعوة هاكي المرا االي قالتلك بعد ما غششتها وما خليتهاش تسمع كسوديّة (برّة يجعلك تطلع تخدم في الاذاعة) طلعت دخان للسماء ..؟؟ امي وكسائر الامّهات انذاك تتمنى لولدها رتبة لا تقلّ عن الطبيب او المهندس وفي اسوأ الحالات استاد (بالدال وليس بالذال) لذلك بقدر فرحها بالبرقية والتي ستّخرج ولدها من حالة الضّياع، بقدر خيبتها في ان ولدها سيدخل للاداعة (مرة اخرى بالدال) والتي كانت تعني في تلك الحقبة بؤرة فساد … واولاد العايلة ما هياش متاعهم …ووجدتني اجلس مع نفسي لاُقرّر …انا ابن شعبة آداب والمسالك لامثالي منحصرة اما في الاداب العربية او التاريخ والجغرافيا او الحقوق … وحتى ان قُدّر لي النجاح فحسب امكانياتي الدراسية… فكلّية الاداب هي الافضل بالنسبة لاختصاصي العربية رغم اني صاحب الستّة على عشرين في الباك …قلت في نفسي بعد هذا التمحيص(بوزيد مكسي بوزيد عريان .. خاسر حاجة انا؟ نمشي نبدّل الجو اقلّ شيء ..ومولاها ربّي) …

سافرت قبل يوم من اجراء المناظرة الى تونس صحبة عبدالحميد … وبات كل واحد منّا عند اصدقاء له ..والتقينا في الغد صباحا امام المعهد الفني … لم تكن المرة الاولى التي ازور فيها تونس… زرتها سابقا مرّات عندما كان والدي يشتغل بنّاء هنا وهناك ..والفضل يعود اليه اني زرت عدة مناطق وانا تلميذ في الابتدائي انطلاق من “بوجربوع” وهي منطقة ليست بالبعيدة عن صفاقس ولكنها في ذلك الزمن كانت خرجة … وانا الذي لم يكد يفارق الحوش ولا حضن امّي …كانت مغادرة الحوش لمدة نصف شهر اثناء عطلة الصيف مع والدي وهو يشتغل في المرادم لصنع الفحم… وكانت عيادة ايدها على قلبها …فكيف لصغير مثلي ان يقطن في اماكن شبه خالية ..؟؟ وهل تطمئن لوالدي عليّ ؟؟… ثم كانت خرجتي الثانية نحو جرزونة من ولاية بنزرت في عمر متقدّم دون نسيان تونس العاصمة في مناسبات …

يومها وامام المعهد الفني بدأت جحافل المشاركين في المناظرة تتوافد ..عشرات ثم مئات ..ما هذا يا هذا …؟؟؟ ثم وبوسائلنا اكتشفنا ان المستويات الدراسة تترواح بين تلاميذ الباك المنكوبين امثالي لتصل حتى الثانية جامعة ..ثم وعلى مسمع منّي جلّهم يجنڨلون باللغة الفرنسية فتحسبهم احفاد موليير … ورغم ذلك كنت يومها “جومونفوتيست”… لم اعر اي اهتمام لهذه المستجدّات … ربّما هو الفشل الذي مازال يسكن اعماقي والذي خدّر فيّ الاحساس بهول الاشياء فالشاة لا يهمّها سلخها بعد ذبحها ..او هو شعاع بسيط بدأ يسري في داخلي ويمكن حوصلته في (يوجد في النهر ما لا يوجد في المحيطات) …

دخلت قاعة الامتحان وكان يومها يتمثّل في تحليل فيلم بعد مشاهدته ..وممّا اعطاني شحنة معنوية مفصليّة بالنسبة لي حرّية التحرير باللغتين .. شاهدت الفيلم وحللته باللغة العربية طبعا وسلّمت ورقتي وخرجت ..في بهو ساحة المعهد تحلّق المشاركون في المناظرة حول شخص قصير القامة وديع بحق (وليس كوديع الجريء!) ..تسللت اذني من وراء المحلّقين لاستمع الى حديثهم ففهمت اّّولا انه مهندس يشتغل في التلفزة التونسية، وانه مسؤول اداري عن تلك المناظرة ..وسمعت وهو الاهمّ ان العدد المطلوب للناجحين لا يتجاوز الثلاثين …في حين تقدم 700 ونيف لاجتياز المناظرة ..

