تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 36

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في حياة الواحد منا حياة لا تشبه الحياة في شيء …هي اشبه بموت حيّ او بحياة ميّتة ..تلك التي لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ..تلك التي يتحوّل فيها الانسان الى كتلة لحم متحرّكة تندثر فيها كل معاني الاحساس ..الاحساس بمن حوله … ولكن وهو الفظيع الاحساس بذاته .. انذاك يتحوّل الى لا شيء في مهبّ اللاشيء ..

عبد الكريم قطاطة

هكذا كنت انا في اليوم الثاني بعد فشلي في امتحان الباكالوريا ..”جهامة على الارض” … لست ادري اين حملتني ساقيّ يومها الا وانا اجد نفسي في منزل اختي الكبرى ..استقبلتني بكل برود ..ربّما هي تحاشت حتى النظر اليّ رفقا بحالي الكئيبة …وربّما هي موجوعة على اخيها ومن اخيها الذي لم يُشرّف العائلة ..تلك العائلة التي ضحّت بالنفس والنفيس حتى يرفع راسها بين افراد العشيرة ..لم يكن في منزلها احد ..كل اطفالها بمدارسهم وزوجها رحمه الله كعادته لا يعرف للراحة طعما .. منذ صغره كان يشتغل ليلا نهارا وهو يتيم الابوين ووحيدهما .. تجرّع طعم اليُتم منذ نعومة اظافره وعاش الميزيريا منذ طفولته فانقطع باكرا عن التعليم، وانخرط في بناء حياته بكل تفان ونجح نجاحا باهرا في تأمين عيشه وعيش عائلته ليصبح احد كبار صُنّاع الاحذية في صفاقس …وكلّ ذلك كان على حساب صحّته…

رحل ذات يوم الى فرنسا دون رجعة بعد ان فشل الاطباء في انقاذه اثر عمليّة زرع لاحدى الكليتين …ذهب راجلا الى باريس وعاد محتضنا تابوته …كان طوال حياتي الدراسية سندا لي لا مثيل له ..كان الاخ الاكبر الذي لم يتركني يوما في خصاصة ..وكان تماما كسي المبروك ..اصرف ولا يهمّك ..واذا استطعت يوما ارجاع المصاريف حبّذا والا “السماح بيناتنا” … وكنت كلّما مررت عليه في حانوته الّا واستقبلني بابتسامته الرقيقة وهو يقدّمني الى زملائه وحرفائه بكل فخر: “هذا نسيبي عبدالكريم” …وينبري في تعداد مآثري ويذكّرهم دوما بانّي اول غصن من آل قطاطة الذي نجح في دراسته …

يومها وجدتني بمنزل من خذلته ..يومها استأذنتني اختي في الخروج لقضاء شؤونها بالمدينة …دون تفاصيل اخرى .. وذهبت اختي ….وواجه عبدالكريم …عبدالكريم … كنت وما زلت قاسيا في مواجهة نفسي ..لا اذكر اني كنت رحيما معها ..وانهمرت عرائض اللوم والادانة ..ايّة حجّة يمكن ان ابرّر بها فشلي ..اوكي يا سي الشباب ..حطّمك الاستاذ الذي اصلح لك فرض العربية ..ولكن ماذا عن بقيّة المواد ؟؟؟ عاملّي فيها بطل وزعمة زعمة قرّيت معلّم وشايخين بيك زملاؤك والمتفقّد ..وبعد ..؟؟ الا تستحي من نفسك وأبوك يصرف عليك وانت في سن العشرين ..؟؟؟ الا تستحي من نفسك وأمّك تنتظرك لتراك يوما “هلال على روس الجبال” .؟؟ الا تستحي من نفسك وكل اترابك يعتبرونك نابغة فوق العادة…؟؟؟ انظر الى كشختك في المرآة ..ماذا تساوي انت الان ..رسبت في الاولى عديناهالك ..مازلت صغير وعدّيت عام طايش ..رسبت في الجزء الاول من الباكالوريا وقلنا “_”خيرها في غيرها” … ثم جاءت الفرصة الاخيرة كي تكفّر عن سيئاتك فاذا بك مفصول نهائيا عن الدراسة ..اذ ان النظام التربوي انذاك لا يسمح لأي تلميذ الرسوب باكثر من ثلاث مرّات طيلة المرحلة الثانوية ..

اذن وبعد فتح صندوق الباك ستتخلّى نهائيا والى الابد عن مبلغ قدره (الدراسة) ولم يبق في “دليلي” ملك الا صندوقي لافتحه … ولم اترك سامي الفهري يفتحه لاني كنت متأكد انه يحتوي على .. شلاكة … وخلافا لكل قواعد ولد الفهري قررت ان لا اُتمّ اللعبة وان انسحب ..نعم قرّرت الانسحاب من الحياة ..وماذا انتظر من هذه الحياة التي اكّدت انّي لا استحقّها؟ ..لم ادر وقتها ولم ادر لحد يوم الناس هذا هل كنت جبانا ام شجاعا في اتّخاذ مثل ذلك القرار ..لأن الانتحار عندي هو في نفس الان قمّة الشجاعة وقمّة الجبن ..طبعا دون تحليل الفكرة دينيّا لأن الواعز الديني انذاك لم يُولد بعد ..وصعدت المدرج …يجب ان اضع حدّا لحياة لا حياة فيها ..عُلوّ المنزل كان كفيلا بتفتيتي شظايا ..هيّا عبدالكريم ..انت لا تستحقّ الحياة ..

ووصلت الى سطح المنزل ..والقيت نظرة على المكان الافضل الذي سيستقبل جُثّتي ..انها الفيراندا القبليّة .. واتجهت ثابت الخطوة نحوها …ووقفت وقفة مودّع واقتربت من خطّ القفز ..لست ادري لماذا لم اُسرع في الارتماء ..ربّما هو الخوف ..ربّما هو قدر لم انتظره ..ربّما هو شيء لا استطيع تفسيره .وقفت على رجل واحدة على الحائط القبلي للمنزل ..لم ارتجف، لم يختلّ توازني .. ولم اعد اشعر بأي شيء ..اغمضت عينيّ واطلت اغماضهما ..ولم افتحهما حتى وانا اسمع الباب الخارجي يُفتح ..نعم هنالك قادم ..هل هي اختي عادت من قضاء حاجياتها ..؟؟ هل هو احد ابنائها عائد من مدرسته ..؟؟هل هو جار من الجيران ..؟؟ ولم افق الا على صوتها … انّها عيادة ومن غيرها …اشبيك يا وليدي اش تعمل غادي …؟؟؟ هل فهمتم ما معنى “اقدااااااااااااااااااااااااار ” ؟؟؟

المثل يقول (قلب المومن خبيرو) وعيّادة قلبها خبيرها ..حكت لي فيما بعد انّها احست بوجع بداخلها عبّرت عليه بـ” قلبي اتنقرص تنقريصة وحدة” … فلبست سفساريها وخرجت تبحث عنّي وحملتها ساقاها الى منزل ابنتها الكبرى لا تدري كيف ولماذا ولكن قلب عيّادة خبيرها …عندما سمعت صوتها وهي تسأل ماذا افعل هناك .. ابتعدت قليلا عن خط الارتماء وجثوت على ركبتي ..لم ادر وقتها ما سأردّ عليها …ولم احس بي الا وهي بجانبي واجمة تبحث عن تفسير لوجودي في ذلك المكان …لم اشأ اخبارها بقراري ..كنت خائفا عليها من تجذّر الفكرة في داخلها وذلك يعني القضاء نهائيا عن امنها وامانها الدّاخليين والى الابد، تجاه ردّ افعالي في اي حدث او حادث بسيط ..قد يحدث يوما ما ..ويستحيل ان تمّحي من ذاكرتها فكرة محاولة الانتحار ..وهذا يعني انّها لن ترتاح يوما ولن تهنأ براحة البال ..

قلت لها فادد وحبّيت نشم شويّة هواء …هل صدّقت ..؟؟ لا ادري ..هل حفظت الدرس معي ولم تعد تلك “الڨرڨارة” واصبحت تكتفي بقليل الكلام ..؟؟ لا ادري ..كل ما ادريه انها وفي ذروة الالم الذي عاشته نتيجة خيبتي همهمت بكلمات مقتضبة ( يا وليدي اش نعملو موش كاتبتلك الباك ..المهم تعيشلي …يخخي اللي ما خذاوش الباك ماتوا ..؟؟_ تكبر وتخدم وتولّي سيد الرجال ونفرح بيك وبصغيّراتك)… لم اشأ بل لم استطع الردّ “بلعت السكّينة بدمها” ونزلت من مسرح الجريمة …

الايام التي توالت لم تختلف عن سابقاتها فقط انقرضت فكرة الانتحار نهائيا من داخلي .. بل واصبحت مرة اخرى شديد التقريع لذاتي لما عزمت عليه ..ليس حفاظا منّي على حياتي ابدا ..بل حفاظا على عيّادة ..كنت يوميّا اجلد نفسي جلدا داعشيا لا رحمة فيه ..كيفاش يا مكبوب السعد تفكر في الرحيل ..؟؟؟ وعيّادة ماذا ستفعل بعدك ..وانت كل املها، كل معنى لوجودها كل الاوكسجين، الذي تتنفّسه .؟؟؟… هذا “كفوها” ؟؟؟ تدفنها وعيتها حيّة . ؟؟؟ .يلعن جد بو والدين الراتسة متاعك .. وكنت اقول لها يوميا دون ان اقول …يا عيّادة لن اتركك ..لن اخذلك ..لن افعلها ..ومن اجلك فقط يا غالية الغاليات …

كانت الاجواء رتيبة جدا ..حاولت الشلّة ان تحيطني برعايتها لرفع معنوياتي وبحذر ..لانهم يدركون جميعا اني افضّل في حالات تعاستي ان اصمت وان اطلب من الاخرين الصمت …. لم اعد عبدالكريم صانع الاجواء بينهم ..كنت معهم جسدا دون روح ..وكان سي المبروك اكثرهم لوعة وحرقة على ولده كُريّم ..وكان اذكاهم ..لم يفاتحني في الامر بتاتا ..وحتى اسلوبه في التّعامل مع سجائري كان في منتهى الكياسة ..ينتظرني عندما اقف بائعا لڨليباتو وحميصاتو ويدسّ خفية “باكو المنته” في احد جيوبي ..وعندما احسّ بصنيعه وانظر اليه بكثير من الحياء وعزّة النفس كان يردّ وبكل صدق وايجاز: ما تقللي شيء ..راك ولدي …وللامانة وجدت في حانوته ملاذا لي اقضّي به يومي بعيدا عن الشلّة لسببين: اوّلهما انّي كنت غير قادر على الاشتراك معهم في عبثهم وجنونهم …وثانيهما اردت ان ابتعد عنهم حتى لا افسد عليهم اجواءهم وانغّص شيخاتهم وانا التائه المهموم …

ذات يوم وانا في حانوت سي المبروك اقبل ساعي بريدنا (سي علي غربال) ليحمل لي برقيّة ..برقيّة ؟؟؟ من اين ..؟؟ ومن انا حتى تأتيني برقيات ..؟؟ وسألت: هذي ليلي انا سي علي ..؟؟ … اجاب لا لا لامّي ..يخخي ما تعرفش تقرا؟ ..اوكي باسمك ..واضاف كعادته: ملاّ شكشوكة ! ومضى ..فتحت البرقيّة على عجل وقرأت: السيد فلان الفلاني(اسمي ولقبي طبعا) انت مدعو لاجراء مناظرة تابعة للاذاعة والتلفزة التونسية يوم كذا على الساعة كذا بالمعهد الفني بتونس …؟؟؟ كيف حدث هذا ..؟؟ لماذا اختاروني لاجراء هذه المناظرة ..؟؟ هل هم يرسلون هذه البرقيات للفاشلين امثالي ..؟؟ ولماذا انا بالذات .؟؟؟

لم افهم شيئا ممّا حدث ..وهرعت الى صديق عمري ابثّ له الخبر ..ضحك وقال ..لم اشأ اخبارك ..اما الان وقد وصلتك البرقية فلعلمك ان اخي عبدالحميد والذي فشل في الباك مثلك …نقّب في الجارئد وخاصة في عروض الشغل والتشغيل ووجد اعلانا من دار الإذاعة فارسل طلبين واحدا باسمه والثاني باسمك ..ولقد وصلته برقيّة امس باسمه ولم يشأ اخبارك وهاهي برقيّتك تصل اليوم ….اقداااااااااااااااااااااااااااااااار .. وجاءني اخوه عبدالحميد منشرحا جدا للخبر، فعلّقت بمثل شعبي وقلت: خويا عبدالحميد لو كانو فالح راهو جا من البارح _… تدخّل رضا وبكل حزم وصرامة : تمشيو وتعدّيو المناظرة خاسرين حاجة؟ ..ما عندكش فلوس نعطيك، المهم فرصة ما تتفلتش _ …ثم اضاف: هذي ما تناقشنيش فيها ..وكان تحب نمشي معاكم . نمشي ..

في تلك اللحظة لم يكن القرار جاهزا بداخلي ..فآثار النكسة لم تندمل بعد …الا انّ رضا اضاف: انت طول عمرك مغروم بالاذاعات والسينما والتلفزة ..اشكون يعرف بالكشي تخطف … ويزّي من (تيييت) متاعك …. صدقا وبعنادي ونرجسيّتي وراسي الكبير لم يؤثّر فيّ منطق رضا كثيرا ..تعوّدت ان آخذ وحدي جلّ القرارات في حياتي ..رغم يقيني ان طرحه للامر منطقي جدا ..ولكن و في تلك الظروف النفسية المعتلّة كنت احس بانّي وحدي الذي يجب ان اصنع مصيري ..عبدالكريم ولد الزناتي اتهزم يا رجّالة، نعم ..ولكن عبدالكريم لم يمت ويجب ان يقاوم ويجب ان يّقرر ولا يترك مصيره حتى لاقرب واوفى الاصدقاء .ربّما هو ردّ اعتبار لا شعوري لذاتي ..او هو ربّما اختصره في: قد انهزم ولكن لا اموت …

اعلمت العائلة بوصول البرقية ..ولئن استبشر الجميع بالخبر فان عيّادة عبّرت عن ذلك باحتراز …واضافت: .زعمة دعوة هاكي المرا االي قالتلك بعد ما غششتها وما خليتهاش تسمع كسوديّة (برّة يجعلك تطلع تخدم في الاذاعة) طلعت دخان للسماء ..؟؟ امي وكسائر الامّهات انذاك تتمنى لولدها رتبة لا تقلّ عن الطبيب او المهندس وفي اسوأ الحالات استاد (بالدال وليس بالذال) لذلك بقدر فرحها بالبرقية والتي ستّخرج ولدها من حالة الضّياع، بقدر خيبتها في ان ولدها سيدخل للاداعة (مرة اخرى بالدال) والتي كانت تعني في تلك الحقبة بؤرة فساد … واولاد العايلة ما هياش متاعهم …ووجدتني اجلس مع نفسي لاُقرّر …انا ابن شعبة آداب والمسالك لامثالي منحصرة اما في الاداب العربية او التاريخ والجغرافيا او الحقوق … وحتى ان قُدّر لي النجاح فحسب امكانياتي الدراسية… فكلّية الاداب هي الافضل بالنسبة لاختصاصي العربية رغم اني صاحب الستّة على عشرين في الباك …قلت في نفسي بعد هذا التمحيص(بوزيد مكسي بوزيد عريان .. خاسر حاجة انا؟ نمشي نبدّل الجو اقلّ شيء ..ومولاها ربّي) …

سافرت قبل يوم من اجراء المناظرة الى تونس صحبة عبدالحميد … وبات كل واحد منّا عند اصدقاء له ..والتقينا في الغد صباحا امام المعهد الفني … لم تكن المرة الاولى التي ازور فيها تونس… زرتها سابقا مرّات عندما كان والدي يشتغل بنّاء هنا وهناك ..والفضل يعود اليه اني زرت عدة مناطق وانا تلميذ في الابتدائي انطلاق من “بوجربوع” وهي منطقة ليست بالبعيدة عن صفاقس ولكنها في ذلك الزمن كانت خرجة … وانا الذي لم يكد يفارق الحوش ولا حضن امّي …كانت مغادرة الحوش لمدة نصف شهر اثناء عطلة الصيف مع والدي وهو يشتغل في المرادم لصنع الفحم… وكانت عيادة ايدها على قلبها …فكيف لصغير مثلي ان يقطن في اماكن شبه خالية ..؟؟ وهل تطمئن لوالدي عليّ ؟؟… ثم كانت خرجتي الثانية نحو جرزونة من ولاية بنزرت في عمر متقدّم دون نسيان تونس العاصمة في مناسبات …

يومها وامام المعهد الفني بدأت جحافل المشاركين في المناظرة تتوافد ..عشرات ثم مئات ..ما هذا يا هذا …؟؟؟ ثم وبوسائلنا اكتشفنا ان المستويات الدراسة تترواح بين تلاميذ الباك المنكوبين امثالي لتصل حتى الثانية جامعة ..ثم وعلى مسمع منّي جلّهم يجنڨلون باللغة الفرنسية فتحسبهم احفاد موليير … ورغم ذلك كنت يومها “جومونفوتيست”… لم اعر اي اهتمام لهذه المستجدّات … ربّما هو الفشل الذي مازال يسكن اعماقي والذي خدّر فيّ الاحساس بهول الاشياء فالشاة لا يهمّها سلخها بعد ذبحها ..او هو شعاع بسيط بدأ يسري في داخلي ويمكن حوصلته في (يوجد في النهر ما لا يوجد في المحيطات) …

دخلت قاعة الامتحان وكان يومها يتمثّل في تحليل فيلم بعد مشاهدته ..وممّا اعطاني شحنة معنوية مفصليّة بالنسبة لي حرّية التحرير باللغتين .. شاهدت الفيلم وحللته باللغة العربية طبعا وسلّمت ورقتي وخرجت ..في بهو ساحة المعهد تحلّق المشاركون في المناظرة حول شخص قصير القامة وديع بحق (وليس كوديع الجريء!) ..تسللت اذني من وراء المحلّقين لاستمع الى حديثهم ففهمت اّّولا انه مهندس يشتغل في التلفزة التونسية، وانه مسؤول اداري عن تلك المناظرة ..وسمعت وهو الاهمّ ان العدد المطلوب للناجحين لا يتجاوز الثلاثين …في حين تقدم 700 ونيف لاجتياز المناظرة ..

التلفزة التونسية انذاك كانت في عامها الرابع ..والمدارس المختصة في تكوين التقنيين (مونتاج وتصوير ومساعدة على الإخراج وكتابة إخراج) غير موجودة تماما وقتها في تونس… فكان عليها كل سنتين ان تفتح الباب بمثل هذه المناظرات لتكوين تقنييها بمركز تابع لها بنهج بيكلار و على امتداد سنتين ..سنة ونصف نظريا و6 اشهر تطبيقيا …وتلك السنة كانت المناظرة لاستقبال الدفعة الثانية …تلك كانت الاخبار المستقاة من سي عمر ذلك المهندس الشاب …لست ادري لماذا لم تزلزلني اخباره .. خاصة المتعلقة بعدد الناجحين والذي كما اسلفت لا يزيد عن الثلاثين …

وعدت الى صفاقس ..وعدت الى حانوت سي المبروك …وكان عليّ ان اشتري يوميا جريدة” “لابريس” التي ستُعلن فيها نتيجة المناظرة … وهاهي الاقدار مرّة اخرى تُدلي بدلوها ..صديقي عبدالحميد الذي ارسل الطلبين لم ينجح وعبدالكريم نجح! …ولكن لم ينته الامر بعد .. الذين نجحوا عددهم يفوق الثلاثين بكثير فما الامر ..؟؟ في نفس عدد لابريس لذلك اليوم وُجّهت دعوة إلى الناجحين للحضور يوم كذا لاجراء الامتحان الشفاهي …وها انا يومها امام ثلاثي مرعب ..مدير التلفزة والمدير التقني ومركب الافلام الرئيسي ..مرعب لانهم يحاورونني باللغة الفرنسيّة وانا “العيّل” الصغير في هذه اللغة كنت افهم احيانا بالحدس واجيب بالعربية …سألني احدهم: الا تُجيد الحوار بالفرنسية ..اجبته بأني خرّيج شعبة آداب كلاسيكيّة “أ ” وهذا يعني اني درست كل المواد بالعربية لذلك اجد صعوبة مع اللغة الفرنسية …

لم افهم بالضبط كيف تقبّلوا فكرة اني “ما نطشش برشة “انذاك بالفرنسيّة ..ولكن صدقا كنت مرتاح البال ..اتممت الامتحان الشفاهي الذي كان محوره ثقافة عامة وسينما ..وخرجت ..ووجدته دوما في بهو الطابق العلوي ينتظرنا ..انه سي عمر ذلك المهندس الشاب الوديع… سي عمر اشار علينا بعدم المغادرة لان نتائج الامتحان ستظهر نهائيا اليوم بعد اتمام الشفاهي ..وانتظرنا حتى الرابعة مساء …وخرج علينا سي عمر بالقائمة ..وعادت لذهني (سه سه) واعلان نتيجة الباك …الا ان غفوتي لم تدم طويلا ..لانه ما ان قال ساعلن عن اسماء الناجحين نهائيا في المناظرة حتى بدأ بعبدالكريم قطاطة ..ياه لا قوائم ولا سلاسل ولا ابجدية ولا هم ينقرضون …وحملت نفسي لست ادري كيف وطرت ولسان حالي يقول ..هاني جايك يا عيّادة …يااااااااااااااااااااااااه كما للخيبة زلازل فللانتصار براكين ….وقتها ربّما بدأت افهم ان الانسان دون زلازل وبراكين … شبه انسان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

حرب عالمية… تجارية، دون ذخيرة حيّة… على الأبواب!

نشرت

في

محمد الأطرش:

يتساءل الجميع اليوم عن حجم ردود الفعل العالمية المنتظرة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن هيكل تعريفي جديد للولايات المتحدة في “يوم التحرير الثاني”… وهي التسمية التي أطلقها ترامب على يوم الثاني من أفريل من هذه السنة، ترامب يعتبر ذلك اليوم ثاني أهمّ يوم في تاريخ الماما بعد اعلان استقلالها يوم 4 جويلية من سنة 1776 …

يرى ساكن البيت الأبيض أن الإجراءات التي أعلن عنها يومها ستعيد الحياة للعصر الذهبي لأمريكا، وستجدد من استقلالها حسب رأيه… ولسان حاله يقول انه لم يجد حلاّ لمشاكل الماما الاقتصادية غير فرض ضرائب على دول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية والبرازيل والهند والصين واليابان وكندا والمكسيك والعديد من الدول الأخرى، رغم أنه يدرك جيّدا ان أغلب هذه الدول ستعامله بالمثل وقد لا تخرج الماما من الازمة الاقتصادية بالسهولة التي يتصورها… فدول الاتحاد الأوروبي تسعى لتكوين جبهة موحدة في الأيام المقبلة لتقف في وجه ما قرره ترامب… ومن المحتمل أن يتم الاتفاق حول مجموعة أولى من الإجراءات المضادة تستهدف واردات أمريكية تصل قيمتها إلى 28 مليار دولار…

 هذا التحرك المنتظر يعني بالتأكيد انضمام الاتحاد الأوروبي إلى الصين وكندا في فرض تعريفات ردعية انتقامية على الولايات المتحدة في تصعيد مبكّر لما يخشى البعض أن يتحول إلى حرب تجارية اقتصادية عالمية… والخوف كل الخوف أن ترتفع تكلفة الآلاف من السلع لأغلب سكان المعمورة مما قد يدفع أغلب الاقتصادات حول العالم إلى الركود.

وتهدف الجبهة التي يسعى الاتحاد الأوروبي لتكوينها إلى الخروج برسالة موحدة تعبر عن النيّة والرغبة في التفاوض جدّيا مع ساكن واشنطن لإزالة التعريفات… مع التلويح بالاستعداد الدائم للمعاملة بالمثل والرد بإجراءات جمركية ثأرية مضادة، إن فشلت هذه المفاوضات في إزالة التعريفات الجديدة التي يريد ترامب فرضها على الجميع أو في التخفيض منها… ومن بين المنتجات التي حظيت باهتمام الجبهة الأوروبية الموحدة وأثارت قلق الرئيس ترامب، فرض رسوم جمركية جديدة على “البوربون” الأمريكي (الويسكي) بنسبة قد تصل إلى 50%… وهو الأمر الذي جعل ترامب يهدّد برسوم نسبتها 200% على النبيذ والشمبانيا وغيرهما من المنتجات الكحولية من فرنسا وإيطاليا وغيرهما من دول الاتحاد الأوروبي.

تغطي التعريفات الجمركية الجديدة التي فرضها ترامب على الاتحاد الأوروبي حوالي 70% من صادراته نحو الولايات المتحدة… وقد بلغت قيمتها الإجمالية 532 مليار يورو (585 مليار دولار) العام الماضي، مع احتمال فرض رسوم أخرى على العديد من الصادرات الاخرى في المستقبل إن تعنتت الجبهة الأوروبية وردّت بالمثل… وتفيد بعض المصادر ان المفوضية التي تنسق السياسات التجارية للاتحاد الأوروبي قد تكون اقترحت على أعضائها قائمة بالمنتجات الأمريكية التي يجب ان تخضع لرسوم جمركية إضافية، ردّا على ما فرضه ترامب من تعريفات جديدة على الصلب والألومنيوم بدلاً من الرسوم المتبادلة… ومن المتوقع أن تشمل هذه المنتجات اللحوم الأمريكية، والحبوب، وغيرها من المنتجات التي قد تثير قلق ترامب…

وبالعودة إلى تاريخ الصراعات التجارية التي شهدها العالم، يذكر جميعنا انهيار سوق الأسهم سنة 1929 والإجراءات الحمائية التي تبعته وما وقع في السنوات التي تلته… فقد تمّ القضاء على ثلثي التجارة العالمية إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت عن تخفيض الولايات المتحدة لجميع التعريفات الجمركية على أي شريك تجاري سيقوم بالمثل… لذلك لا يمكن تجاهل حدوث انخفاض حاد في التجارة العالمية لو تعنّتت جميع الأطراف وواصلت سياسات الردّ بالمثل وعدم العودة إلى رسومات جمركية يقبل بها الجميع …

لكن في هذه الحرب التجارية الطاحنة، لكن هل فكّر ترامب وخصومه في “كيف سيكون حال الدول الفقيرة وشعوبها؟؟” فأغلب الشعوب التي قد تتضرر مما اقدم عليه الرئيس ترامب عانت من أزمة 2008 ولم تخرج من اسقاطاتها وتبعاتها إلى يومنا هذا… وبعضها انهارت اقتصاديا بعد سنوات الكوفيد ولم تخرج إلى يومنا هذا من وجعها ومعاناتها… لذلك علينا ان لا ننسى أن أكبر الخاسرين هم أغلب دول إفريقيا وجنوب شرقي آسيا وبعض دول الشرق الأوسط التي لا تعيش على ما يجود لهم به باطن الأرض… فما يفعله اليوم ترامب وخصومه بالشعوب الفقيرة يعتبر جريمة وطوفانا مدمرا لاقتصاداتها فأغلب هذه الدول تعيش على التسوّل وقروض صندوق النقد الدولي ومساعدات البنك الدولي…

ترامب لم يفكّر في مصير شعوب الدول الفقيرة بل فكّر فقط في إصلاح اختلال ميزان الماما التجاري… ونسي اختلال الميزان التجاري لدول لا يفوق اقتصادها اقتصاد مدينة من مدن أفقر ولاية من ولايات الماما… فهل يزحف الركود التجاري والاقتصادي إلى اغلب دول العالم بما اتاه ترامب بشطحاته الغريبة؟؟ وهل يعود الجميع إلى العقل، أم أن حلقة تصعيد إضافية ستفتح؟؟… ويصل بنا الأمر إلى حرب عالمية تجارية قد تكون …تبعاتها أخطر من كل الحروب التي عرفها العالم؟؟

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 113

نشرت

في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد الكريم قطاطة:

من طباعي منذ كنت شابا انّ الله وهبني نعمة الصبر على كل شيء… وكان العديد من اصدقائي يغبطونني على (دمي البارد)… وعندما هرعت الى الله تعمّقت في داخلي القدرة على تحمّل كلّ المشاكل ومخلّفاتها… قد اكون واحدا من سلالة ايّوب، ولكن… واذا فاض كأس الصبر كما غنّى شكري بوزيان… واذا علا صوت ام كلثوم بـ (ما تصبرنيش ما خلاص انا فاض بيّ وملّيت)… وتختمها بـ(للصبر حدود يا حبيبي)… اردّ كأيّ بشر الفعل، لكنني كنت آخذ قراراتي ودائما باعصاب هادئة في ردّ الفعل…

عبد الكريم قطاطة

عندما اسرّت لي زميلتاي باذاعة الشباب بالحوار الذي دار بينهما وبين مديري سي عبدالقادر الله يرحمو… وفهمت انّ حدسي كان في محلّه بالشكّ في نواياه بعد الجلسة الصلحية مع زميلي الصادق بوعبان… تكسّر كأس الصبر… والكأس اذا تكسّر يستحيل لمّ شتاته…. ايقنت ان لا فائدة تُرجى من ايّ صلح بل وقررت ان تكون الحرب معه… اكاهو… وعليّ ان استعدّ لاوزارها… وليضحك كثيرا من يضحك اخيرا… انتهت السهرة الخاصة بتكريمي مع زميلتيّ وكانتا سعيدتين بها شكلا ومضمونا وعدت الى بيتي لاخطّط لحرب فعلية مع مديري…

وفي الصباح الباكر ذهبت لمكتبه… سلّمت عليه وسألته هل استمع الى حصّة التكريم البارحة… اجابني بالايجاب بل وشكرني على كلّ ما قلته في تلك السهرة… سالته باستعباط هل صدر منّي كلام او تعليق في غير محلّه لايّ كان؟.. اجابني: (ابدا ابدا، يخخي انت جديد عليّ نعرفك معلّم) … كنت جالسا فنهضت واقفا امامه واضعا كفّي يديّ على طاولة مكتبه وكأنّي تحوّلت من لاعب وسط ميدان الى مهاجم صريح وقلت له: (انا طول عمري كنت راجل معاك رغم كل الاختلافات والخلافات… ولم اقل في ظهرك كلمة سوء لكن وللاسف الذي حدث امس بينك وبين زميلتيّ في اذاعة الشباب ونُصحك اياهما بتغييري كضيف لهما اكّد بالدليل القاطع انّو بقدر ما انا كنت راجل معاك انت ما كنتش…..)

نعم هي كلمة وقحة ولكنّي قلتها لانّو فاض كاس الصبر… اندهش مديري منّي وانا اتلفّظ لاوّل مرّة بكلمة لا تليق به وقال لي: انت غلطت في حقّي راك.. قلت له: اعرف ذلك وانا جئت اليوم لاثبت لك اني ساعلن الحرب عليك ..ودون هوادة .. وصحّة ليك كان ربحتها وخرجتني قبل التقاعد مثلما قلت ذلك مرات عديدة، اما صحّة ليّ انا زادة كان خرجتك قبل التقاعد… وباش تعرف رجوليتي معاك ثمشي واحد يعلن الحرب على الاخر ويجي ويعلمو بيها ..؟؟ اذن اعتبرني من اليوم عدوّا لك ولكن ثق انّ الحرب بقدر ما ستكون شرسة بقدر ما ستكون من جانبي شريفة بمعنى ـ وربّي شاهد عليّ ـ لن الفّق لك ايّة تهمة لكن سافضح كلّ اعمالك)…

ولم انتظر اجابة منه… غادرت مكتبه وعزمت على التنفيذ… اتّصلت بالعديد من الزملاء الذين تضرروا من تصرفات مديري وسالتهم هل هم مستعدون للادلاء بشهادتهم كتابيا؟؟.. ولبّى العديد منهم طلبي… دون نسياني كتابة تقرير ل بكلّ ما حدث منذ قدومه على رأس اذاعة صفاقس… وللشفافية، كان هنالك ايضا تقرير على غاية من الاهمية وفي ثلاث ورقات كتبته احدى سكريتيراته وبتفاصيل مرعبة بعد ان ذاقت منه الويل… واعتقد انّ ذلك التقرير لعب دورا هاما في قرار اصحاب القرار…

اذن اصبح عندي ملفّ جاهز يحتوي على 30 ورقة ولم افكّر بتاتا في ارساله لا الى رئيس المؤسسة ولا الى ايّ كان… كان هدفي ان ارسله رأسا الى رئيس الدولة دون المرور عبر الرجل النافذ في الاعلام انذاك السيّد عبدالوهاب عبدالله الذي اعلم انه يكنّ لمديري ودّا خاصّا… وهذا يعني اذا يطيح بيه يبعثو لمؤانسة اهل الكهف (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)… وكم هو عدد الكلاب في حاشية الحكّام… لكن كيف يمكن لي ارسال الملفّ على الفاكس الشخصي للرئيس بن علي؟ ووجدت الحلّ (عليّ وعلى هاكة الناقوبة)… الناقوبة هي كنية لزميل يعمل في الصحافة المكتوبة وماشاء الله عليه في اجندا العلاقات… نعم مع الولاة مع الوزراء مع عدد لا يُحصى… تذكّرت وانا ابحث عمن يوصلني الى الفاكس الشخصي لرئيس الدولة…

تذكرت ذلك الناقوبة وتذكرت خاصة يوم زفافه… كنت يومها ممن حضروا حفل زفافه، خاصة انّ علاقتي به كانت من نوع علاقة الاستاذ بتلميذه… اذ هو ومنذ كان طالبا كان من مستمعيّ وعندما بدأ يخربش اولى محاولاته في الكتابة الصحفية مددت له يدي وشجعته … ولكن في اجندا العلاقات تفوّق الناقوبة التلميذ على استاذه… وللامانة حمدت الله على انّ اجندة العلاقات في حياتي سواء العامة او المهنية خلت من مثل اولئك الكبارات، هكذا يسمّونهم… ولكن وحسب ما عشته، قليل منهم من يستحق لقب الكبير…

يوم زفاف ذلك الناقوبة اشار اليّ من بعيد وهو بجانب عروسه كي اتوجّه اليه… توجهت لمنصة العروسين واقتربت منه فهمس في اذني (ماشي نوريك ورقة اقراها ورجعهالي) .. ومدّ اليّ تلغراف تهنئة لزفافه وبامضاء من؟… بامضاء زين العابدين بن علي… رئيس الجمهورية… الم اقل لكم انه باش ناقوبة ..؟؟ اذن عليّ به ليصل الملفّ الى الفاكس الشخصي للرئيس بن علي… بسطت له الفكرة وبكلّ برودة دم ووثوق اجابني: هات الملفّ وغدوة يوصل للرئيس وفي فاكسه الشخصي…

كان ذلك وسط شهر جوان ..ولم يمض يومان حتى هاتفني المرحوم كمال عمران المدير العام للقنوات الاذاعية ليقول لي: (يا سي عبدالكريم الملفّ الذي ارسلته للرئيس بن علي احاله لي شخصيا وكلفني بالقيام بابحاث مدققة مع جميع الاطراف وانت واحد منهم… ما يعزش بيك هذا امر رئاسي وعليّ تنفيذه)… اجبت على الفور: (وعلاش يعزّ بيّ؟.. ونزيد نقلك اكثر ما نسامحكش قدام ربّي اذا تقول فيّ كلمة سمحة ما نستاهلهاش)… وانتهت المكالمة وقام السيد كمال عمران رحمه الله بدوره كما ينبغي مع الجميع وللامانة ليست لي ايّة فكرة عن تقرير السيّد كمال عمران الذي ارسله للرئيس بن علي…

وما ان حلّ الاسبوع الاوّل من شهر جويلية حتى صدر القرار…ق رار رئيس الدولة باقالة السيّد عبدالقادر عقير من مهامه على راس اذاعة صفاقس وتعيين السيد رمضان العليمي خلفا له… يوم صدور القرار ذهبت الى مكتب سي عبدالقادر واقسم بالله دون شعور واحد بالمائة من خبث الشماتة… استقبلتني سكرتيرته زميلتي فاطمة العلوي ورجوتها ان تعلن للسيد عبدالقادر عن قدومي لمقابلته… خرج اليّ مديري الى مكتب السكرتيرة… سلّم عليّ ولم اتركه للضياع وقلت له : (انا ما اتيتك شامتا ولكن اتيتك لاقول لك انّ قرار اقالتك انا عملت عليه وانا الذي ارسلت الى الرئيس ملفا كاملا حول تصرفاتك ويشهد الله اني لم افترِ عليك بتاتا… الآن جئت لاودّعك ولأتمنى لك الصحة ولاقول لك انا مسامحك دنيا وآخرة…

عانقني سي عبدالقادر والدموع في عينيه وقال لي: (انت هو الراجل وانا هو اللي ما كنتش راجل معاك وربي يهلك اصحاب الشرّ)… غادرت المكان وتلك كانت الحلقة الاخيرة مع السيد عبدالقادر عقير رحمه الله وغفر له… سامح الله ايضا الشلّة التي عبثت بالمدير وبمصلحة اذاعة صفاقس وبالعديد من الزملاء… وهذه الفئة ذكرها الله في القرآن بقوله عنها (الملأ) ووُجدت في كل الانظمة عبر التاريخ وستوجد حتى يوم البعث… انها شلّة الهمّازين واللمازين والحاقدين والاشرار وخاصة ذوي القدرات المحدودة فيعوّضون عن ضعفهم وسذاجة تفكيرهم بنصب الفخاخ للاخرين وبكلّ انواع الفخاخ…

انهم احفاد قابيل…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 112

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في علاقتي بالاشخاص عموما كنت ومازلت اعطي اهمّية قصوى لنظرة العيون… لا ادّعي فراسة كبيرة في ذلك لكن ربما هو بعض مما جاء في اغنية الكبير محمد عبدالوهاب (حكيم عيون افهم في العين وافهم كمان في رموش العين)… طبعا مع بعض الاحتراز على كلمة حكيم…

عبد الكريم قطاطة

فقط نظرة العيون في مراحل عديدة من حياتي وفي علاقاتي كانت النافذة الاولى للتعرّف احساسا على ما تحمله تلك العيون من صدق او نفاق او من مواقف باهتة لا روح فيها… يوم التقيت مع زميلي وصديقي الصادق بوعبان ونظرت الى عينيه احسست بامرين… الاول انّ الصادق كان صادقا في إقدامه على محاولة الصلح بيني وبين مديري… والامر الثاني وهذا ما حدث بعد ذلك في اللقاء، انه اراد ان يكون محتوى لقائنا بعيدا عن التصعيد منّا نحن الاثنين… وقبل ان نجتمع رجاني (بالكشخي) قائلا: خويا عبدالكريم رجاء ما تصعّدش، وساقول نفس الشيء لسي عبدالقادر … اجبته: داكوردو اما بشرط انّو سي عبدالقادر يتحدّث عنّي باحترام ولا يفتري عليّ… طمأنني سي الصادق وذهب لمقابلة مديري في مكتبه قبل اللقاء الثلاثي…

بعد ربع ساعة تقريبا هاتفتني كاتبته في تلك الفترة (الزميلة فاطمة العلوي) بالقول: سي عبدالقادر يحبّ عليك في بيروه… فاطمة هي السكرتيرة الرابعة للمدير بعد ان قام بطرد ثلاث قبلها… وميزة فاطمة انها كانت تعمل مع رئيسها بكلّ انضباط واخلاص… وانا احترم هذه النوعية من السكرتيرات، وللامانة كذلك كانت سكرتيرتي وزميلتي سامية عروس بمصلحة البرمجة وزميلتي وسكرتيرتي نعيمة المخلوفي رحمها الله بمصلحة الانتاج التلفزي، كانتا في منتهى الوفاء والاخلاص لي رغم كلّ الاغراءات التي سلّطت عليهما ليكونا (صبابّة) لاعوان المدير …

دخلت مكتب المدير، صافحته بادب واحترام وبدا زميلي الصادق بخطابه متوجها لنا الاثنين… خطابه كان منذ البداية واضح المعالم ومبنيّا على عنصرين مفصليّين اولهما الاشادة بمحاسن كل واحد فينا وحاجة اذاعة صفاقس لكلينا… والعنصر الثاني تحاشي الجدال في كلّ ما وقع بيننا اذ لا طائل من ورائه… وكانت اخر كلماته وهو يتوجه لنا هل انتما مستعدان لطيّ ملفّ الماضي وفتح صفحة جديدة من اجل مصلحة الاذاعة لا غير؟.. وطلب مباشرة موقف مديري من رجائه كوسيط بيننا… سي عبدالقادر ودون تردّد كانت اجابته كالتالي: والقرآن الشريف ومنذ هذه اللحظة انا طويت صفحة الماضي وفتحت صفحة جديدة مع سي عبدالكريم… استبشر خويا الصادق بهذا الامر وقال لي: اشنوة رايك خويا عبدالكريم؟ صمتُّ للحظات وقلت: ارجو ذلك ان شاء الله…

لماذا كان ردّي مختصرا للغاية وفيه نوعا ما من الشكّ في ما قاله مديري ؟ اجيبكم… هل تتذكّرون ما قلته لكم في بداية الورقة حول نظرة العيون ؟؟ نعم كنت طوال الجلسة الثلاثية انظر واتفحّص جدا عينيْ مديري… نعم انّ بعض الظنّ اثم … ولكنّ نظراته لم تكن مُريحة وهو اقلّ ما يُقال عنها… تصافحنا جميعا وتمنّى لنا زميلي الصادق بوعبان تكليل محاولته الصلحية بالنجاح… وغادرت معه مكتب المدير وما ان ابتعدنا عن مكتبه حتى قال لي الصادق: علاش نحسّ بيك شاكك في نوايا سي عبدالقادر ؟ قلت له حدسي لم يرتح له وارجو ان يكون حدسي كاذبا…

ودّعت الصادق وذهبت الى مكتبي بوحدة الانتاج التلفزي… لم البث اكثر من ربع ساعة حتى اعلمتني سكرتيرتي نعيمة رحمها الله انّ منشطتين من اذاعة الشباب جاءتا لمقابلتي… استقبلتهما بكلّ حفاوة ويا للمفاجأة… اتضح أنهما مستمعتان ومراسلتان لعبدالكريم في برامجه منذ اكثر من 15 سنة… واليوم اصبحتا زميلتين في اذاعة الشباب… عبرت لهما عن سعادتي وفخري بهما وطفقتا تطنبان في فضلي عليهما حتى في اختيارهما لمعهد الصحافة وعلوم الاخبار بعد الباكالوريا تاثّرا بي وبرسالتي الاعلامية… وبلّغتاني تحيات بعض اساتذتهما لي وتقديرهم لمسيرتي المهنية (عبدالقادر رحيم، منصف العياري ، رشيد القرقوري، الصادق الحمامي…) وبعد يجي واحد مڨربع مللي قال فيهم المتنبي وهو يهجو ذلك الكافور المخصي (وقدره وهو بالفلسين مردود) ويقلك اشكونو هو عبدالكريم واش يحسايب روحو ؟؟ اي نعم هذا ما تبوّع به البعض عنّي… واقسم بالله اقول مثل هذا الكلام واخجل منكم جميعا لانّي لا احبّ والله ايضا لا يحبّ كلّ مختال فخور…

انا لم ادّع يوما انّي فارس زمانه الذي لا يُشقّ له غبار… لكن على الاقلّ اجتهدت وعملت ليلا نهارا وتعبت وكان ذلك في فترات طويلة على حساب زوجتي وعائلتي وارجو منهما ان يغفرا لي… وما قمت به في اذاعة صفاقس كان واجبي ولا انتظر عليه لا جزاء ولا شكورا… اما توجع وقت تجيك من انسان مديتلو اليد واحطت بيه ووقفت معاه وعلى مستويات عديدة وهو اصلا لم يصل الى مرتبة خُمُس منشط او هي لم تصل ثُمُن منشّطة، ويتجرّا يقول تي اشكونو هو عبدالكريم واعيد القول انا اوثّق للتاريخ لكن انا مسامحهم دنيا واخرة …

اعود للزميلتين من اذاعة الشباب طلبتُ منهما كيف استطيع خدمتكما في ما جئتما من اجله… ابتسمتا وقالتا جئنا من اجلك يا استاذنا… ولغة اعيُنهما كشفت لي عن حديث او احاديث لهما رايتها بقلبي قادمة في الطريق… ولم تخذلني مرة اخرى لغة العيون اذ عبّرتا عن سعادتهما بانّ ادارة اذاعة الشباب وافقت على سهرة خاصة من استوديوهات اذاعة صفاقس يقع فيها تكريم الاعلامي عبدالكريم قطاطة وموعد السهرة هو الليلة من العاشرة ليلا الى منتصف الليل… شكرت لهما حركتهما النبيلة معبّرا عن سعادتي وشرفي بنزولي ضيفا على مستمعتيّ… زميلتاي شكرتاني على كلّ شيء واستأذنتا الذهاب لمديري لشكره على منحهما استوديو وفنّيا لاتمام المهمة وودّعتاني على امل اللقاء في الموعد في الاستوديو… اي العاشرة ليلا لذلك اليوم …

الساعة انذاك كانت تشير الى منتصف النهار… كدت اغادر المكتب للعودة الى منزلي (واللي فيه طبّة عمرها ما تتخبّى، وين المشكل مادامني معروف عند مديري بعدم الانضباط في القدوم الى الاذاعة و في مغادرتها ؟؟ خاصة ونحن اليوم ومنذ سويعة ونصف بدأنا صفحة جديدة في علاقتنا… وبالقرآن الشريف زادة… لكن كان هنالك حبل سرّي خفيّ شدّني الى مقعدي في مكتبي… احسست بنوع من الانقباض لم ادر مأتاه… استعذت من الشيطان دون ان اغادر مكتبي… وماهي الا عشر دقائق حتى عادتا اليّ زميلتا اذاعة الشباب وعيونهما توحيان بامر ما قد حدث… كانتا واجمتين وصمتهما كان ثقيلا ايضا ولكنّه كان يحمل اشياء وسترون كم هي ثقيلة ايضا…

تقدّمت احداهما وهي ماسكة شجاعتها بيديها كما يقول المثل الفرنسي وسالتني… يخخي ما زلت متعارك مع سي عبدالقادر عقير مديرك ؟؟ قلت بهدوء وبكثير من الرصانة: لا في بالي توضحت الامور منذ هذا الصباح وطوينا صفحة الماضي ..وسالتهما: يخخي صارت حاجة بينكم وبينو توة وقت شفتوه ؟؟ نتبادلتا النظر وكأنّ كلّ واحدة تقول للاخرى (ايّا قللو اشنوة اللي وقع.. تي اتكلّم يا سخطة انا والله لتو لفهمت شيء)…تكلمت احداهما وقالت (شوف يا سي عبدالكريم انت عزيز علينا ومكانتك ما ياخذهاش لا سي عبدالقادر ولا غيرو… احنا طول عمرنا يستحيل ننساو فضلك علينا ولهذا نحكيلك شنوة اللي وقع بالضبط مع سي عبدالقادر… هو استقبلنا بكل حفاوة وترحاب وعندما اعلمناه بما نحن عازمتان عليه لتكريمك تغيّرت ملامح وجهه وسالنا يخخي لازم ضيفكم يكون سي عبدالكريم ؟ انا مستعد نوفرلكم اي منشط او منشطة عوضا عنه وانا راهو نحكي في مصلحتكم ومصلحة برنامجكم… انتوما تعرفو سي عبدالكريم من عيوبو انو سليط اللسان واشكون يعرف يقولشي حاجة او بوحاجة.. ويخليكم في ورطة… انا نعاود نقوللكم راني حريص انو برنامجكم يتعدّى من غير مشاكل…. فردّت عليه احداهما: احنا راهو جايين خصوصي لبرنامج الهدف منو تكريم استاذنا الاعلامي الكبير سي عبدالكريم اللي علّمنا فيما علّمنا تحمّل مسؤولية افعالنا وقراراتنا…

انذاك وحسب ما اضافته الزميلتان احسّ السيّد عبدالقادر عقير بخطورة ما قاله وكاّنه يقول اش عملت اش عملت… وفي رواية اخرى جمرة وطاحت في الماء، ولسان حاله يتساءل زعمة جيت نطبّها عميتها؟؟… ورجانا (تواصل الزميلة الشابة) ان لا نذكر لك ما حدث… تذكرتوها هاكي الخاتمة متاعو في لقائنا الصباحي وفي نفس يوم قدوم زميلتيّ من اذاعة الشباب مع الزميل الصادق بوعبان (والقرآن الشريف صفحة جديدة بداية من اليوم مع سي عبدالكريم)؟؟؟… ربي يسامحك ويغفرلك خويا عبدالقادر …

ومع مطلع جانفي 2025 اي غدا* ستكون الحلقة الاخيرة في الورقة 113 من حكاياتي مع مديري سي عبدالقادر . رحمه الله وغفر له كلّ شيء… و كتهنئة بحلول سنة 2025 ادعو للجميع بهذه الدعوة (الامن والامان لتونس العزيزة لفلسطين المحتلة وهي في قلب محنتها مع اعدائها من الداخل والخارج … لكلّ الشعوب الشقيقة والصديقة ولكلّ انسان لم يمُت في داخله الانسان ..الله لا يحرمكم من السلام الروحي في هذه السنة الجديدة… صدقوني انها من اعظم نعم الله)…

ـ يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المقال منشور لأول مرة في 31 ديسمبر 2024

أكمل القراءة

صن نار