التلفزة التونسية انذاك كانت في عامها الرابع ..والمدارس المختصة في تكوين التقنيين (مونتاج وتصوير ومساعدة على الإخراج وكتابة إخراج) غير موجودة تماما وقتها في تونس… فكان عليها كل سنتين ان تفتح الباب بمثل هذه المناظرات لتكوين تقنييها بمركز تابع لها بنهج بيكلار و على امتداد سنتين ..سنة ونصف نظريا و6 اشهر تطبيقيا …وتلك السنة كانت المناظرة لاستقبال الدفعة الثانية …تلك كانت الاخبار المستقاة من سي عمر ذلك المهندس الشاب …لست ادري لماذا لم تزلزلني اخباره .. خاصة المتعلقة بعدد الناجحين والذي كما اسلفت لا يزيد عن الثلاثين …

وعدت الى صفاقس ..وعدت الى حانوت سي المبروك …وكان عليّ ان اشتري يوميا جريدة” “لابريس” التي ستُعلن فيها نتيجة المناظرة … وهاهي الاقدار مرّة اخرى تُدلي بدلوها ..صديقي عبدالحميد الذي ارسل الطلبين لم ينجح وعبدالكريم نجح! …ولكن لم ينته الامر بعد .. الذين نجحوا عددهم يفوق الثلاثين بكثير فما الامر ..؟؟ في نفس عدد لابريس لذلك اليوم وُجّهت دعوة إلى الناجحين للحضور يوم كذا لاجراء الامتحان الشفاهي …وها انا يومها امام ثلاثي مرعب ..مدير التلفزة والمدير التقني ومركب الافلام الرئيسي ..مرعب لانهم يحاورونني باللغة الفرنسيّة وانا “العيّل” الصغير في هذه اللغة كنت افهم احيانا بالحدس واجيب بالعربية …سألني احدهم: الا تُجيد الحوار بالفرنسية ..اجبته بأني خرّيج شعبة آداب كلاسيكيّة “أ ” وهذا يعني اني درست كل المواد بالعربية لذلك اجد صعوبة مع اللغة الفرنسية …

لم افهم بالضبط كيف تقبّلوا فكرة اني “ما نطشش برشة “انذاك بالفرنسيّة ..ولكن صدقا كنت مرتاح البال ..اتممت الامتحان الشفاهي الذي كان محوره ثقافة عامة وسينما ..وخرجت ..ووجدته دوما في بهو الطابق العلوي ينتظرنا ..انه سي عمر ذلك المهندس الشاب الوديع… سي عمر اشار علينا بعدم المغادرة لان نتائج الامتحان ستظهر نهائيا اليوم بعد اتمام الشفاهي ..وانتظرنا حتى الرابعة مساء …وخرج علينا سي عمر بالقائمة ..وعادت لذهني (سه سه) واعلان نتيجة الباك …الا ان غفوتي لم تدم طويلا ..لانه ما ان قال ساعلن عن اسماء الناجحين نهائيا في المناظرة حتى بدأ بعبدالكريم قطاطة ..ياه لا قوائم ولا سلاسل ولا ابجدية ولا هم ينقرضون …وحملت نفسي لست ادري كيف وطرت ولسان حالي يقول ..هاني جايك يا عيّادة …يااااااااااااااااااااااااه كما للخيبة زلازل فللانتصار براكين ….وقتها ربّما بدأت افهم ان الانسان دون زلازل وبراكين … شبه انسان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار